الأربعاء ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم أمينة شرادي

نامت عيناه....

تركته نائما.جلست إلى جانبه أتفحص ملامحه الهادئة و أراقب حركات تنفسه الهاربة من صدره.و التي كانت ترفعني إلى أعلى السموات و ترمي بي أرضا كعصفور أصابته رصاصة و أردته قتيلا.فتنفتح ساعتها شرايين قلبي و يتدفق الدم بشكل جنوني حتى أكاد أقع.مسحت على رأسه بيدي،و تذكرت يوم أخذته إلى الحلاق،طالبا منه أن يخلصه من الشعر الزائد الدي استوطن كل رأسه.عدت إلى بيتي أنتظر غدا آخر يحمل أملا كبيرا.

كلما رن الهاتف، أحمل قلبي بين يدي و أنتظر الصوت القادم.و أقول إنها النهاية التي سحقتني و أفرغتني من الداخل.كنت دائما أول من يتلقى الخبر كأنني في جبهة قتال.عدت و عند كل عودة أنتصر فيها على الزمن.أجلس إلى جانبه، أتحدث إليه.أنظر مليا إلى عيونه حتى أستشف رحيق الأمل الذي أبحث عنه.

نام من جديد.لم يعد يكلمني كما كان.لم يعد ينظر إلي كما كان.يحرك شفتاه بكلام مبهم و يعود إلى صمته.و لما تلمسه يدي و تحاول أن توقظه، يرفض الاستجابة و يستكين إلى أحلامه التي لا يراها إلا هو.جلست إلى جانب سريره أحتمي بذاكرة الأمس الجميلة، حيث كان الزمن الجميل يتربع على كل لحظة من لحظات حياتنا اليومية البسيطة.و كان أبي شامخا برقته و تواضعه و تسامحه.قال لي يوما"يوم صرخ صرخة الميلاد، رحلت أمه ووجد نفسه يتعلم كيف يصرخ لوحده..."ابتسم ساعتها طويلا،سألته:

- لمادا تبتسم يا أبي؟ أجابني بكل عفوية:

- يوم دخل المستعمر إلى وادي زم…، كنت مراهقا و لم أكن أدرك ساعتها بأنني شجاع و لا أهاب أحدا.

طلب أن يشرب ماءا و أنا أنتظر أن يكمل الحكاية كأنني في حلقة من حلقات جامع الفنا بمراكش.على ذكر مراكش،هو من مواليدها الأولين الدين شربوا من مائها الطاهر و ارتووا من حليبها و تلحفوا بسمائها الحنون كأم تفتح ذراعيها لمعانقة أطفالها.اشتاق يوما إلى زيارة مدينته الحمراء بعد غياب طال عليه الزمن و تغيرت ملامح كل من عرفوه عن قرب أو صادفوه يوما في أزقة من أزقتها الصغيرة .أخذته إلى هناك،كان يوما حارا ،غزى العرق وجهه، لم يطلب ساعتها ماءا،طلب مني أن نسير دون توقف و دون طرح أي سؤال.استنشق كل الهواء الذي كان يلفح وجهه الطفو لي.كان يتحرك بمنتهى الخفة و الحرية كأنه ترك المكان بالأمس.عدنا ليلا وكأنه لم يبرح مكانه.و أخد يحكي حكايته لمن في البيت. فسألته:

ماذا حصل؟

حاربت الفرنسيين و أنا لا أحمل سلاحا.و ظلوا يبحثون عني لرميي في السجن.كم كنت فخورا ساعتها بنفسي الصغيرة.

رغبت في معرفة المزيد عن هده الحياة البطولية التي كانت نائمة في ذاكرته كل هذه المدة.سكت عن الكلام المباح و طلب مني أن أساعده على الوقوف حتى يريح ظهره من التمدد الطويل.نطت دمعة من عيني ..أخذت أدرع الغرفة ذهابا و إيابا.تهت بين الدروب و الأزقة، لا هدف لي.تصادفني وجوه بلهاء متشابهة،أبحث عن إجابة لحيرتي مع الزمن...وعدت أدراجي أسأل عن حال أبي،وجدته في مكانه كشجرة البراري،رافضا لكل تغيير لوضعيته.طرحت عليه من جديد أسئلتي البليدة و التي أحبها لأن في إجابتها راحة لروحي الحزينة.ابتسم كعادته،عدلت من جلسته،طلب أكلا و ماءا ثم نام.تكلمت إليه كثيرا دون أن أنتظر جوابا.سلمت عليه و الفرحة تتملكني.تحسنت حاله بعض الشيء.حل نور غريب على وجهه و أسرى في باقي أعضاء جسمه.ارتاحت ملامحه و اختفت تجاعيده و استسلم إلى النوم كمحارب عاد تواقا إلى لحظات من الحياة العادية.وعدته بالزيارة في الغد بقبلة على جبينه.

الهاتف يرن في وقت غير معهود.ترددت في البداية،ولجت إلى غرفة أخرى آملة أن يكون هناك خطأ ما.لكن تكرار رنينه مزق كل لحظة من لحظات أملي،أخذت الهاتف بيد مرتعشة كمن سيسمع حكما بالإعدام.قلت بصوت واهن:

 نعم.

صوت يأمرنني بالحضور في الحال.تحجرت الدموع في مقلتي.جفت حنجرتي. فر مني صوتي.قلت إنها غفوة و سيصحو.. رحل في غفلة مني .فعلها الزمن.سحقني الزمن. احتميت بالصمت و عدت إلى الأمس القريب أنام بين أحضانه، أسأل عن أبي الذي حزم حقائبه ورحل مع أول نور اخترق فضاء غرفته من النافدة و التحم مع وهجه في سكون قاتل.. ورحل.أسأل عن الرجل الذي كان يبسط يديه لكل من يقرع بابه و لا يرده خائبا و لو بالأمل الموعود.أسأله عن ما عاش راضيا مرتاح الروح و القلب.يفرح عند كل صباح من صباحيات أيامه العادية، و ينام كالطفل بعد يوم شاق من اللعب على نغمات موسيقى فريد الأطرش.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى