الأحد ٢٠ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم عمر سعدي

مِن صَرخاتِ الرُّوح الطَّويلة

رسالة إلى أمي (4)

إلى أمي التي فرشت لي الدنيا بأضلعها، تهاوت أذرعي طربا على أعتاب قُبلتها، صرختُ وقلت يا أماه! فاح العطر من يدها، وصار الكون يغمرني إذا ما القلب قبَّلها، وجاءت فرحة المشتاق في لهف غداة الكون شرَّدها، وأمي قبلة الأحلام أنمو إذ ألامسها، أحب الحبّ يكسو الأرض بالأزهار- أمي زهرة تنمو وبالآمال تغمرنا ونغمرها.

وهي أمي التي تمادت بالحبّ حتى تعدّى حبُّها السُّحب البعيدة فاقتربت من أريجِ يديّ وأمطرت بوحًا بعشقٍ موسميِّ الملامح، وهي أمي التي تجاوزت معجزات الكون واستوفت التحقق حين خرجت من الكتب السماوية لتروي ظمأ المخلوقات للحب والخير والإرادة غير المسبوقة بالحياة، وهي أمي التي أطاعتني الكلماتُ كُلَّما شيَّدتُ ذاكرتي وبدأت أرصف الحروفَ بصيغة استثنائية لعناق المشاعر وهي تَهبِطُ من سقف الأفكار إلى أرض الورق الأصفر لتُعيدَ إليه خضرتهُ وتمنحه الحياة، وهي الربيع الموصول بالعطاء المبالغ فيه، حين تناديك بأحبِّ الألفاظِ على قلبك لتشرقَ فيكَ شمسُ الوجود وتُجدد العهد مع الحياة، تصبحُ "فجأةً" طفلاً رغم ضيقِ الشعور بالطفولة وثقل الكون عليك.

أمي الحبيبة؛

هذا العام لن أقدِّم لكِ قصيدة ولن أكتُبَ النَّثر من أجلك، لعلَّ الصمتَ حين لقاء أعيننا يُقحم الكلام إليَّ فتحاورني تلك العيون المشغولة بالشغف والشغوفة بالحب، المُطيعة للرؤية والسابحة في ملكوت هذا الغزل الخُرافي الساحر، ربما حينئذ أعود إنسانًا يحمل صورة الطِّفل الذي أذهبتهُ الظروفُ وقتلتهُ فظاعة الكون الخارجي، عيناكِ أرضٌ لا تعرفُ النكران، وطنٌ يبحثُ عن مواطنيهِ، عيناكِ دفء الله في هذا الوجود. هذا العام لن أقدِّم لكِ وردةً سوف أقدِّمك للطبيعةِ أجمل وردةٍ في هذا حيِّ مشاعرنا النيئة، مشاعرنا المبتذلة، أحلامنا الخائفة من عدمية التحقق، سأقرأ باسم الأمّ التي ولدتني حُرًّا وباسم الطِّفل الذي يسكنني أجمل آياتِ الله فوق هذا الوضوح الضبابي حين تنقلبُ مشاعري حافيةً إليكِ. تذهبُ الأيامُ بجمالها وبهائها، تختفي آثار شعائر العشقِ المُقدَّس، يتبدَّل الوهمُ تدريجيا وينقلبُ واقعًا، تتغيَّر الأشياء حولي وتبقين كما أنتِ، بأول ضِحكةٍ رُسِمت فوق شفتينِ صارختين بالرحمة وعينينِ دافئتينِ تغزلان الكلام وأول قُبلةٍ أروتني فلم أظمأ بعدها أبدًا، (هي الأقدار يا أمي تُفرِّقنا وقلبُك بات يجمعنا- وذكرى لم تكُن فينا وعبدٌ صار سيِّدنا – نفى النسيانُ حُلو العيشِ ومنك الشَّهدُ يسكننا). أمي الجميلة الواضحة الفاتنة للروح، هل تكفيكِ قُبلة كي تَصفحَ عنِّي عيناكِ المتأججتان بالدُّموع، هل تكتبان رسائل العفوِ المُباركِ في حضرةِ جمودي وقسوتي وقلة حيلتي؟ هل يكفيكِ هذا الإيابُ مِن رِحلةِ المَجهولِ إلى شَواطئِ قلبكِ المُزنَّر بمرجان الانتظار؟ هل يكفيكِ شَوقٌ كثيفٌ في سمواتِ انتظاري السَّبعةِ إلى حضنِكِ المُشبعِ بأحاديثِ الصِّغار؟ هل يكفيكِ صمتٌ صارخٌ باسمِ الوطَنِ المرسومِ بينِ حاجبينِ مستعدان للانحناء في حضرة كبريائك؟ هل يكفيكِ أن أعود طفلا هاربًا من يقينهِ الشَّيخ بالحياة وهو على أعتابِ عناقٍ لم يتغيَّر مُنذُ العناق الأوَّل؟

أمِّي هي الأمُّ المثالية، لا أحد يُشبهها أبدًا، بالحُبِّ مُختلفة، بالحُلمِ لا تُشبهُ الحالمين، بالحياة تُذكِّرني بالأنبياء وبالإرادة تُشبعني رغبة بالتحرُّر دومًا مما أنا فيه، أمي التي زفَّت إليَّ الحياة وما كُنت حيّا، لفظت اسمي كاملاً قبل أن يعرفهُ الآخرون، غسلتني من خطايايَ وداعبت جسدي بخير أناملها المُضيئة بالحبِّ، تلك الرءوفة العفيفة الطَّاهرة الرءوم- كَم أحبُّ حبِّي لها – يكفيني أنَّكِ أمِّي كي أعيشَ إلى الأبد فهل يكفيكِ أننا أبناؤك كي تولدي في كل يومٍ مرتينِ لتجمعينا من جديد، حضنُكِ أوَّل المحطات وأجمل المحطات وأكثرها قدسيَّة ، حضنُكِ أشهى المحطات إلى الذاكرة.

أمي النبيلة، أخذَ مِن أعمارنا وأمدَّ في عُمرِك، دُمتِ لنا تلكَ الآية التي لا تتبدّل بتبدُّل الليل والنّهار، ولا تختفي باختفاءِ الأسرار، ولا تتركنا إلا حين تطمئن علينا، دُمتِ لنا أجمل محبوبةٍ لا بديلَ لنا عن حُبها، دُمتِ أمي – إلى آخر العُمر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى