الخميس ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم محمد متبولي

عزلة

اسم غريب، دائما ما كان يتندر على زملائى فى مدرسة المخيم بسببه، فتاة جديدة تنضم الى مجموعتنا لتلعب معنا المساكه وتسأل كالمعتاد.
 ما أسمك
 اسمى عزلة
 عزلة ومن عزلك يا ترى

أتقبل مزاحها بصدر رحب، ونضحك جميعا، يوما ما سألت امى لماذا اسميتمونى بهذا الاسم، فأجابتنى:
 لقد جاء الهاتف لأبيك يوم مولدك، وهمس فى اذنه عزله فأسماك بهذا الاسم.

نعاود اللعب مرة اخرى، فجأة تحتجب الشمس، وتظهر سحابة غائمة فى الافق، يضئ البرق السماء وترتفع اصوات الرعد، ثم يبدأ المطر، كتل صلبة ما ان ترتطم بالارض حتى تنفجر، و الدماء تبدأ بالانتشار فى مشهد اصبح مألوفا.

 دماء من هذه؟
 عائشة، كاملة، نادية،..........،........،.........، وهلم جر، منذ لحظات كن يلعبن معنا المساكة، و الان نودعهن الى مثواهن الاخير.
 لماذا هاجموا المخيم هذه المرة؟
 بحثا عن زياد
 من زياد؟
 انه الفدائى المعروف
 لا انه الارهابى الدولى الذى يطالب برأسه العالم

 فدائى، ارهابى، استشهادى، أقاويل شتى وحالة من اللغط وخلط الاوراق، والخسائر عشرة قتلى ومائة مصاب نصفهم من النساء والاطفال، علاوة على تهدم الكثير من المنازل وتسوية المدرسة بالارض، دائما ما تسوى المدرسة بالأرض، ترى لماذا المدرسة بالذات؟

كل عام فى نفس التوقيت تقريبا يأتى رئيس المخيم ليفتتح المدرسة بعد اعادة بناءها، حينها كنت افتخر كثيرا بأبى، واميل على زميلاتى قائلة لهن انظروا ذاك الواقف بجوار رئيس المخيم، انه ابى أحد مساعديه، كانت البنات يهنئننى على ابى ما عدا نادية كانت تبكى بحرقة كلما سمعت منى ذلك، سألتها مرة لماذا تبكين؟، فقالت لى لقد كان ابى يوما ما يشغل نفس الموقع الذى يشغله ابيك، لكنه لقى حتفه وهو يتلقى الطلقات بدلا من رئيس المخيم ليحميه، حينها أصبت بحالة من الذعر، هرعت الى ابى متوسلة اليه ان يترك ذلك العمل الخطر وان لا يخاطر بحياته ليبقى معى انا وامى، فقال كلمته التى مازالت ترن فى اذنى: (انا اباك لكن هو ابا للمخيم كله، ان مت انا سيكون هو ابيك بدلا منى، لكن ان مات هو من سيتبنى ايتام المخيم الذين يزدادوا كل يوم، فالرئيس هو رمز المخيم والدليل الوحيد على انه وجد يوما ما)، قالها وبعدها بأيام قليلة لقى مصرعه وهو يحاول اجلاء الرئيس اثناء أحد الغارات، لأقف انا أشاهد الرئيس وهو يفتتح المدرسة وانا ابكى على ابى و نادية وابيها، و ربما من سيموتوا فى المستقبل.

يتجدد القذف، مشهد متكرر، بعد توقف النيران، تهرع الامهات والزوجات بحثا عن ذويهم بين الجرحى والقتلى، ثم يعلو الصراخ والنحيب، لكن هذه المرة أعلى من اية مرة اخرى
 ماذا حدث؟
 لقد قتل رئيس المخيم
 ومساعدوه
 لم يصب احد منهم بسوء؟
 ترى لماذا لم يضحى احد منهم بنفسه، هل انتهى من يضحون بأنفسهم بنهاية والدى ووالد نادية، لا أعلم.

فالان افقد الاب المختار ويفقده معى ايتام المخيم، ويصبح الجميع بلا رمز.

يقف كل واحد من مساعدى رئيس المخيم حول جسده الصريع معلنا نفسه الخليفة المنتظر والأولى بالولاية والاقدر على القيادة فى مواجهة القصف، يحتدم الصراع بينهم، يتشاجرون من اجل حكم العزل الضعفاء، يعلو صياحهم، ثم يحتكم كل واحد منهم الى جماعته ويبدأ تبادل اطلاق النار، ويعاود الغرباء القذف الجوى، يحاول كل واحد من سكان المخيم الاحتماء لكن كيف والضرب اصبح من الداخل والخارج، من الاعلى والاسفل، من كل حدب وصوب.

شاظية طائشة تجد سبيلها لجسد امى، تصرخ بشدة من الألم ثم تسقط على الارض، ترى من اين اتتها هل ممن يضربون من أعلى ام ممن يضربون من اسفل، الجرح ليس غائرا، يمكن مداوته، أذهب لطلب المساعدة، الاعمام، الاخوال، الاصدقاء، الكل مشغول بالقتال، اصيح
بأعلى صوتى

 اغيثونا، اغيثونا
 لا أحد يسمع
 ارفع صوتى، اتوسل للجميع
 لا أحد يسمع
 ارفع صوتى الى اقصى درجة، حتى اننى نفسى لم أعد اسمعه بعد ان علا عليه صوت النيران.

أجلس بجوار امى، اتابعها وهى تفقد دمها قطرة قطرة، تبكى وتتألم، ثم فجأة نسيت جراحها، وأخذت تحكى عن ذكرياتها ايام الطفولة والشباب، كيف تزوجت والدى وفرحتهما يوم مولدى، كانت تضحك وتتندر على مواقف حدثت لها فى حياتها فأشاركها الضحك حتى نسيت انها مصابة، ثم فجأة قالت لى (عزلة، اتركى المخيم، سيرى نحو الجدار)، و أسلمت الجسد وصعدت الروح الى بارئها.

ايام طوال من السير، ووجوه هدها التعب وأخرى المرض وأخرى المعاناة، و اخريات كل هذا، يقف الجميع على اعتاب الجدار وأعين الغرباء تتابعهم.

 نريد ان نمر
 ليس من حقكم المرور
 لكن هذه ارضنا
 كانت اما الان فلا

ترى هل كانت امى تعرف ذلك، ربما لكن لماذا طلبت منى السير نحو الجدار، هل هيأت لها سكرات الموت امكانية تحقيق المستحيل، ام هناك جدار آخر.

 هل هناك جدار آخر؟
 نعم بالجانب المقابل
 و من يقف عليه؟
 اخوان لنا، فلتجربى حظك معهم ربما تفلحى بالمرور

أقف امام الضابط على الجانب الآخر:
 هل انت مصابة؟
 لا فقد نجيت بينما قتلت امى
 هل انت مريضة بمرض عضال؟
 لا
 لو كان الامر بيدى لسمحت لك بالمرور، لكن الشروط لا تنطبق عليك، ولن تستطيعى عبور الجدار
 لماذا هل انا مريضة؟
 نعم للأسف انت مريضة بداء الصحة

اصبحت الصحة مرض والمرض صحة ولم يعد امامى سوى ان اروى الارض، لعل ريتى تكون الاخيرة التى سينبت بعدها الزرع ويعم النماء، الف حول خصرى، خصر المرأة الذى طالما اذاب الرجال حزام ناسف، لأنطلق واختلط وسط جموع الاغراب ثم اضغط زر المفجر وأغيب عن الوعى، لأقبع الان فى تلك الظلمة الحالكة، والسكون الموحش، لا أعرف اين انا وماذا حدث، هل انفجر الحزام ام لا، هل انا فى الجنة ام النار ام فى مكان بينهما بين عالم الاحياء وعالم الاموات انتظر مصيرى، ام مازلت حيه وأقف مكبلة بالاغلال فى احد الزنازين، ولكن لمن تكون الزنزانة يا ترى، لاصحاب الجدار الاول ام الثانى ام لأحد الفرق المتصارعة على قيادة المخيم، اسئلة كثيرة ليس لها اجابة عندى لكن من المؤكد اننى علمت الان لماذا طلب الهاتف من والدى ان يسمينى عزلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى