الثلاثاء ٢٢ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم المتوكل طه

غيمة النار

الى أبناء عمر المختار

قطراتُ الجمرة تحت البحر تتضور منذ الأزل المُبْهم، هي نطفة السلطان المخلوع، ليبقى على سرج الهتاف وسنابك النصر المثخن بالسباع الصرعى. رآها النسر فهوى مثل السهم النيزك، وبمنقاره الفدائي فثأ اللؤلؤة المحظوظة، فصعدت حتى بلغت السطح المجعّد، وكنتُ أطيش على زجاجي الرخو، فانسربت حتى دخلت الإبرة إلى نخاعي. فما بالي أحمل هذي الذّرات المصبوبة، كأنها الدم الملكيّ الذي يتوجني ابنَ رسولٍ لم يدرك رفعته النبوية؟

غزالة حامل بأجنّتها تقطع الدرّب إلى شجرها، فتضربها مركبةُ الجيش، فتطير الغزالةُ وتسّاقط حبّاتُ رحْمها المدمّاة، وتتدحرج بعيداً مشقوقة البطن، والفوران الأحمرُ يتدفّق، والزغب مهروس تحت العجلات!

جاء الفلاّحون من القرى المجاورة، ولمّوا أشلاء الغزالة، وجمعوا معها الأجنّة المسحوقة، وأقاموا عليها الصلاة!

يقولون: نبعٌ من عصافير مضيئة يتدفق عالياً كنافورة من شذرات لامعة ترسم شكل قلب مكان ارتطام الحديد مع أمّ الصغار.

ويقولون: ناي يعلو كالغبش أو الغلالة يتكوّر كبطن الحامل وينفجر رذاذاً بلّورياً، حيث انسحقت الشمسُ مع نجومها التي لم ترَ النور.

ويقولون: بكاء خفيف يصدر عن الحجارة والأغصان وجذوع الشجر وأنامل العشب وتبر التراب في فضاء استشهاد الحامل الصعب.

ويقولون: إن جمرات بيضاء تنبض في الليل، كلما وسوست العتمة وادلَهمَّ الليل، فتخرج الطيور من أعشاشها تؤنس وحدة البياض الشجاع.

ويقولون: ما فتئت قطرات ندى بطنها المخمليّ ترهج كالذهب على جنبات الطريق، وإن الشجن يعلو كلما عصفت الرياح، أو مرّت العجلات القاتلة.

وقالوا: إن الغزال المكحّل الذي فَقدَ غزالته المدهومة قد تحزَّمَ بالإثمد، وجنّحت شظاياه على بُعد وردة من الحاجز المنعوف.

بستان الشوك مليء بالتين ومراهقة اللوز، والطير حبيس الأعشاش، ونزّ الخيط الوردي إلى أن رفّ على شباك امرأة عذراء، ووقف على صحن الكفّ، وكادت تشكو، وهبطت حبّتان، نـَفـَرتا كالكرسنّة الألماس، ففهم الريش وتعافى، وعاد إلى لبن الحبّات.

لن تخفى تلك اللفحة الحارة، فالمزمار خمرة نافذة، وهذا الفيضان بعض آثاره، وذلك النهار بعض نوافذه، وأكاد أخرج من هيكلي لأمسك بفضّته السابحة، وما زلت على قناعة تامة بأنه وحش النضارة والفرح، الذي أضعه على رأسي، وأمشي على مياهه العذبة.

هيرودوس، الإمبراطور المجنون الذي كان يصيب الحديد بالرعب، قد أكلته الديدان وهو يعاني من سكرات الموت في أريحا، التي لم تكن حينها شرفة للقمر والليل البهيج، بل كانت مُلوحةً ورطوبةً وذباباً زاد من معاناة الإمبراطور المختنق بقلبه المتضخم ورئتيه المنتفختين بالماء وبحشرجته الذابحة.
هيرودوس هذا طلب من معاونيه، وهو على فراش العذاب، أن يقتلوا يوم موته ألفاً من علية القوم، حتى تنوح النساء والبيوت، ويحسب الناس أن ذلك العويل هو حزن على هيرودوس.

السجين الذي استعصى على مربعات الاحتواء، وعلى الحذف والإلغاء والإضافة، انفجرت لعبته بين يديه، فالرسّام الوهاب ضاق به ذرعاً، وكان يريده بحجم جُرْمه القصير الضئيل، لكنه طائر من أرض العماليق يئزّ على المنارات، فيشعلها بوعوده الأكيدة، إنه الآن حُرّ مثل مُلصقه الذي يحرس المدينةَ والناسُ نيام.

أوقفه الحاجز، كانوا مستنفرين كالطوفان، وبعد أن أتمّوا حفلة الذّل والتفتيش والتنبيش عن الهواء، قالوا لامرأته أن تخلع كل ملابسها، فثمة وطن سينفجر في بطنها، وارتفع الصراخ الوحشي المجنون، وانغلق العقل- سيعرّونها غـَصْباً-... وبعد دقائق كان دمه يشق جداول نحو الشجر اليابس على حافة المجنزرات، وامرأة تستلقي دون ثياب!

مثلما تركتم أجسادَكم للرصاصِ أيها الفارهونَ الذين أخطأَتْهم صُدفةُ الضرورةِ- وكان ذلك في حُلمٍ مصنوعٍ من جلودِ العبيد- اتركوا باقةَ الوردِ البسيطةِ وغربالَ البكاءِ الناشفِ، وخلّوا الوعلَ ينزُو قبل أن تصطادَهُ الأنفاسُ، فقد كان الطريدةَ والصّيادَ. وهو نحنُ المُسرنمون الشهودُ على الصفقةِ. واتركوا الرأسين العاشقين ليأتيَ صوتُ البحرِ العارم! ومثلما تركتُم المقصلةَ صَدِئَةً لِغَلبةِ الخَرسِ وهدوءِ التأويلِ وألعابِ النساءِ المستريحاتِ.. اتركونا في وديانِ الجنونِ البريئة. فالحقيقة ما تُريدون سَمَاعهُ عن النارِ أو الانكسارِ.. بعد أنْ خاتلتم البرَّ والَفرَسَ، ووأدتم الأغنيةَ، وتركتمونا ننتظرُ مواقيتَ موتنا ونخيطُ أكفاننَا بأقلامنا في أزمانِ اللّهو والحليب القليل، وجعلتمونا آباءً لأطفالٍ يستثمِرون ويرقصون على موتِ ثوبِ الحكايةِ والحقل. والحقيقةُ أنكم قبيلةُ الحداثةِ الميّتةِ التي لَبسِتْ قِناعَ قاتلها ولعبتْ أدوارَهُ الُمفزعَةَ، في أرضِ كنعانِنا القَديمةِ، وأرضِ نبيّكم الجديدةِ، فنحنُ الفائضون عن الحاجةِ.. الذين باعت أُمُّهمُ شَعرها وساقهم الطوفانُ إلى عُنفٍ خائبٍ لم يحمل في أحشائه النبيَّ المنُتظَر. ولم تعرفوا أن الذي يقتل فَرْدَاً عليه أن يحفر قبرين، فلماذا آثرتم الرايةَ النقيضةَ وذبحتُم الصباحَ؟ وفي شرايين أبنائكم خريرُ النارِ ودفءُ الدم الذي جعلتموه مفارقةً للذريعة الكابية! ولماذا.. وقد وضعتم إطارَ الطريقِ إلى الموتِ فلا تتركونا نترنّحُ قليلاً، ونَصْرُخُ قليلاً، ونبكي كما لم تبكِ الآلهةُ المذبوحُة من جِذْعِها فوقَ جُثَث أبنائِها؟ فاتركوناَ.. واتركونا نبكي على الشجاعِ الذي لن تراه البيوت.

عندما ابتنى ذلك النزل، أراد تأثيثه والانتقال إليه، فأضاء به وبأهله. ونصَحوه أن يعلـّق لوحةً على فراغ الجدار، فتابع بائعي الأنتيكا والأثاث المستعمل القديم الباذخ، وأعجبته لوحة الفهد القابض بأنيابه على عنق الغزال، فعلّقها وسلـّط عليها الإضاءة المناسبة، وبعد ليالٍ كان الدرج وأبواب الغرف تسمع خطوات فراء مَرِن وخفيف، وثمة مَنْ يمرق ويهفّ الهواء كأطفال العاصفة.

إذا شككتَ في النبوءة، فاخرج إلى السّحر العميق، إلى فضاء الله المفتوح على الذَرى والجبال والوديان، سترى الشجر على شكل طواويس وحيوانات أليفة وأطفال لهم وجوه الجلّنار، وعيون النرجس، وشفاه النوّار، ورمش الزفير الغامق، وأنف البلح، وشَعر أعشاش الملائكة الصغار، وسترى الأفاعي أسيفة وقد تحوّلت إلى قنوات مياه صافية، والفراشات نجوم تنبض بوهجها كالأزرار الثلجية، وستلاقي على الطاولات الحجرية الجراء والشنّار تُصَلّي مفتوحةَ الأجفان دون توقفٍ أو ملل! وستجد الكلب على أبواب السفح يستعدّ لمعركته الفاصلة ليمنع الضواري من الانقضاض ببراثنها العفنة على "العبورة" الغضّة، عندها ستجد الفرس بكامل زينتها وسرجها الوضّاء، تحملك إلى هناك، حيث يُطلّ النبيّ بكلمات النخل والماء.

ولعلك مطهمٌ بالعذاب، وممتلئٌ بالحسرات والفجائع، وظنّي أنك تفيض بالجنون، وبما لا يُعقل، وبكل الغرائب والخيالي والفنتازي والسريالي... ولا قِبَلَ لك بهذه الهلوسات، فاطرحها جانباً، وامضِ إلى وجودك.

يدهمُ الجنودُ حوش البيت الريفي، ويتدفقون، ويقتحمون الغُرف والمطبخ والحمامات والمخزن، ولا أحد!

كانت المرأة مع ابنتها الطفلة، وأكدت لهم أنه لم يأتِ إلى البيت منذ شهور، اذهبوا وابحثوا عنه.
لمعت الفكرة في ذهن الضابط؛ أحضَرَ الفتاة، ووضع باطن يديها على زهرات الأسلاك الشائكة، واحتضنها بكفيه، وراح يعصر على الأصابع الصغيرة، والأرضُ تصرخ.. تصرخ.. تصرخ، والعندمُ ينقط.. ينقط.. ينقط.

وما زال الحنّاءُ الناريُّ على الأسلاك.

لا تفتحي الشبّاك يا ابنتي، فقد وصل البحرُ إلى أعناق الغيم، وَدَعينا ندخل غرفتنا الخشبية، لعلنا إن لم ندفع النوء نقيم سفينتنا النوحيّة، ونضع كل مجسّمات المخلوقات لكي لا تفنى.
سنطيش أياماً وشهوراً، ونسيرُ إلى الجبل العالي، فهناك يقول الطيرُ: سآتي أحمل غُصن الزيتون، وَأُخْبركم برحيل الماء.

وتذكَّري! ثمة مَنْ رفضَ الدعوةَ وأحبَّ الزُرقة حتى مات!

وأنا أُحب الفتاة التي تضع المحيط لوناً على أظافرها، وتبقى مثل زهرةٍ في الأرض المدمّرة.

رحم الله الفنانَ توفيق الدقن الذي كان يردد في كثير من أفلامه: آلو يا أُمم!

لا تتم الجرائم والفظائع والخيانات الكبيرة إلاّ بمكافآت مُجزية وكبيرة، غير أن الجاه القائم على الظلم كوابيس بشعة ستبقى تحوّم فوق الخونة، ولن يناموا.

الفرق بيني وبينه ليس شكل القَلَفة أو الاختلاف على الختان، بل إصراره على أن يكون سيّداً على حُطام الضحايا بدعوى مفضوحة وحقيرة؛ وهي أنّ له حقوقاً!

كان بعينيه الصحراويتين يرى الكواكب عبر الضباب، وكان نايُه يغطي الواحات والسوافي، وكان يلهو مع القارح في الغروب، غير أنهم دهموا براءة أطلاله وأحلامه، وتركوه على الرمل لتمتلئ الآبار أكثر!

إنه ينزف كحيوانٍ مجروح،

ولا يثق بأحدٍ كالحيوان المجروح،

وسينقضّ عليهم كالحيوان المجروح..

أُحسّ أنها تتدفق في دمي منذ الأزل!

 المرأةُ أم المدينةُ؟

.. هل افترقا؟!

الأنفاقُ المُضاءةُ بالموسيقى والنُّور
ستضربُها الظُّلمةُ والشُذّاذ
ويقفُ الجرذُ محدّقاً في الصّمت
ينتظرُ الجثثَ العائمة.

تكاد غُنّة الحجل أن تنقرض، فالأسلاك تشوّش شبوب الميجنا وغرغرة النرجس وانخطاف الحَبّة المأنوسة، بل صار الطير خائفاً في ملكوته، وسُلطانة قوس قزح دون عش في سماء تتقادح بالأباتشي والجنود. والوارف الخرنوبي في صهد القتاد يريدونه خائراً دون معازفه، لكن خوابيه المعتّقة فوحان أبيض، والموسم على الأبواب، رغم السفوّد والكيّ والصيحات.

المزمارُ النيلي هواءٌ نبيذيّ يضمّخ روحَ الحصان وأعوادَ القصب، ويشرّع بوابات الوجدان للسّحر والتفتّح والخَدَر، والمزمارُ ابن الآلهة الأثير، الذي أحبّ أن يظلّ سابحاً في الأوردة، عابقاً في الرأس، حتى الوسن والشرود والغياب. ومع المزمار يبدو كل شيء مطهماً، وذاهباً إلى الامتلاء والصعود والتمدّد والإشراق.. إلاّ منْ كان قلبه فارغاً أو كان ميتاً!

تتدلى من السماء مربوطاً بأخمص قدميك، وتحتك صحنُ جمرٍ بحجم المدينة، يتوهّج! تجفّ، تحترق، تتفحّم، تترمّد، تذروك الرياح.. دون أن تشكّل أثراً فوق الجمر.

"فارينيا" لحم ورديّ ورّحْم خَصْب، هي امرأة الثائر اسبارتاكوس، كانت حاملاً لحظة هجوم "كراسوس" بجيش روما على الثائرين، فقالت حينها لاسبارتاكوس: علينا أن نهرب ونهجر العبيدَ، لأننا مخوّلان للحياة، وإن قُتلتَ، فلن يحظى أبننا بالعزاء .. فقال لها: وهل سيحظى بشيء أكثر من الشرف؟! .

كان كراسوس يخال نفسه روما!

لما قُتل اسبارتاكوس مع معظم قادته، استطاع كراسوس أن يأسِر أكثر من ستة آلاف من العبيد الثائرين، فأمر بصلْبهم كلّهم .. فقطع جيشُه كلَ الشجر، فصارت الأرضُ جرداء .. من موقع المعركة وصولاً إلى روما، وعلّقهم على الجذوع! فقال "أغريبا" الذي استيقظ ضميره بعد هذا المشهد المخيف، وقبل أن ينتحر: لقد قاتل العبيدُ من أجل حرّيتهم وشرف نسائهم، أما روما فقد قاتلت من أجل السوط والصليب، وأضاف: إن التمدّن والحرية معلّقة على الصليب، والجثّة المصلوبة هي جثة روما ! .

لم يشأ كراسوس أن يُقاسمه أحدٌ من قادة روما مَجْدَ المذبحة
في إحدى معارك العبيد مع روما، غنموا حصاناً أبيض، قدّموه هدّية لقائدهم اسبارتاكوس، قائلبن له: إن هذا الحصان يليق بملك !
فأطلق اسبارتاكوس سراح الحصان، وقال: أنا أفضلُ من مَلك .. أنا رجلٌ حُرّ !

رغم التربة المالحة .. سنسقي حديقةَ الحُلم

المخلوق الآلي، المصنوع الموضوع، المُوَجَّه عن بُعْد، والمُغلَّف بالفولاذ، والمشبوك بآلاف الأسلاك والأزرار، ما زال يطاردني ...

"الروبوت " الحديدي المسخ، نبت على ساعديه المصقولين لحمٌ وشَعر، وأصبح له عينان وأنف وفم وأسنان، وصار بإمكانه أن يتمتع بمرونة الأنسان وبرائحته ولفتاته وسَمْته ..
غير أنه دون قلب أو مشاعر، وبلا أبٍ أو تاريخ، وليس له غدٌ أو أمل ..

أجمل ما خلق اللهُ
ألأطفالَ والخيولَ .. والأحلام
وكلها تحت رشاّت الرصاص

قبل أن ينضج التين هذا العام، سيحمل الزعيم الموزع في كل البقاع أمتعته وآخر ما تحمل الشجرة، وسنفرح كالعادة، ويمرّ القتلة من تحت النوافذ .. مبتهجين ! ليضعوا لنا وجوهاً جديدة لها برق خاطف يعشي العيون . لكن الشهداء سيعودون بسرعة أكبر من ذي قبل.

نحن نمتاز عن شعوب الأرض بسجايا ومزايا وصفات وخواص كثيرة، منها: أن لدينا أمناء عامين سياسيين ونقابيين وأعضاء مكاتب سياسية وتنفيذية ولجان مركزية وثورية ورؤساء وزعماء .. ما زالوا يتربعّون على مقاعدهم منذ أكثر من اربعين عاماً! أليست ميزة عبقرية ؟!

الأخطاءُ صوابُ الدنيا.

جروحه غائرة، والسحجات عميقة، وقد ذبل الجسدُ، وما زال الضبعُ حصيناً وراء أسواره! والعزاء أنّه وحده دون امرأة.

كان يخرج من الصخر بحراشفه ونتوءاته وأسنانه المنشارية، وينفث اللهيب في الوجوه، فتحترق، إلاّ من وضع القناع، أو اختبأ!

عندما أطعمَتْه قلبَ الهامة، لم تعرف أن حواسه ستخترق الحُجب؛ أي سيرى الملائكةَ وما خلف الجدران، وسيشم السديمَ والشفقَ من جهة الأرض الأخرى، وسيسمع الشهوةَ وصعودَ الماء في اللّحاء، وسيحس بالأوهام التي في الرؤوس والظلام الذي يحلّ في الكوكب البعيد، وسيعرف مذاقَ الأشياء على بعد ألف فرسخ من مكانه.
لقد خسر المُفاجأة !

ماذا يتمتم هذا الفلاّح، في الجبل الأخضر، الضاغط على المحراث، والبغلة تشقّ التراب خلفها؟!

منذ أربعين عاماً وسكّة المحراث تفترع بجبرياء الحجارةَ والهيشَ وما بطن من الجذور، فتقلب الأرضَ لتبدو طبقاً من قهوة مخثّرة مفرودة ومحززّة، يوشّمها الحصى المتناثر، ولم يعلق سنانُ المحراث بصندوقٍ أو بجرّةٍ أو بتمثال!

لقد حرثَ كل أراضي البلدة والقرى المجاورة، ولم يعثر على شيء مما يقولون! وكبر الرجل، وماتت البغلة، فراح يحفر لدفنها، وما إن وصل إلى تجليف اللّحد ليحوي جثّة البغلة النافقة، حتى ظهر الصندوق المدفون.

لكنه أبقى الصندوق مكانه، ودفن البغلة بجانبه، وأهال عليهما التراب.

كان يدلق النار في رئتيها، وينام في الزاوية، فتصحو معافاة راضية! وصار يزججّها بالكريستال، فتبدو في قصرها ساخطة ناقمة! وتقول في سرّها العدواني: ليتنا بقينا في الريح.

تحت ضلعي الأيسر مُضغة نابضة، بسماحها أصنعُ حَظّي، وأعيد البراعمَ للشجرة المدمّرة التي ضربها البرق فهلكت. وبالمضغة أُميت الخطيئة التي لا تموت، وأجعل العيونَ الكبيرة تشعّ بالذكاء، والقلوبَ تنبض كقلبٍ واحد، وبالمضغة الصالحة أهمس في رأس المرأة المشوّشة، فتصحو بأن للظلال أهمية الضوء.

تُذكّرني إبرة ُ الوشم بأول مرّة أُساق فيها إلى المعتقل، كان السرير الأبيض طائشاً في الغيم، والفتاة تركض تتلفـّت خلفها هرباً من ذي النابْين والدم المتساقط على الذراع.
توقـّف الكابوس، ولمّا أخذوني ثانية ورابعة وعاشرة... كنتُ لا أنام حتى يغلبني النعاس أو التعب، لكن كفيّ اليمنى كانت تمسك بذراعي اليسرى، وثمة خيالات وصدى يقلقني.

الجواميس عندما تهرم تفقد قرونها، وتسير بتهدّل وتعب! على بعضها آثار وندوب معاركها فيما بينها، وعلى بعضها ملامح الرغَد الذي كان. لكنني أحبّ من الجواميس التي ظلّ على جلودها رائحة الضواري والكواسر التي طمعت في لحومها فرفضت!

الموت هو الطريقُ إلى الرهبة، وعندما يسقط الشهيد يصيح: لقد اكتَمَلْتُ، إنهم يحيطونني من كل صَوْبٍ وَجِهَة، ومهما كان الظلامُ المُسلّحُ شديداً، فإنَّ الفجر يقفُ له بالمرصاد، وها إنني قد وصلتُ إلى ذلك المكان المخبَّأ الذي أقاموه على منتصف الكرة الأرضيّة، فانظروا؛ أنا تلك الشجرة الخاصة التي نبتت من بذرتي الحمراء، وكل مَنْ يشرب من عصارتها سيعيش إلى الأبد. أنا شجرة الحياة التي ستبقيكم خالدين، ولآدم وأبنائه شجرةُ المعرفة التي أخرجتهم من الجنّة، أنا الجنّة والبقاء إذا وصلتموني، ولكم اللّحد والدود واليباب إذا بقيتم تنتظرون غودو الذي لن يجيء.

صباح العيد، صباح القشعريرة والبكاء الذابح الغوليّ، وصباح الفُقْدان الضاري! إنه يومٌ تتجدد فيه الفجيعة، ويتذكر الأهل مَنْ كان في العيد الفائت. ثمة نقصٌ جارح، وثمة شاهدان أو قضبان أو عيادة للمعاقين.. أو سفرٌ بعيد.

هنا صراخٌ مكتومٌ وحشيٌّ يكاد يهرس صدر الأب أو الأم أو الأبناء، وثمة مراجيح فارغة تتطاير كالمناديل على طرق المقابر.
ستهمد عيون الآباء، وتظلُّ الجمرة! وسيكبر الصغارُ وفي حلوقهمِ مرارةٌ مغثية، يكرهون معها العيد ومناسبات التلاقي والثياب والحلوى.. والنسيانَ الذي يُبقيهم وحيدين دون يدٍ أو نداء.

مئة وسبعةَ عشرَ شهيداً في يومٍ واحد.. وفي مدينةٍ واحدة! يكاد موتُنا يكونُ مجّانياً، والجميعُ ينقل أخبار القنص والأشلاء باعتبارها أرقاماً لا تعني أحداً!
لا بأس ولا ضير ولا تثريب على هذا العالم الحقير الصامت المتآمر الممسوخ الجبان، فقد وُلِدَ اليومَ الف ومئةٌ وثمانون جنيناً في مدينةٍ واحدة، شقّوا أرحام أمهاتهم وصرخوا للحياة.
ما زلنا منتصرين!

تدخل الزنزانة خائفاً مرتعداً مرتبكاً، تحاول أن تجمع ذاتك، وتندس في العتمة زائغاً، تكاد تتكوم انهياراً، وشيئاً فشيئاً تتّضح الجدران، فترى كلماتٍ حَفَرها المعتقلون بأظفارهم، أو كتبوها بدمائهم، تتملاها، وتقرأها ألف مرّة، وتراها ملء العينين تطير وتدخل قلبك، وتنطبع هناك في سويداء الوجدان، فتتماسك وتنهض مثل حصان أسطوري، وتدق برمانةِ كفِّك كلَّ الأبواب الصلدة، وتنفر دماؤك، وتخطّ بإصبعك المغموسِ النهايةَ المُتَوقَّعة.

وعندما أيقنوا أنه حيٌّ وله عُمرُ نوح، احتشدت صدورُهم وانفجرت، وماتوا غيظاً. وظلّت المشنقة تتأرجح دون جسدٍ يتدلّى، غيرَ أني أرى مجموعةً جديدةً تهتف لغريبٍ جديد، وكانوا فرحين، فقد تأكدوا أنَّ غايتَهم حاضرة.

عندما ينادي الغريب يصدعُ الصمتُ بالنداء، ويكرزُ الحنين في الخشب، فتخضرُّ السلالم، وتبتلّ الخطوات بالندى، ويصير الوقت ودوداً.

وعندما ينادي القريب تجنح المذابح إلى شفراتها، لتشحذها من جديد، ويبدأ الهراء.
وعندما تنادي البكارة يكون العصفورُ قد شخب على المقصلة، وانطلق من جديد، لكن المقصلة تثلـّمت، ودخلت في بهاء العبودية المتوالد.

وعندما تنطفئ النار فإن دخانها يُعشي العيون.

وعندما ينادي الإحباط لتكون الكآبة، تفتح البيداء ساقيها لنورس البحر، فتحمل بالثلوج، ويبدأ الكرنڤال.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى