الأربعاء ٢٥ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم محمود محمد أسد

اللِّعِبُ بالأرقام

في سهرةٍ اعتَدْنا قضاءَها مع مطلع كلِّ شهر. عُمْرُها سنوات. نتبادلُ فيها الأحاديث والأخبار المنوّعة. نتحدَّث عن الأولاد والعمل.. نسترجع الذكريات، تأخذنا الحياة وظروفها. بصراحة كنّا ننفض عنّا غبار الأيّام الماضية. لكنّ سهرتنا بدأتْ تميل الى الجمود عن المألوف. فكلُّ شيء محسوب وله معيارٌ ونقترب منه بحذر وكأن شيئاً ما يحجز بيننا.

بيني وبين نفسي قلت: يا جماعة السهرة القادمة في بيتي، وفي نفسي أضْمَرْتُ شيئاً في نفسي.

حضر الجميعُ.. والتفَّ الشّمْلُ.. وتبادلنا عبارات الترحيب وأحاديث الودِّ قلْتُ: ما رأيكم بالتجديد؟ وإعطاء ثوب جديد لسهرتنا القادمة والحالية. بعضهم وافق مباشرة، وبعضنا أبدى تحفُّظاً. والآخر رفض الفكرة. وهذا ما كنت أتوقعه.. قلت لهم: نغيِّر الفكرة ونبحث عن لعبَة نلعبها. فلْنلعب لعبة الصراحة.. أيضاً وَجَدْتُ وجهات نظرٍ مختلفةً. ولاحظْتُ وجوماً ارتسم على الوجوه.. وغابت الابتسامة.. قلت: ما المانع من اللّعب ولكن على الورق.. ودون ذكر أسماء معيّنة.. نكتبُ أرقاماً عوضاً عن أسمائنا. وافقوا على مضض ووزِّعت الأوراق وكان السؤال: كيف تنظر لسهرتنا؟ وعلاقاتنا؟؟

رقم واحد – قال: نحن نخشى مصارحة أنفسنا وزوجاتنا. فكيف نتحدّث عن عيوبنا؟ الورقة ذات الرقم الرابع كتب عليها: باختصار خيرُ عادة ألاَّ تعتاد عادة لذلك أرفض هذه الفكرة لأني لم ألتزم مطلقاً بعادة الصراحة. وهناك ورقة جاء فيها، أنا هنا لإملاء الفراغ لا غير. ولماذا هذا الإحراج والتعب؟! ورقة أخرى وضع أحدهم فيها ثلاث إشارات استفهام.. وبعدها ثلاث إشارات تعجب … ثم كتب، أحرص على عدم خسارة السهرة، فأفتقدُ لحظة قد لا تعود … فاعذروني والورقة الأخيرة جاء فيها: سأكتب في السهرة القادمة دعوني للتفكير …

في السهرة القادمة لم يأت سوى واحدٍ وبيده ورقة وقلم … وانتظر فلم يجد أحداً … طرق الباب … لم يفتح له… عاد وبيده الورقة وترك القلم. وراح ينغِّمُ عبارات لا يعرف دلالتها وطعمها

-2-الغرسـات

أعرفه جيداً بحركاته و أسلوبه.. أبو نادر مميَّز بأسلوب تدخينه و طريقة غضبه.. أعلم أنه يحبُّ النظام و الرتابة و الطرب و الاتزان. و فوق هذا ملتزم بعمله.. أبو نادر صبر على ضيق مساحة بيته.. حتى مَنَّ الله عليه ببيت واسعٍ أنيق بفرشهِ و منطقتهِ. فرحته تزداد و هو يؤسِّسهُ و يفرشه، لاحقه بعيني و دقات قلبه أول شيء عمله زرع عدّة غرسات صغيرة أمام مدخل البناية. سقاها و رعاها. نظر إليها بحنان و هو يراها تشبُّ يافعة تمدَّ بخجل. بعض ظلالها البناية. البناية اقتربت من الكمال. سكنها أصحاب البيوت بيتاً بعد بيت في كل يوم يسقيها و يحمل كيسَ الوسخ إلى المكان المحدّد و في كلِّ يوم أحد جيرانه يغسِلُ السيارة و يرمي كيس قمامته على الرصيف يأخذه أبو نادر مع أكياسه إلى الحاوية دون حرج. السلام شبه مشلول. الكلمات تخرج مطاردة. درج البناية بعضهم يدفع لتلك المرأة التي تغسله و قسم يأبى. و آخر صدمات أبى نادر تلك الصدمة التي لطمته بقوة فقد سافر عدَّة أيام و ترك الغرسات لرعاية ربها و لمَّا جاءَوجدها مصفَرَّة حزينة و منكسرة و وجد جاره يغسل سيَّارته و يدلق الماءَ عليها و قد رفع صوت المسجلة.

اقترب من جاره سلَّم عليه. ذكّره بالشجرات قال له و بعجرفة:
و لمَ أسقيها و أنا لم أزرَعْها و لا علاقة لي بها و أنا لا أحب الشجرَ و الخضرة...

-3-القفـص للتـداول

ما أنْ فتح البابَ حتى ارتفعت أصواتُ أبنائه: بابا … بابا و صوت من الجميع : بابا أحضر قفصاً … عبسَ و اكفهرَّ قطَّبَ جبهته سَعَلَ مصطنعاً. هدأت حركة الأولاد عمَّ هدوءٌ وليدُ خوف … قطعه حركة الأمِّ المهرولةِ من المطبخ … بين يديه وقفت رحَّبَتْ تناولَتْ كيساً ما زال بيده … وضعَ القفص الفارغ على جانب … ثمَّ أخذ مكانه … أولاده التفوا حوله قالت له: خيرٌ إن شاء الله … يعطيك العافية … حَضَرْتَ باكراً …

لم يتكلَّمْ في البداية … قرأ السؤالَ ثانية من عينيها و يديها … قال أشعر بالتعب و الإرهاق.
 و لمَ هذا القفص يا رجل؟

أجابَ الأولادَ عنه ليحضرَ لنا عصفوراً جميلاً و غرِّيدا هزَّ رأسهُ دون أن يفهموا حركاته و إشارات يديه لم يقدروا فكَّ شفرةِ عينيه. الأمُّ قالت له و لمَ القفص ما دمنا لا نخرج من بيتنا و لا نستطيع إطعام أنفسنا يا بن الحلال …

نظر إليها … نظروا إليه … جاءهم صوتُ مازن الصغير: لا مانع نتناوب عليه كلَّ يومٍ و نجرِّب صوتنا. صوتٌ خفيفٌ منكسرٌ جاءَ من عصفورٍ حطَّ على النافذةِ اكسبوا خبرةً، و تحصَّنوا للقادمات …

-4-الكساد

أخيراً تحرَّر من سجن الوظيفة. هذا حسب اعتقاده. عقودٌ أمضاها في التعليم و التربية. قال: لا بدَّ من عملٍ مفيدٍ يملأ وقتي و يقتل الملَلَ و الفراغ. جَمَعَ ما أخذَهُ من منحٍ و هباتٍ. ارتاحَ نفسيّاً و هو يرى الرفوف و عليها الكتب و المجلاَّت. ابتسم من أعماقه و هو يقرأ لوحة المحلِّ الجميلة ((مكتبة المنهل)) هنَّأه الأصدقاء و الأقربون و الزملاء و تمنُّوا له الخير..
أيّام و أيّام و هو يشعر بخيبةٍ تِلوَ خيبة. الكتب التي اختارها في مكانها. و لكنَّهُ كان دائماً يُسْألُ عن كتب لم يفكِّرْ فيها. _ عندكَ كتاب فن الطبخ؟

أبحث عن كتاب فن الحديث في المجتمع الراقي.

و أخرى تسأله: أحبُّ الاشتراك في المجلاّت التالية: فن الطهي ـ المطبخ العصري و مجلة النصف الآخر ـ نادين ـ الشبكة...

و بعدَ أسابيع عادَ إلى البيت و السؤالُ يطرق أذنه: أريدُ كتباً جلدُها أحمرُ. و مجموعة من قياس 14×22 لإملاء مكتبة البيت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى