الاثنين ٢٨ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم أنوار الأنوار

لا نعنع ولا حبق

لو كان لها أن تجاورَ رجلاً في قبره لما تمنّت سوى عظام شريف تضمّها .كانت طريّةً لمّا التقته لأول مرةٍ.. بصدره العريض وذراعَيه المفتولتين، بهرتها طلّته وهي عائدةُ من عند "العين" تتباهى بجرّتها تتمايل فوق رأسها فابتسمت ، لم تعرف كيف تسارعت النظراتُ والغمزاتُ واللقاءات حتى ارتجفت شغفاً وولهاً، ألقت بنفسها بين ذراعيه ذات لقاءٍ وتمسّحت بقميصه تتبلّل بعرقه كما لو كان ينبوعَ عطر، تشمّمت ذراعيه بنشوةٍ وشدّتهما حول جسدها المشتعل فانسكبت شهوتها لهفةً إلى نظرته المخلوطة من قوةٍ وصلابةٍ يلمع فيها حنانٌ فريد.

قبّلها بحبّ متأججٍ ووعدها بالزواج بعد أيامٍ لتبقى في حضنه إلى الأبد : "بسّ المهم نخلص من ولاد الكلبة اللي عم بيحاولوا يسرقوا البلد حبيبتي. ادعي لنا يا روحي الله يقدّرنا عليهن".

وكأنّما كانت عدوّةً لله وملائكته، فتناثرت دعواتها هباءً ، بل انقلبت وجهاً على قفا، إذ ضاع في المعارك ، والأنكى أن البلادَ ضاعت معه . قامت البلدة على ذهولٍ ذاك الصباح ،بعضُهم قال إنه قُتل في معركةٍ مع جماعةٍ من اليهود في حيفا، وآخرُ أقسم أنه تفجّر فيما كان يُعدّ سلاحاً ليهاجم به كتيبةً بريطانية ،أما النساء فكلٌّ منهنّ روَت لها حكايةً أخرى ، و كلّ ما تأكّد لها أن ذراعيه احتضنتا الكون كلّه وأنه كان أكثر رحابةً من أن يحتويَه قبرٌ من مترين.

استسلمت لتزويجها من خاطبٍ لها لم تكن ترى فيه إلا وحشاً ينقضّ عليها كل يومٍ ولا يرتوي من افتراسها، سلّمته جسداً بارداً فيما ظلّت روحُها تحلّق مع طيف شريف ، وها هي تلك الرجفةُ تعتريها من تذكّره بعد كلّ ما مرّ من العقود، حتى وهي على فراش الموت.
يتنهّد ُ قلبها: لو كان له قبرٌ لما تمنّت سوى أن تُدفن بين أحضانه إلى الأبد...

رنّ في أذنيها صوت ابنها ثائراً رادًّا على اقتراحٍ لأحدهم لم تتبيّنه جيدا :
 "والله والله أمي ما بتنزل على زلمي لو بحرق جثتها وبذرّيها بالهوا" !
وجارهم يسعى لتهدئته ويدلّلُ على فكرته بأن ربع نساء القرية قد دُفنّ في قبورٍ كانت لرجال:
 "شوف أم أحمد العلي..أم خليل.. ولك حتى أم صالح اللي كانت من عشرين سنة ميخذة قبر لحالها، من كم يوم نزّلوا عليها ابن أبو محمد اللي راح بالحادث"!...

 "بس كنّك ما سمعت كيف عيّروا إبنها لما تقاتل مع رفقاته بالشغل والا بدّك الناس تكسر عيني؟؟ أي والله بخلّيها تتعفن وما بدفنها على زلمي.. مش ناقصني معيار!! "

لو لم يكن عزرائيل رابضاً على لسانها يُحكم شدّ عقدته لتمنّت أن تطلقه ملعلعاً في وجه ابنٍ فاسد "يخجل أن تُدفن أمه في قبرٍ آوى يوماً جثة رجل ميت..ولا يخجل أن تضمّه كل ليلة صدور عاهراتٍ ياما آوت منيّ مئات الرجال!!"
لكن لسانها خذلها عن الزعيق في وجهه، وما لبث يتابع كلامه موضّحاً :
 "لو كان القبر لأبوي -الله يحفظه-، كنت بحطّها معه بس الله يطوّل بعمره ويخلّي لنا اياه "..

كادت تتنفس شبهَ صعداء مخنوقةً مبتورة ، لا تكاد تنجح في شهيقها ولا زفيرها لكن قلبها يحمد الله ويبجّله ممتنّاً لأنها تموت قبل زوجها كيلا تكون حجة لدفنهما معاً إذن. إنها لا تكاد تذكر منه إلا قسوته يوم هجّ الناس من البلاد ، قالوا إن أخاها يمرّ من عند "بير الخشب" ، رجَت زوجها لتودّعه قبل أن يكمل طريقه إلى لبنان فارّا من كتيبة جيش تلاحق الثوار ، "كلها يومين وبيرجعوا" قال بحدة أسكتتها! "كمّلي حصيدة وعا السكت" .. لكنّ أخاها لم يرجع، ولم تتكحل عينها برؤيته ، لجأ إلى لبنان ثم سافر للإمارات ثم لا تدري إلى أين، ويوم جاءها خبر وفاته كان قد فات الأربعين. اندفقت منها صرخةٌ فألجمها زوجها بلطمة كفّ كالمخباط :"بدّك الناس يعرفوا وييجوا يأجّروا علينا؟؟ هو مات ألله يرحمه وأنا ليش أدفع اللي معي حقّ تمر وقهوة وأجار كراسي لفتح بيت عزا؟؟ انخرسي وإذا حدا بيدرى إنه أخوكِ مات ما بيظلّ لك ببيتي عيش" !

أبلعها حتى صرختَها على أخٍ لم تعرف بالضبط أيّ ترابٍ لفّه، لم تلتقِ به حيًّا ولا عرفت لموته مكاناً ، وها قلبها لا يصمت عن شكر الله بعد أن أخرس المرض لسانها، ممتنةً لنعمة الموت أولاً فتنجو من قبرٍ يجمعهما. أصلاً إنها لا تحسبه يموت يوماً ، وكيف لمثله أن يموت ويكفّ عن اقتراف الذنوب والآثام؟؟!! لا تظنّ الله خلقه إلا ليدّخر ذنوباً لا تُحصى كي يجاورَ زوجةَ أبي لهبٍ فيلتفّ الحبل من مسدٍ على كليهما معاً.. ذاك ما يستحقه بالتأكيد .ألم يقل الشيخ يوم استشهد شريف:
"من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه"؟ وهل يحبّ الله لقاء ذئبٍ كهذا؟؟ ربّما أصلاً يؤخره في هذا العالم لأنه لا يطيقه عنده ولا يرغب بوجوده هناك! بل ربّما يتركه شريكَ الشيطان منذَراً إلى يوم يُبعَثون.. فما ينفكّ يجمع الآثام ويراكم الجرائم كي يتسنّى للملائكة أن تثأر منه كما يليق يومَ الدين.
هو الخلود إذن في هذي الحياة سبيلاً إلى تكديس الذنوب!?! ابتسم قلبها من فكرتها المجنونة إذ تصوّرت زوجها خالداً للأبد في هذا العالم لنفور الله من رؤيته ولقائه ، وكادت تنسى أنها على فراش الموت وأن ثمة مسألةً لا بدّ من حسمها بسرعةٍ قبل أن تزفر آخر أنفاسها.. فأيّ قبرٍ ذاك الذي يمكن أن يضمّها ؟؟

في الماضي كانت المقبرة واسعةً وكبيرةً ، والله إنها لَتذكرُ زمناً كان فيه كلّ ميتٍ في البلد يحظى بقبرٍ منفرد. كان هذا طبعاً قبل أن تحطّ السلطات يدها على الأراضي وتحدّد مساحة المقبرة !! .. والموتى كثروا وتزايدوا كلّ يوم، ذاك من مرضٍ وآخر من حادثٍ ، وغيره قهراً وكمداً وحزناً وحنقاً وسخطاً وغيظاً ووو "تعددت الأسباب والموت واحد" ، ولم يعد مكانٌ لقبورٍ جديدة، وجد الناس ملاذاً بفكرة دفن الميت على أبيه أو الابنة على أمّها أيامَ كان لكلّ عائلةٍ مكانها في القبور.

"سامحك الله يا زينب . سامحكِ؟؟! بل لا سامحك ولا رحم روحك. لو لم تسبقيني إلى الموت لكنتُ الأولى بالدفن مع عظام أمي رحمها الله ، ألستُ الابنة الكبرى والأحقّ بقبر أمي الهانئ الهادئ ؟؟ لكنها نفسك الأمّارة بالسوء ، لم تصبري حتى يأتيكِ عزرائيل مطالبا بالأمانة، سارعتِ تسلّمينها له وتعبّين موتك متلذذةً بنيل قبرٍ يكتسي دفئا تفتقده هذي الحياة الباردة!!"

ينفذ إلى مسامعها صوت ابنتها تقرأ لها القرآن :" قل يتوفاكم ملك الموت الذي وُكّل بكم ثمّ إلى ربّكم ترجعون"...

الكارثة أنه وُكّل بوفاتي ولم يوَكَّل أن يجد لي قبراً يؤوي عظامي. لماذا يا ربّ لم تخصص ملَكاًَ لإيجاد قبرٍ لعبادك المشرّدين في هذي الأرض؟!

منذ تكاثر الأمواتُ في البلد غدا من الممكن أن يُدفَن أحدهم مع أيٍّ من أقربائه حتى لو دُفن الشابّ على امرأةٍ عجوزٍ كما جارتهم أم صالح، بل ربّما يُدفن على من لا يقربه بصلةٍ أبدا، كأمّ أيمن التي دُفنت على سعيد الأحمد لا لشيءٍ إلا لأن سنواتٍ مضت على موته فأمكن فتحُ قبره من جديدٍ، بينما معظم القبور فُتحت للمرة الثانية أو الثالثة أو حتى العاشرة في السنوات الأخيرة لاستقبال أمواتٍ جدد لم تفنَ جثثهم بعد.. .

ما أبشع الموت في بلد عزّت فيه حتى القبور!!

لمّا ضاقت المقابر بأهلها ، باتت تًعدّ على أصابع اليد تلك القبورُ المقفلةُ منذ سنواتٍ طويلةٍ.. بل إنّ أهلها محسودون جدّاً ..والمدهش أنّ الناس صاروا يتسابقون إلى الموت كي يفوز أحدهم بالدفن في أحدها قبل أن ينالها غيره فلا يجد لنفسه قبراً، حتى القبور باتت مكسباً يتلهّفون إليه في هذي البلدة البائسة !
"أينما كنتم يدرككم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيَدة"
يدركنا؟؟!! بل ندركه أو نسعى لذلك!
تكادُ تبتسم لولا الشّلل الذي أصاب شفتيها منذ سمعت الطبيب يؤكّد لجميع الملتمّين من حولها بأنها سويعاتٌ فقط وتغادر هذا العالم، فمعظم أجزاء جسدها قد توقفت عن العمل ، وبادرت روحُها شقّ طريقها نحو الانفلات .

من بين أصوات المجتمعين الحائرة ،ذاك قارئاً القرآن وآخر متسائلا أنّى يمكن أن نجد قبراً.. وأخرى ترثيها قبل أن تغادر، وغيرها تلحّ أن التخلّص من الجثة لا بدّ أن يتمّ على وجه السرعة كيلا تتعفن، تتميز نبرة الشيخ يلحّ عليها أن تذكر الشهادتين بقلبها قبل أن تغرغر (كي تحسن خاتمتها قال) ... لكن صوت أذان العصر صفعها ومَن حولها ! الوقت محدودٌ إذن !
انفعلت ابنتها مستعجلة: "ما دام أذّن العصر لازم نلحق نحفر قبر لأمي لأنها مش مطوّلة . والله حاسّة نُصّ روحها صارت برّّا . لازم نهيّي قبر عشان نلحق ندفنها قبل العتمة".

يجود زوجها باقتراحٍ كان كافياً ليهيّج روحها : " ندفتها على أمي ونختصر الوقت"!

هذي كارثة!!

لو أنها ملكت أن تتحرك لانتفضت هاربةً! وفّر اقتراحاتك الجشّاءَ بحق الله يا فرخ إبليس.. وهل تحتمل مجاورةَ تلك الشمطاء (لعن الله روحَها) برزخاً قد يطول ويطول ولا أحد يعرف فجره متى يحين؟؟ وماذا تراه يحدث في ذاك القبر ؟ لا ريب أن ملائكة جهنّم قد غادروا السماء واجتمعوا كلّهم في تلك الحفرة ليشفوا غليلهم من تلك اللئيمة حماتِها ولم يملكوا الانتظار إلى يوم القيامة ! ولا شكّ أن قبرها يزخر بأنواع العذاب التي لا يمكن لعقل بشرٍ أن يتصورها.. أقلّ ما يمكن أنها كلما سُلخ جلدها بُدّلت جلداً غيره يشهد بما اقترفت يداها!! وما من شكّ أن تلك "اللظى" لا تتواجد في السماء بعدُ، بل هي ذاتها قبر تلك الملعونة تنتشي بنزع شواتها، فهل تكون رقدتها الأخيرة يا ربّ في تلك ال "حفرة من حفر النيران"، بعد كلّ ما ذاقت في هذي الحياة ممّا صبرت عليه من أهوالٍ أملاً في آخرةٍ أفضل؟؟؟

إذا كانت تلك الآخرة تًستهلّ بقبرٍ يزدحم بألوان العذاب فما الذي سيتبعه إذن في يوم الحساب؟!

لكن بعضاً من الطمأنينة كاد يتسلل إلى قلبها لمّا سمعت ثورة أخت زوجها معترضةً بشدّة مطالِبةً بحقها :"قبر الأم للبنت خيّا مش للكنة"!

الحمد لله!!

خذيه بربّك واشبعي به ليكون قبر سعلاتين معاً! ترى ما الذي سيحدث حين تجتمعان في قبرٍ أيتها الحيزبون ابنة الحيزبون؟؟

لا شكّ أنّ اختراعاً مبتكَراً لألوان من العذاب سيكون هناك.. أممممممممم!

تتمنى لو أمكنها أن تضحك شماتةً ، لكنّها روحها، تكاد تلفظها، تتعالى شهقاتٌ وزفراتٌ لا تدري إن كانت منها أو ممّن حولها فتصيح ابنتها :"مسكينة يمّا بدها تطلع روحك و.....؟؟ "

ربّما كان عزرائيل أو أحد أتباعه ذاك الذي تقرفص على باب روحها الرئيسيّ وربما شيءٌ آخر أو حتى لا شيء.. لم تعد تسمع شيئا. تشوّشت الأصوات وضاعت النبرات في ضوضاء غريبةٍ عجيبة.. والألوان غدَت ضباباً واكفهراراً! شيءٌ من الدّوران لفّها بقوّةٍ وجبروت. لم تعُد تعي تماماً ما الذي يحدث ... ولم تتمكن أن تميّز بالضبط :"هل وجدوا لها قبراً أم لا"!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى