السبت ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠١١
عبد الرحمن بن مساعد
بقلم فلاح جاسم

يجعلُ الشعرَ رَغيفاً سَاخناً

الدكتور: فلاح جاسم

عبد الرحمن بن مساعد جعل الشعر رغيفا ساخنا، في متناول الجميع، لم يكتب بترف، ويضع قلبه على الرفّ، تكادُ ترى عينيه اغرورقتا بالدمع حين تسمعه يُلقي قصائده، أو تقرأ ما كتب.. الشعر عنده ليس انعكاساً، أو توصيفاً حرفيا للواقع، لكنه إعادة صياغة للواقع من وجهة نظر إنسانية، نجده يقول في إحدى قصائده:

"قصيدي بلسم المجروح ونبض الناس iiأبياتي"

إذا هو لم يتخيل واقع الناس أو بؤسهم ويكتب عنه، وهو يعيش في قصر، أو ينظر من نافذة "الرولس رويس"،إنما شاهد الواقع بعينه، وعايشه. القصيد’ لدى عبد الرحمن بن مساعد عالم قائم بذاته، مصنوع بمهارة، وعاطفة صادقة، موضوعه في أغلب الأحيان الإنسان البسيط، المسحوق. عبد الرحمن بن مساعد يعيش في قصائده ويجعل القارئ يفعل الشيء ذاته. معظم شعراء النبط لا يعتنون بالأفكار، والمعاني بقدر عنايتهم بزي البيت الشعري، وما يحمله من لون أو غرابة، وقد أطلق الشاعر العراقي فوزي كريم على هذا مسمى (الزخرف)، لم يقع شاعرنا في هذا الفخ، ولم يغفل وزن البيت الشعري وإيقاع القصيدة ككل، لكنه ركزّ أكثر على حكائية القصيدة وعلى معناها، ولم يسجنه الشكل، معظم أبيات قصائده تلقائية، مدهشة نزعت زخرفها، وزينتها، ومسحت (أحمر شفاهها) متحدية القارئ كي يغوص في روحها، ويحبها كما هي، على طبيعتها، بدون رتوش، وأن يصبح جزءاً منها. في قصيدته "نـَحس" يتجلى لنا ذلك بوضوح، حيث يصور حالة شخص بائس فقير، طارده النحس حتى في جميع أحلامه، حتى أنك لا تستطيع التوقف عن قراءة القصيدة (القصة)، لتكتشف المفارقة العجيبة في نهايتها، وربما تضحك وأنت تبكي:

مسكين .. شين وفقير
وفي الدراسة حاول انه يستمر .. ومااستطاع
وضعه صعب ..ابوه مات وهو صغير
وماترك له الا الفقر .. وامه واخته .. والهم من فوقه وتحته
ومالقى لجل الهروب من الضياع .. الا انه يدور وظيفة .. أي وظيفة
ولقى من ضيقته مخرج .. وظيفة دخلها معقول .. يمشـّي الحال لو اعرج
ومرت سنة وسنين ..
والمسكين .. صارت كل آماله زواج
واتزاحمت في داخله الاسئلة ..
منهي اللي بتقبله ؟ .. وليه ؟
وفي يوم مامثله ابد .. شافها .. اجمل من اجمل مارأى
واضحكتله ... مستحيل !! ...اضحكتله
ومشت من اول الحارة .. ولحقها
وادخلت في بيت جاره ..
سأل عنها وعرف ... قنوعة واسمها سارة
تصير اخت لمرة جاره
ارسل لها اخته . تجس النبض
جت البشاير
راح لمه .. وفرحته كبر السما والأرض
وافقت !! . ابشرك يمه .. لقيتها يمه
سارة اخت حصة مرت منصور ..
ابيها وهي تبيني . وابغى منك الشور
خلاص يا يمه خلاص .. بقول لهمومي الوداع .. بقول لهمومي الوداع

قالتله امه:

يا ولدي .. بس هذي اختك في الرضاع

قصائد عبد الرحمن بن مساعد قريبة من مزاج ووجدان القارئ العربي بشكل عام، ولا ينحصر من يتذوق أدبه في منطقة الخليج، أو البيئة التي أطلق منها قصائده. حين تقرأ "هنا العراق"، لا يخالجك شكّ أنه من أبناء بغداد، وقد شبّ على حب دجلة، وقد عاش طفولته مابين الكـَرخْ والرصَافة، يسكب لك عاطفته بصدق، وشفافية.. يحملُ الهمّ العراقي، في وقت تخلـّى الكثير من العراقيين عن ذلك.. في كل ركنٍ

هُنَا العراقْ ..
في كل ركنٍ ..
حُرةٌّ تُسْبَى ..
وطفلٌ مُقعَدٌ ..
ودمٌ يُراق ْ..
هُنَا العراقْ ..
في كل بيتٍ ..
والدٌ يبكي ..
وأمٌّ تشتكي ..
ضَيْمَ الفراقْ ..
هُنَا الخيرُ العميمُ .. المستديم ُ ..
هُنَا الشعبُ الفقيرُ .. المستجيرُ ..ودمٌ يُراق ْ..

هنا عبد الرحمن بن مساعد سَيـّاب عصره... تتذكر السَيـّاب في قصيدته منزل الأقنان، وهو يصف الفقر، والفاقة، وضيق ذات اليد، والغزاة، و (الحُماة)، والطـُغاة:
هُنَا الطغاةُ على مَدى الأيام سادوا ..
هُنَا الغزاة على مَدى التاريخ بادوا ..
اليوم عادوا .. عانِقوهم ..
بشِّـروهم ..
هاهنا سيُقتَلون .. ويُخْنقون ..
من العِناق ..
هُنَا العراقْ ..
هُنَا الأمطارُ .. والأنهارُ ..
والأشعارُ ..
هُنَا الأفكارُ .. والأذكارُ .. والأقمارُ
هُنَا الكرامةُ .. والدناءة ُ .. والمودةُ ..
والتنافرُ ..والشقاقْ ..
هُنَا العراق ..
هُنَا الغناءْ .. هُنَا البكاءْ ..
وكربلاءْ ..
لا أعرف بن مساعد شخصيا، وربما لا يحضرني حصرَ ملامح وجهه لكنه أبكاني دموعاً حارة في هذا المقطع، لصدق كلمته وجمال إيقاعه، وحسن تصويره باحتراف.. جعلني أتجول في الجـَادرية، وسوق الصفارين، وشارع السعدون... أنا متأكد وأجزم أن عبد الرحمن بن مساعد بكى كثيرا عندما كتب هذه القصيدة.. حتى وإن لم يُصرح لقرائه أو لأصدقائه بذلك.
هُنَا الأحباب ْ .. هُنَا زريابْ ..
هُنَا السيّابْ ..
هُنَا الحجَّاج .. هُنَا هارون ..
ماأدراكَ ما هارون .. !
هُنَا المأمون .. هُنَا النوّاسُ .. من غيٍّ أَفَاقْ ..
تناصّ جميل في هذا المقطع، وظفه بن مساعد، لا لكي يتعالى على القارئ، أو المتلقي، لا ليعرض عضلاته الثقافية، بل ليستفزّ القارئ أو المتلقي، ويتحداه لمعرفة ما ذكر في قصيدته من أسماء.. وبذلك يثري ثقافته ويوسع معارفه..
هُنَا الثرواتُ تنسى الأغلبيّة ..
هُنَا الضَّحِكَاتُ من شرَّ البليّة ..
هُنَا الجيوشُ لأيِّ معركةٍ تُسَـاق ..
هُنَا جثمانُ أمتََّنا المجيدة ..
هُنَا دُفِنت مآثُرنا التليدة ..
هُنَا أمجادُ أمريكا الجديدة ..
هُنَا صار الخليجُ على الحديدة .. !
كلما قرأت مقطعاً من هذه القصيدة، لا أتخيل ابن مساعد إلا طالباً جامعياً شقياً في جامعة المُسْتنصرية ببغداد..

كما أسلفتُ، قصائده دائما تجعلك تحسّ بأن أبطالها أناس عاديون، قد تصادف أحدهم في الشارع حال الخروج من بيتك، يتصرفون بعفوية وتلقائية، وينقلون معاناتهم بألسنتهم، بدون لجان دفاع، أو مراسلي صحافة. نجد مثل هذا لدى الشاعر اللبناني بول شاؤول، والشاعر الكبير محمود درويش.

كل الأشياء في قصائد الشاعر عبد الرحمن بن مساعد تتحرك، وتعي ذواتها، حتى أثاث البيت لم يبقَ جامداً، بل يتحرك هو الآخر.. قصائده تجعلك تتلفت حولك إلى دقائق الأمور، لتعيش ذلك الجو، ليس كعادة شعراء النبط، حيث تكون القصيدة منفصلة الأجزاء مفتتة إلى جزئيات صغيرة، أو أبيات يكون الرابط بينها ضعيفا، في معظم الأحيان، حيث لا يختل المعنى إن حذفت منها شيئا، بعكس قصائد عبد الرحمن بن مساعد التي تذكرك بقصر الخَوَرنق الشهير، الذي بناه المعماري الفذ؛ سِنمّار للنعمان ابن المنذر، وقال للنعمان: إن هناك حجرا في زاوية القصر،لا يعلم مكانه غيري، لو أزلته من مكانه لتداعى القصر عن بكرة أبيه، فرماه النعمان من فوق القصر، ليلقى حتفه، ابن مساعد لا ينوي فعل ذلك، ويترك لقارئه الحرية إن عرف مكان الحجر أولاً، وإن استطاع إزالته ثانياً. يصور الإنسان وهو يحاول الخلود في حضن الطبيعة بعيدا عن عالم تقني صنعته (الحضارة)، ليعيش ذاته الحقيقية، وإنسانيته كطفل ينام على ركبة أمه، يتلذذ بأناملها وهي تمسح شعره.
عندما تقرأ قصيدة له، تستمر في ذلك مستسلما لإغراء أسلوبها، ثم بعد هنيهة تسقط فجأة في هاوية أبيات طويلة، على عكس المعتاد في شعر النبط، تحكي لك قصة طويلة، ثم تصعد بعد ذلك على جبال أبيات قصيرة، مسبوكة كلها بوعي قاص وشاعر متمكن، تستمر هذه التقنية البارعة، الواعية، التي لا تجعلك تفلت منها، إلا بعد قراءة القصيدة كاملة دون أن تشعر بالزمن، كما في قصيدته الرائعة؛ "مَجْلـِـس رجــال".
مواضيع قصائده واقع مُعاش، ليس متخيلاً أو مستورداً، على النقيض من شعراء نبط آخرين، قد تكون موضوعات قصائدهم مستجلبة، أو منتهية الصلاحية في معظم الأحيان، عفا عليها الزمن، وأكل، وشرب؛ كالمبالغة بالفخر بالقبيلة ومآثرها، وماضي الأهل التليد، وكأننا في العصر الجاهلي، حيث الجميع يجلس لا عمل لديه سوى ذلك.. أما واقع حالنا، إننا نعيش في عالم تغير فيه كل شيء، فالكل منهمك بالبحث عن وظيفة، يقتات منها، أو تجارة يعتاش عليها. على الرغم من بساطة مواضيع قصائده، وواقعيتها، ترى شخوصها عشرات المرات أمام ناظريك، لكن ربما لم تـُلق ِ لها بالاً، مثل مجموعة من البشر نسوا أنفسهم في مرقص، أو حَانة مغلقة، ينفثون الدخان، والنبيذ، والضجيج، والصياح سِمَة المكان، كما في قصيدة "كباريه":
هم يعزفون .. وما يعزفون في مكان تسمع فيه الناي قانون
ازعاج .. صجة .. دجة
ايقاع خليجي غالبا ً مقلوب
ايقاع خليجي دائما ً مطلوب
شباب .. بنات ترقص .. والعطر في اول الرقصة حلو ..
وفي آخر الرقصة هبوب
غناء وطرب .. عرض وطلب
واحد يغني .. بدلته تلمع .. يُـفترض فنان
ياليلة دانة لدان
قرقعت كيسان .. دخان .. ما اسعد الشيطان
ضوء خافت .. كل شي حلو والضوء خافت
كل شي كذب والضوء خافت

وفي اطرف الصالة .. هناك اثنين .. واحد يقول :
 " شفت هاذيك الطويلة اللي ترقص " ؟
الثاني - " وين؟ "
 " هاذيك اللي مع حسين "
" واعدتها البارحة وجتني .. مالومها حبتني ..اعطيتها ألفين "
" مسكينة هي .. ماودها تجلس في ملهى .. بس انها تساعد اهلها "
الثاني قال : " كل البنات اللي هنا تساعد اهلها "
عبد الرحمن بن مساعد مُصرّ على صفع المتلقي بعذوبة لا تجعله يتحسس خـَده ليرد بل، تجعله ينطرح أرضاً من الضحك، من المفارقة وذلك يذكرنا بشعر عبد الرحمن رفيع، وبالسخرية اللاذعة للشاعر الكبير أحمد مطر، التي تجعلك تضحك وسط الدموع، أو تضحك من تزاحم الأضداد كما يقول أبو العلاء المعري.
الدكتور: فلاح جاسم – جدة – المملكة العربية السعودية

الدكتور: فلاح جاسم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى