الأربعاء ٣٠ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم نادية بيروك

الحرمان

لا أعرف كيف قابلته، ولا متى رأيته، ولا حتى كيف تحدثت إليه. كل ما أذكره أنه كان هناك يجلس على الرصيف، يجر أثمالة البالي في حيطة وحذر. كلما أراد المشي، يلتفت يمينا ويسارا كالأبله، يتطلع إلى الناس في سذاجة، يمد يده اليمنى في استحياء ظاهر، يستجدي عطف المارين، لعل أحدهم يشفق عليه فيرمي له ببعض الريالات أو الدراهم. قد ينهره هذا أو ذاك أو تسخر منه هذه أو تلك. لكنه لا يغضب أبدا ولا يتفوه بشيء، بل ترتسم على محياه نظرات حزن عميق وتقرأ على ملامح ذلك الوجه الصغير الذي لوحته الشمس، كل معاني الفاقة والبؤس والحرمان. تشعر وأنت تنظر إليه بالحسرة والألم

وتتمنى لو استطعت أن تحمل عنه بعضا مما يحمل، أو أن تعزيه إن كانت التعزية تدخل السلوى إلى قلبه الكسير. آه كم أنت قاسية أيتها الحياة!

كل ما أذكره، أنني اقتربت منه دون أن أشعر حيث رأيته يتعثر بتلابيب ثيابه البالية ويسقط، فتتناثر بعض الريالات هنا وهناك. يلتفت إليها في لهفة ووجل، حينئذ بدأت أجمعها له وأنا أطمئنه أنها في أيدي أمينة، ثم أساعده على النهوض، وأردها إليه. فتمتد اليد ذاتها التي كنت أراها من بعيد، لكنني أراها هذه المرة عن قرب، يد بأربعة أصابع، كان منظرا مهولا! لم أتوقع أبدا أن يكون ذلك الطفل البريء بأربعة أصابع فقط. أتقسو عليه الحياة إلى هذه الدرجة؟ أيكون القدر مفجعا إلى هذا الحد؟ فوجئت بذلك المنظر غير المتوقع، فانزلقت الريالات من بين أصابعي

ووقعت على الأرض، فقرأت في عينيه نظرات غضب وعدم رضا، انحنى الصبي في عجلة من أمره، ثم أخذ الريالات التي وقعت، نظر إلي نظرات غير مفهومة وبعدها أدار ظهره ماشيا بضع خطوات، انفلتت كلمة من بين شفتي لا أدري لم و لا كيف:

 انتظر؟

 ماذا تريدين؟

كان صوته، أجل أنا متأكدة أنه صوته، صوت أجش كأنه صوت شاب يافع، أو صوت رجل قوي، لا صوت صبي لا يكاد يتجاوز العاشرة من عمره، عندها سألته قائلة:

 هل لديك أهل؟

 لم تسألين؟

 لا أدري، هكذا؟

 ليس لدي وقت أضيعه معك دون طائل ألديك نقود؟

 أجل، لكني لن أعطيك فلسا! إن لم تجب عن أسئلتي؟

 حسنا، أنا لا أهل لدي ولا شيء لدي.

 كيف تعيش؟

 كما ترين أتسكع في الشوارع، مرة تجود علي بعض الأيادي الكريمة بالعطاء ومرة تزج بي أيدي قذرة في السجون.

 السجون !؟ أفي هذا السن؟!

 أجل في سجن الأحداث، لقد أجبتك عن أسئلتك أعطني ما وعدتني به.

تذكرت حينئذ أنني وعدته أن أعطيه بعض النقود، التي زعمت أني أملكها رغبة في سماع قصته. امتدت يدي إلى جيوبي، لكنها ارتدت إلي خائبة فارغة، علا وجهي الاحمرار، لا أذكر كيف تخلصت من هذا الموقف الحرج، كل ما أذكره أني شردت بعض لحظات وسط الخجل والحرج الذي وقعت فيه،

وبعد أن عدت إلى وعيي وجدت أن الصبي قد اختفى. حمدت الله على ذلك، لكن صورته ظلت موشومة داخل مخيلتي، صورة الطفولة المعذبة، صورة الحرمان المجسدة، صورة طفل بريء رمى به القدر إلى أمواج الزمن الهائجة العاتية تعصف به الرياح فيرتطم بالصخور ويعلق في الأوحال، لكنه لا يصل إلى الشاطئ ولا يستقر على حال، بل يبقى هكذا معلقا تتربص به براثين الدهر، وتتقاذفه عوادي الأيام، فلا يبلغ أبدا برالأمان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى