الثلاثاء ١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٣
بقلم أمل إسماعيل

عمي والقمر وأعمدة الإنارة

لوح أمامي بصورة صغيرة.. وأوقد نار ذكريات لا تنتهي..
  من هذا؟!
احتضنته، وتلمست يده الناعمة وتبسمت..
  هذا عمي جميل يا سالم..
  عمي جميل؟! أنا لا أعرف عما اسمه جميل.. من يكون؟!
حملته بين ذراعي، وأخذت أدور وأدور به حتى أحسست بالدوخة، لكنني لم أتركه حتى كنا نجلس معا على مقعدين من القش في شرفة بيتنا الريفي الصغير..
  اسمع يا سالم.. عمي جميل حكايته طويلة وعجيبة.. أترى ذلك الجبل البعيد هناك..
أشار بإصبعه الصغير، وبصعوبة حدد موضع الجبل بسبب أعمدة الإنارة التي عمت رؤية الجبل وما وراءه.. وأنارت شارع القرية الصغير وصاح: مجنون القمر! جبل مجنون القمر!!
هززت برأسي.. أغمضت عيني.... تألمت.... أين عمي جميل يا ترى؟!
كنا في القرية يا سالم.. قبل أن تولد، نعيش في عالم حيوي عجيب، عالم يستيقظ مع الشمس، ويسهر على ضوء القمر.. كانت حياتنا كلها عبارة عن لعبة.. أرجوحة.. تتجاذبها الشمس والقمر!
(يا شمس يا مدوره..
في هالسما منوره..
يا ليل يا أبو العيون
البدر ضوّا استار الكون..)
يُدندنها عمي جميل باستمرار، كنت أسمعه يعزفها مع الشجر، ومع فراشات الحقل.. مع الشمس والقمر.. كان عمي جميل أجمل شباب القرية، أكثرهم حيوية ورهافة حس.. يتسلق سطح بيتنا، ويجلس يراقب بزوغ القمر من خلف الجبل.. أحمر خجلا.. كأنه يداري لحظة ولادة من قلب الشمس.. أو كأنه يستأذنها أن يحصل على حظه من معانقة أرواح من تركتهم أحياء في النهار.. ليموتوا.. ويغرقوا في ظلمة الليل البهيم!
لم أكن أعرف لمَ يعشق الشمس والقمر، كنت مثلكَ يا سالم.. صغيرة أحب الحياة ولا أعرف لمَ أحبّها.. أعيشها دون أن أسأل نفسي كيفَ أعيشها؟ عمي جميل.. عمي جميل علمني أبجدية لا تنسى.. أبجدية حياة... حروفها نسِجت بين الشمس والقمر!
ظنَّ أهل القرية، أن عمي جميل مغرم بـ"قمر" ابنة العم صالح، وقررت جدتي سالمه أن تخطبها له، لكنه رفض..، سمعته يقول:
(القمر قمرايا..
والشمس ورايا
والنور في قلبي
والظلمه حوالايا)
ظل عمي جميل أعزب.. تجاوز الخامسة والعشرين من عمره دون زواج، حتى أن عمدة القرية جمع جدي مرزوق وبقية أعمامي وأخوالي ليتباحثوا في أمره.. ومع ذلك، لم يصل أيهم نتيجة، كان عمي جميل قد وهب روحه لأشياء أكبر... أكبر بكثير.. أشياء عجزوا عن فهمها.. أورثني إياها!
  عمي جميل! أتمنى أن أراه يا ماما زهره!
ضممته إلى صدري.... تابعت حديثي..
أتعرف يا صغيري سالم.. لَم وَضَعت البلدية هذه العلامات على أعمدة الإنارة، وأحاطتها بسياج صغير؟!
  لا أعرف! ممممم... أتخشى البلدية من قطعان الماعز والأبقار والجواميس التي تجوب القرية أحيانا؟!!
إيييه... الحكاية أكبر.. أكبر وأخطر يا صغيري الجميل!!
عمدة القرية كثير التفكير والتدبير، ويحاول دائما أن يرتقي بمستوى القرية إلى الأفضل.. لذلك كان يبحث عن طريقة ينير بها "درب الخرابه"، كيف لا وهو الشارع الرئيس الذي يصل بين كل طرقات القرية الفرعية.. وعندما وصلت البلدية، وخططت للأمر، بدأت التنفيذ.. وكان أول ما ثُبتَ من أعمدة، تلك التي تقطع بين بيتنا ودكان سعدون الخباز....
  لكن سعدون الآن يملك محلا كبيرا.. وليس دكانا!!
تنهدت.. هذه رياح التطوير.. نعم.. نعم.. لديه محل، لم يعد يملك دكانا صغيرا.....
أعرف.. أعرف، كان ذلك فيما مضى يا سالم.. أوووه.. كم كنت أحب دكانه ورائحة دكانه.. ليتك أدركت ذلك!!
عندما أنير "درب الخرابه"، هلل الناس وكبروا.. عجبوا كيف يمكن أن يكون لليل منير غير القمر، بعضهم ظن أن البلدية أتت بأسلاك ربطتها بالقمر... أتعلم يا سالم؟! حفصه العمشا ظنت أن البلدية سرقت القمر وحولته إلى أعمدة إنارة.. لقد كان القمر محاقا عندما أضيئت الأعمدة لأول مرة في "درب الخرابة"!! كثير من الناس صدقوا هذه الحكاية.. اسأل حمزه علوش الشحاذ يخبرك بها!!
  آه.... لقد أخبروني أن رجلا يسكن في "مجنون القمر"، هو الذي أعاد القمر إلى مكانه!!
جحظت عيناي... سألته: من أخبرك؟!
  حمزه علوش الشحاذ! قابلني في الطريق وأنا خارج من محل سعدون ببعض السكاكر!
تنهدت من جديد... حاولت أن أعيد إلى صدري رائحة سكاكر سعدون باهتة الألوان بسبب الشمس يوم كان يضع علبة الحلوى في العراء.. لتتناقلها أيادينا المتسخة ببقايا التراب والطين!!
يا سالم.. كان القمر محاقا، وكنا في آخر الشهر، هذه دورة القمر، وحتى يدرك الناس سر القمر، يجب أن يعيشوا دورته.. يحسوا به...
  عمي جميل كان يعيشها ويحس بها.. صح؟!
  صح!
بدأت تفهم يا سالم... بدأت تدخل عالم عمي جميل! اسمع.. لما وصل عمي جميل.. كان مستاء.. لم تعجبه هذه اللمبات الضوئية الزائفة.. كان يحب طبيعة القمر، يحب فضيته المنسابة كالحلم الصيفي.. كنسيم البحر الحامل للمراسيل البعيدة..
كتم غيظه.. انتظر.. حاول أن يسأل الشمس عن سر الأعمدة التي لا تضيء إلا في الليل.. تلك التي تحارب القمر فقط.. أوَ ليس الشمس والقمر.. توأمان؟! فلم تشنّ الأعمدة حربها على القمر؟!
كنتُ أجلس معه ذلك اليوم، على سطح البيت، ننتظر بزوغ القمر.. لمحته من خلف الجبل بصعوبة.. كان النور الشديد يحجب رؤيتنا له.. صحت: القمر عمي جميل.. القمر!!!
دندن كأنه يهديه تحياته، ويحثه على الخروج...

(القمر قمرايا..
والشمس ورايا
والنور في قلبي
والظلمه حوالايا)

كان يرددها بنفس لاهث مقطوع... ونبضات قلبه تتضاعف.. تشتعل.. أحسست بسخونة جسمه، كأن بركانا يوشك أن ينفجر.. ينثر رمادا.. حمما.. دخانا......
(القمر قمرايا..
والشمس ورايا
والنور في قلبي
والظلمه حوالايا)
رددها كثيرا، وكل مرة نبرة صوته تعلو، بدأت الكلمات تتآكل... والحروف تتسارع إلى لسانه.. وقف غاضبا.. كأنه نجمة سقطت من السماء العالية....
نزل من سطح البيت، وأنا من خلفه، ثم اتجه إلى المخزن، وخلال دقائق عاد حاملا فأسه.. لم أفهم... لم أدرك ما بيته في صدره القمري الحزين....
كنت أركض خلفه، لم أكن أستطيع اللحاق به، لو وصفته لك لما ترددت أن أقول إن شهابا من تلك الشهب التي تطل علينا وتختفي.. كان كعمك جميل تلك الليلة!!
أدركته فوجدته أمام أعمدة الإنارة في "درب الخرابه".. شرع يحطم أحدها.. يطحنه بفأسه طحنا.. فيما مضى، لم تكن الأعمدة كما هي في صلابتها الآن.. كانت مجرد أعمدة من الخشب.. وكانت يد عمي رغم رقة إحساسها.. تحمل كل قوة الدنيا وجبروتها..
لم أكن لأستطيع منعه؛ كان إعصارا.. حارسا للقمر.. مدافعا عن حقه في الحياة.. وحقه في النور!
حطم عمودا.. اثنين.. ثلاثة.. تجمهر الناس وثارت ثائرتهم، أرى العمدة غاضبا مُحْمرا قادما من البعيد مع الغفير، ثم رأيت أبي، وأمي، وكل أفراد القرية، طوقوا عمي وحاصروه، لكن أحدا لم يستطع أن ينتزع الفأس من يده.. والقمر من قلبه!
  أيتها الأعمدة المظلمة.. كنا نعيش على النور فبددت النور وأتيت بظلمتك المقيتة... طعنت القمر في الظهر.. خنت سيمفونية الليل والنهار.. تآكل جمال السماء.. مجرمة أنت.. مجرمة.. يجب أن تحاكمي على الملأ.. يجب أن يعود المغدور به إلى الحياة من جديد.... يجب.. أن.. يـ...... أ..... أ.....
تراخت قبضته.. فسقط الفأس.. حملني.. همس في أذني ببضع كلمات.. ثم.. وكبرق خاطف.. اختفى!!
  أين ذهب؟!
أشرت بيدي من جديد.. إلى الجبل...
  مجنون القمر!!
أومأت برأسي..
يا سالم.. قالوا إن عمي يسكن في الجبل.. رآه حمزة الصياد، وحمود الحطاب.. قالوا إن له جناحين وأن نورا يشع من صدره يحوله إلى بدر يرفرف فوق الجبل كل ليلة!
  والقمر.. وأعمدة الإنارة؟! وبم همس لك عمي جميل؟!
سالم.. إيه يا سالم.. أتريد حقا أن تعرف؟!
قبلني على خدي.. وصمت..
  لو سألت يا سالم أعمدة الإنارة، أكانت ستجيبك؟
  لا!
  والقمر؟!
احتار.. تلعثم.. نظر إلى القمر.. يذوب في السماء.. يرسل أفكاره إلى سالم الصغير.. ويقرأ في ترانيمه أحلام عمي جميل...
  نعم.. نعم أستطيع أسمع.. أستطيع أن أقرأ.. أستطيع...
حملته.. حلقت معه.. أي سالم.. وصلت إلى مرفأ عمي جميل.. وصلنا أخيرا... هذا ما همس به عمي.. "كلمي القمر... كلمي القمر!!".


مشاركة منتدى

  • بكل فخر واعتزاز اقول انك في اول الطريق لتكوني كاتبة وروائية تضيف الى ساحة الادب عندنا اديبة سيشار لها بالبنان
    تابعي الكتابة واجتهدي واهم هدية مني اليك
    اياك ان يصيبك الغرور وان يوقفك الزواج عن العطاء والكتابة
    نحن بحاجة الى وردات كثيرة نزين بها ساحتنا الادبية . وفقك الله .

    • أستــاذنا الفاضل عـادل..
      تحـية وشكر خالص على مرورك الكريم ها هنا.. وعلى النصيحة أيضا..
      لا تقلق، فإن روح الأدب هي التي تسري في الجسد، ووتوحد مع الروح.
      وما دمت أعمل بوصية جبران لابنه:
      "ما رأيت شاعرا عليه قميص"...
      فاطمئن تماما!!!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى