الخميس ١٧ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم فؤاد قنديل

مظاهرة بالأيس كريم

 لم ألتفت في البداية إلى أن يدها المبللة بالعرق الغزيرتتسلل من يدى. كنت مشدودا بكل حواسي للجموع المستنفرة.. الوجوه جادة وعابسة... الأصوات ترتفع وتقذف هتافاتها الهادرة نحو السماء.. آلاف الأذرع تندفع وتثقب الفضاءات الغائمة.

  يا والدى اطلع على الرصيف .. هل مثلك يخرج في يوم كهذا؟!

قال شاب وهو يدفعني بحذر

لم أكن متنبها إلى أني وإلهام أصبحنا في نهر الشارع.. حرصت على أن نظل طوال المظاهرة واقفين أو سائرين على الرصيف، من الطبيعي ألا نحتمل التدافع.. الأجساد العفية تدق الأرض، وتحاول أن تزلزلها تحت أقدام الفاسدين والطغاة.

كهول وشباب وبنات صغيرات وفتيان وصبية يشكلون كيانا أسطوريا زاحفا بثقة وقوة يجتاح الشوارع ويلتحم بالجنود المدججين بالدروع والعصي والخوذات وقبل كل ذلك أوامر الرؤساء المشددة بتكسير عظام المارقين الذين يهددون أمن البلاد.

كيف تسللت يدها المسقية بالعرق من كفي وتهاوت على الأرض وتمددت فاقدة للقدرة على الحركة وأغمضت عينيها كأنها...؟!

جلست إلى جوارها مكوما بشيخوختي أمسح شعرها الأبيض.. لم أتنبه إلى دموعي التي سقطت على وجهها المتغضن الذي تراجعت منه الدماء واصفرت أوراقه.. ندمت لأني لم أسرع بها عائدا إلى البيت عندما هبت العاصفة وتدفقت في الشوارع أنهار البشرالذين فيما يبدو لزموا الصمت في انتظار الفرج، وقد أدركوا فيما يبدو أنهم وهم يتمادون في الانتظار ضاعت حقوقهم، ونهب المتنفذون كل ما وفرته الأجيال السابقة واللاحقة.

رقص قلبي، فقد فتحت عينيها وابتسمت ابتسامة واهنة لكنها كانت كافية كي تلمع عيناها ويشرق على وجهها تاريخ طويل من الطيبة والمحبة.. هذا الوجه الوديع الذي يرافقني على مدى يتجاوز الخمسين عاما. 

تسللت كفاي من تحت ظهرها ورفعت جذعها وأخذتها بين أحضاني وخفيفا ضغطت.. شعرت أن مطرا يروى أرضا متشققة من الظمأ تمتد بطول قلبي وعرضه.. هاهي الخضرة النضرة تنبت بصحراء صدرى القاحلة، وبعدها أطلت زهرات صغيرة بيضاء من الياسمين والقرنفل.. ابتسمت الزهرات الصغيرة عندما ابتسمت إلهام المنهكة.. حاولنا أن نتجنب الأقدام المندفعة والأجساد العنيدة الزاحفة برغبة جياشة وعاتية في المواجهة المصيرية.. لكنها فشلت في كثير من الحالات.. كانت الهتافات ما تزال تطلب الحرية والعدل.. لا ندري بالضبط ممن يطلبونها، هل يمكن أن يمنحها أحد لأحد خاصة بعد أن ترسخ غيابها وطال مقامها لدى الذين احتلوا القصر الكبير؟

 شملها سهوم.. كانت أفكارها تحوم بعيدا. طاف بخاطرى ما تصورتها فكرت فيه إلى متى يظل هؤلاء المطحونون يطلبون الحرية والعدل ولا يكاد يجد أحد لهما أثر في حياته؟.. ما الذي يحدث لكل من يقفز كالقرد إلى السلطة، ويظل يحشو فمه وبطنه بالموز حتى يوشك على الانفجار؟!.. القرد يصاب بصرع الموز، حتى أنه لا يستطيع أن يسمع أو يرى أحوال الناس الذين لا حول لهم ولا قوة بينما ينتشر في كل مكان عملاء القصر

سألتني وهي تنتزع الكلمات بصعوبة من صدرها، ولا تكاد تجد صوتها:

هل تذكر أول مظاهرة اشتركنا فيها؟

تنهدت.. لم أجد عسرا في تذكر ما جرى.. كانت أول مظاهرة منذ ثلاثة وأربعين عاما.. بالضبط سنة 1968 بعد أن صدرت أحكام هزيلة ضد بعض من تسببوا في هزيمة 1967.. كل هذه السنوات لا تزيد عن حفنة رمل في قعر كفي.. أستطيع بطرف أصبعي أن ألتقط من بينها ما أشاء. عمري كله حفنة رمل.

قلت لها:

 ساعديني كي أحملك إلى الرصيف

أغمضت عينيها.. تأملت رموشها.. في شبابها كانت طويلة وكثيفة.. تناثرت الآن ونحلت، لكنها في نظري بدت أجمل من ذي قبل.. اختطفني من تأمل ملامحها المستسلمة تواصل اندفاعات الشباب المدوية حولنا ونحن كومة من السنين المهترئة، تعودنا بإرادتنا أو بالصدفة أن نشارك في الغضب العام.. هل يمكن في هذه المرة أن يحصل من يهزون الشجرة على بعض الثمار؟
فتحت عينيها وابتسمت.. ربما عبر رأسها المجهد ما فكرت فيه. تذكرت ما كان عليّ أن أفعله.. حملتها إلى الرصيف ودهشت لفرط هشاشة جسدها وكأني أستشعرها للمرة الأولى.. لم أكن أستطيع حملها حتى عهد قريب.. أسرعت أبحث عن محل أيس كريم.. دلني بائع الصحف عليه.. كان قريبا.. أحضرت لي ولها الحلوى المثلجة التي تحبها.. مضت الجماهير تهتف ومضينا نلعق الأيس كريم في تلذذ.. عيني عليها أتابع شفتيها لأطمئن على أنها راضية.. هكذا كنت دائما منذ أن أصبحت إلهام أرضي وكتابي وحديقتي.

غادرنا الكلية في ذلك اليوم من ستينيات القرن العشرين كي نقضي ساعة معا على النيل ثم نستقل الأتوبيس النهري إلى الضفة الأخرى ثم نمشي معا حتى أول شارع خيرت الذي تسكن فيه قريبا من ميدان لاظوغلى.. دنت منا الجموع الهادرة.. قالت:

هيا بنا ننضم إليهم رحبت بالفكرة جدا.. كنت قد عزمت أن أوصلها ثم ألحق وحدي بالمظاهرة.. قبضت على كفها ودخلنا بقوة بطن الحشود.. هتفنا مع المطالبين بالقصاص.. تعالى الانفعال واحتدم.. كنت مستعدا للمشاركة في ضرب من يوقفنا .. لم تمر لحظات حتى داهمتنا الشرطة في أول شارع قصر العيني.. لم نتوقف.. ضربونا بالعصي. هجمنا عليهم. دفعونا بالدروع.. وجهنا لهم اللكمات وقذفناهم بأرجلنا.. هبطت على كتفي عصا غليظةتبعتها أخرى على رأسى. لم أتألم وأنا في غمرة الحماس، لكني فقدت الوعي لحظة، ثم استعدته.. فوجئت بإلهام تلتقط في سرعة البرق فردة حذاءها وتضرب بها الجندي ضربات متلاحقة وتسبه.. وسرعان ما فعلت مثلها فتيات أخريات.. زاد هجومنا إلى أن تغلبنا عليهم.. تراجعوا أمامنا..

مال الميزان قليلا لصالحهم بعد أن سقطت علينا القنابل المسيلة للدموع.. لم تحتمل إلهام وانحرفت بعيدا وتبعتها حتى ابتعدنا وهي توشك على الاختناق.

وقفنا أمام محل عصير.. عرضت عليها أن أشترى لها عصير مانجو أو عصير قصب. رفضت وطلبت الانصراف.. كان عودها النحيل يضطرب تحت وقع الكحة التي توالت بصورة ملحة وغريبة. كانت عيناها تسترق النظرات للشباب المندفع.. بداخلنا دون أن نصرح كمنت حالة من الفرح لمجرد التعبير عن عدم الرضا ورفض ما يفرض علينا.

لمحت محل أيس كريم.. كنت مشغولا بفكرة تغيير الحالة ولو مؤقتا.. قلت: 

  سوف آكل الأيس كريم .. ما رأيك؟

حاولت أن تتنفس بعمق. بدا أن صدرها ضيق.. تنفست بصعوبة .. سحبتها إلى شارع جانبي وجلسنا في حديقة صغيرة نلعق الأيس كريم.. لعقته ببطء وتلذذ.. كنا سعداء كأطفال في يوم عيد.. أحسست فجأة بألم الضرب على كتفي ورأسي.. تشاغلت عنه.. التحامنا بالناس جعلني راغبا في الجرى وممارسة الملاكمة التي تدربت عليها في فترة المراهقة وأفزعني أن عرفت بنية المدرب كسر أنفي بلكمة خاطفة وقوية. قررت التخلي عنها.. الآن أستشعر الحاجة إليها.

تذكرت أن اليوم عيد ميلادها وقد خرجنا لنشتري لها هدية..قلت لها: 

– كل سنة وأنت طيبة يا ست البنات ضحكت وكانت تفرح كثيرا كلما قلت لها.. يا ست البنات. واليوم بلغت الستين من عمرها فقد ولدت عام 1951.. عرفتها في آخر لحظة قبل أن أغادر الكلية تماما. كنت في السنة الرابعة وهي بالسنة الأولى.. كان ذلك قبل الامتحان بشهر..خرجنا معا في مظاهرات 71و 72 للمطالبة بإنهاء حالة اللاسلم واللاحرب وطرد الاحتلال الصهيوني الذي يدنس سيناء، وفي كل مظاهرة أكلنا الأيس كريم.. أعرف أنها مسألة غريبة وملتبسة لكنها غير مقصودة.. كثيرا ما سألت نفسي كيف كنا نعثر بسهولة وفي عز المظاهرات والضرب والانفعال والهروب والمواجهات الدامية على محلات الأيس كريم عندما تخطر ببالنا؟، ولماذا وكيف من الأصل تخطر ببالنا؟.

في يومي 18و19 يناير 1977 كان خروجنا مقصودا وكنا قد تزوجنا وأنجبنا كرم وسهام، وتركناهما في سريريهما نائمين.. كنت قد علمت بنبأ المظاهرة فتسللت خارجا لولا أن لمحتني إلهام وأدركت ما عزمت عليه فانتعلت حذاء خفيفا ووشاحا وانطلقت معي.. كان الجنون بالفعل قد وجد سكنا لائقا به في عقولنا.. والسبب فيما يبدو أنها مثلي قد أيقنت بالعشرة أن أجمل ما في الحياة الذكريات، وأزيد عنها فيما أظن إيماني بأن التكافل من أجل الكرامة والحرية مطلوب لأننا جميعا في قارب واحد.

في اليوم الأول اشتريت لها الأيس كريم ثلاث مرات وفي كل مرة نتلقى الضربات وتدهمنا الأجساد المندفعة فيسقط الأيس كريم.. نكون قد سرنا في مظاهرة وحدث فيها ما حدث من كر وفر وهجوم منا وعدوان شرس من الشرطة، ثم تنفض فأشتري الأيس وسرعان ما تندلع من جديد ونفاجأ بها تهب كعاصفة و تلفحنا نيرانها ويسقط الأيس.. في آخر مرة بعد أن سقطت الحلوى اللذيذة جلسنا على الرصيف وأخذنا نضحك، ثم توقفنا فجأة عندما تطلعنا إلى المشهد الصادم والموجع.. الشوارع معتمة والتخريب كبير والجرحي أيضا كثيرون وأشياء كثيرة محترقة وحالة عارمة من الفوضى لحقت حتى بالشجر وشوهت عددا من المباني دون أن تستسلم الشرطة ولا الجماهير.. هربنا داخل محل تنجيد كراسى سيارات تركه صاحبه وأسرعت بإنزال الباب الصاج علينا عندما بدأوا بصورة محمومة التقاط كل من تقع عليه عيونهم .. أخذتها بين أحضاني فاستسلمت ولما قبلتها انسحبت من بين ذراعي في حدة مبتسمة وقالت:

حبكت -

عدت أعانقها فطيبت خاطرى وترفقت بمشاعرى غير المبررة من وجهة نظرها.. جلسنا على كنبة وسرعان ما قفزنا مبتعدين فقد كانت على"السست" فقط فانتقلنا إلى غيرها.. ضحكنا، وظللنا نضحك كلما تذكرنا تلك الأيام عزمت اليوم بعد أن تتداعي المظاهرة ويتناثر الناس وتشرع اللوريات الخضراء في جمع الجنود المنهكين علي أن نتحرك باتجاه شارع الصاغة لأشترى لها هدية ثمينة لعيد ميلادها.. لكن عدد المتظاهرين كان للغرابة يزداد بشكل مطرد وكثيف.. نظرت إليها وكانت شاردة.. قالت:

  في عام 68 خرجنا مع المتظاهرين نطلب القصاص، وفي عام 71 خرجنا نطلب الحرية من المحتلين وفي عام 77 خرجنا نطلب الخبز، واليوم يصعب على الحصر ما نطلبه. ناولتها يدى حتى تنهض.. وقفت وتنفست بعمق.. قلت لها:

 هل ستخرجين معي في المظاهرة القادمة؟

قالت بعد لحظة وهي تبتسم: المهم أن يتوفر الأيس كريم

ضحكنا، وكنت أبالغ في ضحكي بعد أن لاحظت أنها استعادت بعض عافيتها.. سألتها عما تحب أن أقدمه لها هدية في عيد ميلادها.. ابتسمت ابتسامتها الوديعة التي تضيء العالم. طال صمتها.. شجعتها قائلا: اطلبي ما تشائين دنت مني وقبلت خدي.. وضعت يدي على صدرها..كان قلبها يدق بسرعة دقات واهنة.. كاد الدمع يفر من عيني.. قالت:

ربنا يخليك لنا.. أنت هديتي

عندئذ انفجر نبع الدمع وسال من عيني ثم من عينيها.. تعانقنا.. بداخلنا سكن العالم وتمدد في هدوء. بدا أننا نقبع في منطقة نائية على تخوم الدنيا الحزينة ووجه الشمس الغاربة يودعنا بحنان. منذ الصباح لم نر أثرا للحمام ولا للعصافير.. حلقت بعضها فوق رؤوسنا وزقزقت العصافير وطاردت بعضها.. علت وانخفضت.. عبرت عن بهجتها بانتهاء الصخب والعنف.. لم تفرح طويلا فقد بلغتنا أصوات عالية..كان الجنود المدججون بالدروع والعصى والخوذات والأوامر الغليظة يطاردون مجموعات كبيرة من الشباب، والشباب يتصدون لهم ويشكلون جدارا متماسكا وقويا لا يتأثر بالضرب ولا بالقنابل.

قالت إلهام: الشعب يطارد الشعب

قلت:

الشرطة أدوات السلطة

تنهدت بأسى.. أشفقت عليها.. مددت يدي وأمسكت بيدها التي كانت لا تزال مبللة.. قمنا ننقش الخطو الوئيد على أرض صلبة وعنيدة.. تدريجيا دبت العافية في رفيقتي.. مضينا إلى محلات الذهب.. قالت:

لا داعى للتكاليف.. تكفي وردة .. يجب أن نعود.. سوف يملأ الأولاد والأحفاد بيتنا بالهدايا والحلوى عزمت على أن أهديها خاتما ومعه باقة من الورد الذي تحبه.. هديتي غير هدية الأبناء.. رحب بنا نصيف في محله الذي اعتدنا الشراء منه.. وافقت على الخاتم الذي اختاره نصيف.. مضت تتأمله وهو في أصبعها.. كان رائعا بالفعل.. قلت لها:

حان وقت الأيس كريم

من قلبها ضحكت.. احمر لأول مرة وجهها الذي فقد بهاءه مذ خرجنا في الصباح
نأكله في المظاهرة القادمة لا أدرى لماذا شعرت بحالة من القلق بعد أن نفذت عبارتها إلى أعماقي.. قلت:

ليتنا لا نحتاج إليها عندما انتهينا من الأيس كريم ودارت الألسنة في الحلوق تتذوق آثاره اللذيذة.. رن عاليا محمولي فانتفضت وجاءني صوت ابنتي سهام صارخا ومتعجلا:
تامر في المستشفي بعد أن تلقى ضربات عنيفة في المظاهرة.. صرخت زوجتي عندما علمت.. ضربت صدرها وهي تصرخ:

حبيب قلبي.. اطلب تاكسى بسرعة بربع لسان فقد تحطمت أحرف الكلمات قال تامر أصغر أبنائنا بينما وجهه ملتف بالأربطة:

أبدا.. لن نتركهم يسرقون البلد أنا وأمه تبادلنا النظرات وتنهدنا.. لم أفهم السر في أني شعرت ببعض الرضا رغم حالة تامر..جميل أن يكون في الدنيا بشر لا يعرفون الانكسار.. مضينا نحدق في وجهه ونبحث عن ملامح الأيام المقبلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى