الأحد ٢٧ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم فلاح جاسم

قتلُ العصَافير

أنا أنبطح الآن واضعاً تحت صدري وسادة أثيرة، ناعمة، لأكتب هذا المقال، وهذا الوضع هو أحد طقوسي في الكتابة، لكن في هذه اللحظة تذكرت آلاف المواطنين العرب الذين ينبطحون رغم أنوفهم، وأنوف آبائهم، يضعون تحت بطونهم كتلا ضخمة من أحجار الذل، والقهر، الصلدة، يقف فوق رؤوسهم سجانون مترعون بـ(الوطنية، والأخلاق الحميدة)، يصوبون بنادقهم الجاهزة إلى رؤوس هؤلاء، خشية أن تذهب بهم أفكارهم بعيدا، ويحلمون برغيف خبز.

كيف نضيء ذاكرتنا المخيفة، والمطمورة تحت أنقاض اللاشعور، والتي تفيض بشتى أنواع القهر؟ وأن أي محاولة لمصارحة النفس ما نعانيه تعتبر جريمة بحق الوطن، نستحق عليها شتى صنوف العذاب، وإلحاق أسمائنا بسجل الخونة والمتآمرين.

في الأمس هاتفتني حبيبتي، وقالت: أدع لي، قلت لها: ومن أكون حتى افعل ذلك، وأنا العبد الفقير، خطأي أكثر من صوابي؟ قالت: نفذ ما طلبته منك.

فقلت لها: الله يسعدك كثر ذرات الرمل، وعدد أوراق الشجر، وبعدد حبات التراب،وبقدر ما في المحيطات من ماء، وعدد قطرات المطر.. الله يسعدك بقدر ما اقترف الحكام من بطر، وقدر ما ذقت في طفولتي من قهر..
قالت لي:هل تعلم ماذا أرى أمامي الآن؟

قلت متسائلا: الله أعلم.

قالت: أرى عصفورة فوق الشجرة، وقد بنت عشها في الحديقة التي أتجول فيها، ترقد على بيضها، تنظر إليّ دون خوف أو وجل.

أبكاني وصفها هذا. قالت: ما بك أيها المجنون؟ يا ذا المزاج السوداوي. قلت: أبكاني وصفك لما ترين، لأن العصفورة في وطني تطاردها ألف بندقية.. والكل مشغول بصيدها، وعندما تنتهي المهمة تحتفل الرعية، يتأبط كل منهم قيتاراً، ويرقصون حول مائدة الشواء، يقيمون مهرجانا خطابيا بهذه المناسبة، ويلقون القصائد العصماء.. ويتقلد من يلبسون بدل الكاكي أوسمة مصبوغة بدم العصافير..

قالت: يا رجل، أنت بطبعك نِكدي، لا تعرف أن تفرح، دائما تقلب المناسبات السعيدة غما، وحزنا.. بالله عليك، هل تستطيع أن تقول لي ما اسم فلسفتك تلك؟

قلت: فلسفة قتل العصافير.

كلمات لها معنى:
 أنا أنبطح: إذا أنا عربي.
 صدري: هو ذلك القفص المصنوع من الأضلاع، ليحميك أيتها اليمامة، ويكاد قلبي يقفز منه كلما أصبح تلفوني ثملا بصوتك.

الوطنية والأخلاق الحميدة: هي ما يتمتع به أصحاب النفوذ من صفات ويستطيعون نفيها عن الآخرين، بقرار قاض يتمّ تفصيله حسب الطلب.

رغيف الخبز: هو ما يحلم به المواطن العربي، خال من المسامير، وجميع أنواع الشوائب، غير معجون بالذل وفقدان الكرامة.

ذاكرتنا المخيفة: أن نحلم بغد أفضل لأبنائنا.

الوطن: هو وجه حبيبتي الذي أينما يممت وجهي أراه، ويسكنني في جميع حالاتي، ولا أسكنه أنا. حتى لو كنت في ضبعان وكانت هي عل ضفاف بحر الشمال، تبني تماثيل من رمل.

القهر: أن تقرأ ما كتبته أعلاه، ولا تستطيع حذفه.

سجل الخونة: هو تلك القائمة التي تتسع لجميع عصافير الوطن.

حبيبتي: هي تلك الإنسانة، التي يتسع قلبها لي كلما ضاقت الأوطان،عندما تتكلم معي يكون صوتها كنبع صافٍ .. وعندما تغيب عني، تجتاحُ روحي الرمال.. في همسها الكثيرُ من المطابع، وهي تكتبُ قصصنا كمجانين في زمن الجميع فيه يدعي التعقل..ما أجمل صوتها حينما يكون في قبضة قلبي،هي سيدة النساء، سميتها ملهمة الجنون الفلاحي .. لو سمع أفلاطون شيئاً من همسها الليلي، لجعل المدينة الفاضلة في شفتيها .. لو عرف نيوتن عن جاذبيتها لأدرك مدى سذاجة تفكيره .. وتفاحته لا تساوي شيئا عند جاذبيتها.. لكن عندما تغضب، صوتها يجعلني أشعر أنني على لائحة الانقراض. آخذ صوتها بجرعات خوفا من الموت بجرعة زائدة من نعيم الجنة، أصبحت أعرف أن صوتها طبيعةٌ بملايين الحواس

المجنون: هو من يـُفترض أن يتعظ العقلاء بكلامه.

البندقية: هي تلك الأداة التي نتمنى أن نضع في فوهتها زهرة في يوم ما، حتى لا تكون للبعض ذريعة بنهب خيرات الوطن بحجة الدفاع عنه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى