الأحد ١ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم طه هنداوي

الدليل المكانى فى الرواية

عند سمير المنزلاوي وأحمد ماضي

يكتسب المكان فى الرواية أهمية كبيرة، لا لأنه أحد عناصرها الفنية، أو لأنه المكان الذى تجرى فيه الحوادث، وتتحرك خلاله الشخصيات فحسب، بل لأنه يتحول فى بعض الأعمال المتميزة إلى فضاء يحتوى كل العناصر الروائية، بما فيها من حوادث وشخصيات، وما بينها من علاقات، ويمنحها المناخ الذى تعمل فيه، وتعبر عن وجهة نظرها، ويكون هو نفسه المساعد على تطوير بناء الرواية، والحامل لرؤية البطل ، والممثل لمنظور المؤلف، وبهذه الحالة لا يكون المكان كقطعة القماش بالنسبة إلى اللوحة، بل يكون الفضاء الذى تصنعه اللوحة. كما أن المكان فى الرواية قائم فى خيال القارئ، وليس فى العالم الخارجى، وهو مكان تستثيره اللغة، من خلال قدرتها على الإيحاء، ولذلك كان لابد من التمييز بين المكان فى العالم الخارجى (الجغرافى) والمكان فى العالم الروائى (الفنى)، يظهر المكان فى الرواية التقليدية مجرد خلفية تتحرك أمامها الشخصيات أو تقع فيها الحوادث، ولا تلقى من الروائى اهتماماً أو عناية، وهو محض مكان هندسي.وفى الرواية الرومانتيكية يظهر المكان معبراً عن نفسية الشخصيات، ومنسجماً مع رؤيتها للكون والحياة وحاملاً لبعض الأفكار.وعلى ذلك يمكن للمكان أن يعد البنية التحتية، كما يمكنه أن يحقق بنية فوقية يغدو فيها المكان فضاء، وذلك عندما يسهم المكان فى بناء الرواية وعندما تخترقه الشخصيات "فيتسع ليشمل العلاقات بين الأمكنة والشخصيات والحوادث، وهى فوقها كلها ليصبح نوعاً من الإيقاع المنظم لها" [1].

"إن الوضع المكانى فى الرواية يمكنه أن يصبح محدداً أساسياً للمادة الحكائية ولتلاحق الأحداث والحوافز، أى إنه سيتحول فى النهاية إلى مكوّن روائى جوهرى ويحدث قطيعة مع مفهومه كديكور" [2].

وهكذا يدخل المكان فى الرواية عنصراً فاعلاً، فى تطورها، وبنائها، وفى طبيعة الشخصيات التى تتفاعل معه، وفى علاقات بعضها ببعضها الآخر, كما يتجاوز المكان وظيفته الأولية المحددة بوصفه مكاناً لوقوع الأحداث، إلى فضاء يتسع لبنية الرواية، ويؤثر فيها، من خلال زاوية أساسية، هى زاوية الإنسان الذى ينظر إليه.

(موسم الرياح) رواية لسمير المنزلاوى يمكن العثور فيها على الواقعية السحرية التى سادت فى أمريكا اللا تينة ومن روادها (ماركيز) خاصة رواية (مائة عام من العزلة) والتى يمكن العثور عليها من اختيار المنزلاوى لأماكن مدهشة, فالقرية المختارة (محلة الأنصار) تشبه الأسطورة من حيث موقعها وموضعها، فنجد أن التضاريس نجتمع فى مكان واحد (البحر –البحيرة – النيل – المستنقعات – الكثبان الرملية ...)، فهذا المكان العجائبى متعلق بالظروف الإبداعية، وملتحم بالسكان والحيوانات والطقس بحيث يتحول الزمان والمكان إلى شيئ واحد، وتنهار الأحداث جميعا لونقلت إلى مسرح آخر, وعندما يستعين المنزلاوى بوصف المكان أو تسميته، فهو لا يسعى إلى تصوير المكان الخارجى، وإنما يسعى إلى تصوير المكان الروائى ، وما استعانة الروائى بالتسمية أو الوصف إلا لإثارة خيال المتلقى.

إن بيئة كفر الشيخ بيئة جاذبة للغموض والأسطورة,حيث يختلط فيها الدين بالسحر والتجارة والمهارة والخداع والخبرة الذهنبة.

كما أن الخوف من البحر فى الرواية هو الخوف من المجهول , حيث يخشى الناس السلطة وضيق الرزق ورجال الدين وموظفي الحكومة والجيران والأقارب والتقلبات الجوية, ومواسم نضوب الرزق, وينعكس ذلك بالضرورة على الشخصيات ويصبغها بالصبغة التى تبدو فى ظاهرها عدوانية وهى فى الحقيقة نوع من الصمود أمام الواقع المحير ومحاولة التكيف مع بيئة عنيفة يكمن الرزق فيها تحت الماء ولا تكاد تسعف الوسائل البدائية فى الصيد على ما يسد الرمق فيقولون إنه – البحر- ملك جبار سخره الله لإغراق الظالمين ......تبقى علاقتهم اليتيمة به قاصرة على تمييز النوات والريح ويقولون :- هذا أوان نوة قاسم ، الرياح شرقية أو غربية ، اشرب من البحر, ...... [3].

ويظهر المسجد جليا كمكان للالتقاء وللقص والتداول وهو تيمة جديدة فى القص الروائى العربى, فقد أحجم معظم الأدباء عن ولوج دور العبادة والإكتفاء بالإشارة إليها من بعيد، ولأنها- فى رأيى- المرة الأولى التى تجرى فيها معظم أحداث رواية عربية فى المسجد، وأن هذا المكان هو المساحة الوحيدة التى تخلو من الاضطهاد والخوف والقمع , وربما أيضا تخلو من التفرقة العنصرية ، واستطاع الكاتب هنا أن يستعيد جو بغداد فى العصر العباسي حيث الفرق الكلامية المتعارضة (لاحظ المفارقة بين رواية المسجد القبلى والمسجد الشرقى) فيمكننا ببساطة أن نقول بأن أحدهما يمكن أن يمثل السنة والآخر يمثل الشيعة, ورغم سذاجة المناقشة والمشاجرات إلا أنها تعكس خصوبة عالية ورغبة شديدة فى التواصل مع الجذور وكشف المستور ومحاولة الوصول إلى لب الحقائق , فرواية المسجد القبلى عن ياقوت السفرجى تكذبها رواية المسجد الشرقى [4]، وكذلك رواية الشيخ محمود الجابرى إمام المسجد القبلى عن أن أبيه أخذ العهد على الشيخ جابر السهلبى فى الضريح فخرجت يد الولى الشريفة من تحت الكساء وبايعته,فى حين يرفض الشيخ عبد افتاح البحراوى ذلك ويعلن على الملأ جهل الشيخ محمود الجابرى ويقول إنه مبتدع ويسوق الأكاذيب ليتخم جيبه بالنذور, ويرى أن الموالد أسواق للشياطين والجهلاء(ص45-46 ).

وإذا نظرت إلى الضريح – الولى- ترى أنه يمثل الأمل فى تجاور اللحم والدم فى حياة قصيرة , واستشراف حياة أخرى لٌلإنسان يتصرف فيها من وراء الستار ويلعب دورا لاينتهى بالوفاة, وهى تيمة مصرية قديمةآمن بها الفراعنة .

أما السراية ,فقد استخدمت بشكل غير تقليدى , فصاحبها مستنير , حافظ للقرآن ,يتعامل مع الناس بإنسانية ,يجالسهم ويسهر معهم ويأخذ رأيهم فى كثير من الأمور ويأخذ برأيهم فى إقامة بعض المشاريع كماكينة الطحين ومراكب الصيد

 [5]...وفقد حياته فى محاولة للتطور فى حادثة السيارة , فقضى على عصر كامل , ودخلت القرية فى التطور و أعلن المكان حداده أربعين يوما.

إذن "يمكننا النظر إلى المكان عند المنزلاوى بوصفه شبكة من العلاقات والرؤيات ووجهات النظر التى تتضامن مع بعضها لتشييد الفضاء الروائى، فالمكان يكون منظماً بنفس الدقة التى نظمت فيها العناصر الأخرى فى الرواية، لذلك فهو يؤثِر بعضها، ويقوّى من نفوذها، كما يعبر عن مقاصد المؤلف" [6].

(الظلام الدافئ) روايةلأحمد ماضى:-
لأنه دافئ الوجدان والأحاسيس فقد حرك شخوصه وحرّكته الأحداث عبر الزمان على حساب المكان , ولأنه يذوب فى عبدالناصر فقد تفرغ لإبراز المفارقات مع غيره عل لسان تلك الشخوص مع نمو التاريخ.

فالمكان فى الرواية معظمه جغرافيا ينطلق منه الراوى من مرحلة طفولته حتى نهاية أحداث الرواية مرورا بأماكن (كمحطات) لا ينمو فيها الحدث, ويأتى ذكر هذه الأماكن ( التى يحفظها الراوى)لإقناع القارئ بواقعية الحدث فيذكر (قرى طنطا , كفر الشيخ ,القاهرة الاسكندرية, درنكة, امبابة, السودان, ليبيا .....) , أما المكان المحورى الذى أثر فى الراوى البطل –أحمد موافى- والذى يروى من خلاله سيرة الذات هو بيت جدته شهدة فى إمبابة,ذلك البيت الذى ولد فيه الحب ونما (ص53-67 )....فيقول : أرى وجه رئيفة يطل علىّ من سحاب وردى..يتصاعد من أعماقى .. أو من سطور روايات الحب ..إنها "إنجى" فى رد قلبى و "فايزة" فى الطريق المسدود و"سميحة" فى الوسادة الخالية و"سكاليت"فى ذهب مع الريح........ما أحوج كل منا إلى النور الدافئ ليمضى إذ ما أكثر من يمضون حياتهم وهم يفتقدون واحدا من هذين المجدافين .. النور .. و.. الدفء فهو إما فى ظلام دافئ .. أو صقيع مضئ. ذلك المكان الذى نما فيه الحب وهو نفسه الذى لم يثمر فيه , وقطفه غيره فعاش على الذكرى.

المكان المكانة : منصة التتويج بالدكتوراة بدون رئيفة لاطعم لها,....., الدكتوراة مع مرتبة الشرف تصفيق يعلو ..لماذا ؟ .. إنهم يصافحوننى ؟ لماذا؟ إنهم يقبلوننى ؟لماذا؟ ...طفرت من عينى دمعة وهم لايعلمون أنها دمعة الألم لأننى حصلت على هذه الدكتوراة بعيدا عن رئيفة.(ص267)

المكان الحلم : إن إضفاء صفات مكانية على الأفكار المجردة يساعد على تجسيدها، وتستخدم التعبيرات المكانية بالتبادل مع المجرد مما يقربه إلى الأفهام، وينطبق هذا التجسيد المكانى على العديد من المنظومات الاجتماعية والدينية والسياسية والأخلاقية والزمانية " (سيزا 75).

( واحة العريش) مشروع التخرج الذى حدد مكان إقامته غرب مدينة العريش , صمم رسمه على الطبيعة وحلم بتنفيذه على أرض الواقع مما أدهش أساتذته وأصدقاءه (ص78-80 )غير أن الحلم مات فى مهده مع هزيمة 67 وسقوط مدينة العريش وحلم الوطن المكسور فى أيدى اليهود.(ص105-108 ),

أما ارتباط الراوى البطل بالمكان الأم (الموطن) فكان قسرا , عاد إليه رغما عنه , فقد أعاده أهله بعد براءته لعدم قدرته على الحركة أو الكلام أو حتى السمع, فما أن وصلوا به إلى مشارف القريةحتى شاهد مئذنة مسجد داش , ثم منزل أبيه الجاثم على أرض الحقيقة تاركا خلفه منزلا محطما فى العاصمة, وفى حسرة من أمره يدخل المنزل فيقول: أنا الآن فى منزلى الموروث .. وشباكه البحرى المفتوح, تلك هى حجرة أبى.. هذا هو مكان سريره الذى مات عليه .. جئت لألقى موتتى هنا .. فى نفس المكان الذى مات فيه أبى.(ص377 ), هذا العالم الذى يعيشه أحمد بما يحمله من غربة وعزلة عن العالم الذى ينتمى إليه, وما الشباك البحرى إلا نافذة نحو الخلاص يطل من خلاله على (أرض الحقول الخضراء ) ومئذنة المسجد الذى شيده داش , إنه الإيمان و الذكرى.

إن لوصف المكان وظائف متعددة، منها التصوير الفنى للمكان، ومنها التمهيد للشخصية التى ستخترق المكان، فمن خلال وصف المكان يتم التمهيد لمزاج الشخصية وطبعها، فيصبح المكان "تعبيرات مجازية عن الشخصية، لأن بيت الإنسان امتداد له، فإذا وصفت البيت، فقد وصفت الإنسان" (ويليك 288).

شخصية واحدة ارتبطت بالأرض , فعلى الرغم من أن هذه الشخصية تم اقتلاعها من الأرض ولم تُقتَلع منه الأرض – داش- ذلك الأخ الذى حفظ المكان وعاداته يذهب للحقل مبكرا دون فطور ويترك أمه نائمة,ويعود وقت الضحى قاصدا غرفة المعايش يلتمس الأثر الباقى من فطور والده, وهو المطيع الخدوم الخجول الهادئ الذى يتحول إلى ثور هائج إذا مس أحدهم حدود أرضه ,......, يجهز البغلة لأبيه بكسوتها الرائعة , يحكم زمامها ممسكا بلجامها حتى يثب, يناوله اللجام والعصا (ص1 ,2 ) , داش ذلك الوديع الذى ينطبق عليه المثل القائل (اتق شر الحليم إذا غضب)لما وجّه ابراهيم حسنين الإهانة له ولأبيه قام بطعنه , وهرب إلى درنكة(ص36 ، 37 )، وعندما وصل اسماعيل حسنين ورجاله إلى أسيوط وأطلق عليه الرصاص فى محاولة قتل فاشلة , هرب داش من المستشفى ووصل إلى طنطا فى وضح النهار بسيارة تحمل لافتة أسيوط وأفرغ فيه رصاصات مسدسه وعاد إلى أسيوط . [7]. داش الذى اشترى أرض اخوته ولم يسمح ببيعها لأحد رغم بعدها عنها وأقام عليها مسجدا تعلو مئذنته مئذنة مسجد الأوقاف.

إن العالم الخيالى للرواية الدرامية يقع فى الزمان، وأن العالم الخيالى لرواية الشخصية يقع فى المكان، ففى الأولى يقدم لنا الكاتب تحديداً عابراً للمكان، ويبنى حدثه فى نطاق الزمان، وفى الثانية يفترض الزمان، فيكون الحدث إطاراً زمنياً ثابتاً، يوزع دائماً، ويعدل مرة بعد أخرى فى نطاق المكان، فالثبات والخط الدائرى فى حبكة رواية الشخصية، هما اللذان يكسبان الأجزاء تناسبها ومعناها، أما فى الرواية الدرامية فتسلسل الحدث وحلّه هما اللذان يصنعان ذلك" [8].

الهوامش

  1. الفيصل، د. سمر روحى الفيصل، بناء الرواية العربية السورية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1995.
  2. بحراوى، حسن، بنية الشكل الروائى، المركز الثقافى العربى، بيروت، الدار البيضاء، 1990.
  3. ويليك، رينيه ، وارين ، أوستن، نظرية الأدب ، ترجمة. محيى الدين صبحى، مر.د. حسام الخطيب، المجلس الأعلى لرعاية العلوم والفنون والآداب، دمشق، 1972.
  4. قاسم، د. سيزا أحمد، بناء الرواية ، دار التنوير، بيروت، 1985.
  5. موير، إدوين، بناء الروايـة، تر. إبراهيم الصيرفى، مر. الدكتور عبد القادر القط، الدار المصرية، القاهرة، لاتـا .
عند سمير المنزلاوي وأحمد ماضي

[1الفيصل 253

[2(بحراوى 33)

[3(ص95 ,96 )

[4(ص9 ,13 )

[5( 67 –93 )

[6(بحراوى 32)

[7(ص 175 ,178 )

[8(موير 62)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى