الأحد ٥ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم أوس داوود يعقوب

قضية فلسطين في أشعار نزار قباني

لا يجادل أحد من المشتغلين بالثقافة والأدب في أن الراحل الكبير نزار قباني هو بالفعل ظاهرة شعرية عابرة للحدود العربية، إذ كان صوتاً قادراً على حشد عشرات الآلاف من المستمعين والمستمعات حول قصائده؛ بل إن ما يكتبه، بغض النظر عن شكل كتابته، كان مناسبة يحتفل بها قراؤه على الدوام، ومناسبة لإثارة الجدل والحوار والتساؤل حول علاقة الشعر بالسياسة ودور الشعر كمحرض ومثير للمشاعر والأحاسيس الجمعية للناس.

ينتمي الشاعر نزار قباني ـ شعرياً ـ في مسار (حركة الشعر الحديث في سورية) إلى الجيل الثالث (الشعراء المجدِّدين: 1948م – 1967م). «في هذه الفترة ـ أي بين عام النكبة 1948م وعام النكسة 1967م ـ، والتي حددت بحربين كان لهما أبلغ الأثر في واقع الإنسان العربي وفي وجدانه، في أعقابهما معاً طاش عقل هذا الإنسان، وطار صوابه، فما حدث فيهما وفي أعقابهما أمر لا يكاد يصدّق، ولكنه كان في الحالين نتيجة حتمية لبنية المجتمع وشبكة علاقاته على شتى الصعد من القاعدة إلى القمة، كما كان نتيجة لتدخل الدول الاستعمارية - شرقية وغربية - والبحث فيه عن مصالحها، وعدم ترك المجتمع يأخذ طريقه الخاصة البطيئة في التطور والنماء». (د.نعيم اليافي: دراسة «الشعر العربي المعاصر في سورية»، معجم البابطين)

ويعد نزار ـ في هذه الفترة ـ «أول شاعر مجدد، أحدث في حركة الشعر العربي انعطافاً هاماً لا حدود له، ولم يكن لهذا الانعطاف أن يصيب مفهوم القصيدة فحسب كما كان الحال لدى المدرسة الرومانسية، بل امتد ليشمل لغة القصيدة أو شكلها، الدال والمدلول معاً، وبسبب هذين التجديدين في المضمون، والشكل ثارت عليه أيامها، أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات، قيامة الدنيا ودعاة المحافظة وربما لم تقعد بعد، واتهم بمختلف الاتهامات ليس أقلها التجديف والسباب بشتى العيوب والسقطات».(د.نعيم اليافي: المصدر السابق)

وقد بدأ نزار بكتابة الشعر وعمره 16 سنة، وأصدر أول دواوينه الشعرية (قالت لي السمراء) عام 1944م. وكان يومها طالباً بكلية الحقوق، وطبعه على نفقته الخاصة.

ورث شاعرنا الحساسية الفنية والأدبية من قريبه المؤلف المسرحي والشاعر الملحن أبو خليل القباني «عم والدته و شقيق جد والده»، وتأثر أثناء دراسته المرحلة الثانوية في الكلية العلمية الوطنية بدمشق بمعلمه الشاعر خليل مردم بك أستاذ الآداب في مدرسته الذي ربطه بالشعر ودفعه إليه، ثم ألتحق بمدرسة التجهيز القسم الأدبي، ثم القسم الفلسفي، ثم بكلية الحقوق.

بعد تخرجه عمل بالسلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية السورية وتنقل في سفارتها بين مدن عديدة مثل: (القاهرة، ولندن، وبيروت، وأنقرة، وبكين، ومدريد).

وفي عام 1966م ترك نزار العمل الدبلوماسي، وتفرغ لكتابة الشعر، وأسس داراً للنشر تحمل أسم «منشورات نزار قباني» وكانت ثمرته الشعرية 41 مجموعة شعرية ونثرية، كتبها على مدار نصف قرن كان أهمها: («طفولة نهد ـ 1948م»، و «سامبا ـ 1949م»، و «أنت لي ـ 1950م»، و «كتاب الحب ـ 1970م»، و «كل عام وأنت حبيبتي ـ 1978م»، و «أشهد أن لا امرأة ألا أنت ـ 1979م»).

وأهم كتبه النثرية («قصتي مع الشعر»، و «ما هو الشعر»، و «100 رسالة حب»، و «الشعر قنديل أخضر»، و«امرأة في شعري وفي حياتي»، و «الكتابة عمل انقلابي»).

وقد جُمع كل إنتاجه في الأعمال الكاملة التي طبعتها «منشورات نزار قباني) في بيروت.

وجوه نزار الإبداعية

يرى الدكتور محمد توفيق أبو علي في دراسة له بعنوان (نزار بين الحداثة والجاهلية): «أن لنزار أوجهاً أربعة، تتكامل فيما بينها، لتكتمل صورة التجربة النزارية، والأوجه هي: نزار الشاعر، نزار الناثر، نزار الناقد، نزار الناشر.

ونزار الناقد، هو الذي عليه أن يؤدي دور الدليل الرائد، الذي يوجه حركية الحداثة لدى نزار الشاعر والناثر؛ بيد أن شيئاً من المفارقة يتبدى في رصد تلك الحركية، وصلتها بذاك الدليل الرائد.

فالذي يجمع أشتات أقوال نزار النقدية في مسألة الحداثة الشعرية، يصل إلى استنتاج لا مراء فيه. أن تلك المسألة لم تكن مشروعاً بيّن الملامح والسمات، يرتكز على معيارية تقويمية واضحة المعالم؛ بل كانت مشروعاً مزيجاً من القلق والانفعال ورد الفعل؛ أي لم يكن التناغم قائماً، كما يجب، وبشكل مستمر، بين النظر النقدي، والتطبيق الإبداعي، الشعري منه على وجه الخصوص.

بيد أن ذلك المشروع المزيج، كان يتسم بحدة في الموقف، لا تعرف المساومة أو المراوغة؛ ناهيك من الوضوح في وصف الأشياء، وتحديد محاسنها ومثالبها، على حد سواء».

ويستشهد الدكتور أبو علي بما جاء على لسان نزار: «الخطر الكبير الذي يهدد القصيدة الحديثة، هو العشوائية والمجانية وعدم التخطيط. إن الحداثة صارت مثل سفينة نوح.. من كثرة تشابه الأجناس.. وتداخل الأصوات.. إنني أقرأ كل ما يقع في يدي من شعر حديث. ولكن لم تتشكل عندي القناعة الكافية، بأن هذا الشعر، هو الشعر المطلوب لتأسيس المستقبل العربي.

إن شعراء الحداثة، أرادوا أن يخلصوا الشعر، من التناظر والتكرار ولعبة الخطوط المتوازنة، فوقعوا في ذات المأزق. إنهم يتشابهون أسلوباً ولغة وأداء. كما يتشابه عشرون توأماً... فإذا قرأت لواحد منهم، أغنتك قراءتك له، عن قراءة الباقين".

ويقول نزار أيضاً: "الخطر الأكبر الذي يحيط بالقصيدة العربية، هو أن تقطع جذورها نهائياً، مع الأصول الشعرية العربية، وتصبح طفلاً بلا نسب».

ويقول نزار أيضاً: «التجديد ليس انقلاباً عسكرياً، يلغي كل ما سبقه بمرسوم، فالشعر، هو نهر عظيم، يتدفق من الأزل إلى الأبد، ويتصل مصبه بمنبعه، وليس في العالم نهر له مصب، وليس له منبع. والخطر الثاني، الذي يحيط بالقصيدة العربية، هو أنها قطعت جذورها مع الجمهور العربي، واختارت المنفى».

ويرى الناقد الأستاذ فخري صالح أنَّ نزار قباني كان: « شاعراً مثيراً للجدل، وقد ظل كذلك طوال ما يزيد على نصف قرن. في شعره الذي يتغزل بالمرأة ثمة نقاط كثيرة مثيرة للأسئلة، في الشكل والمنظور الاجتماعي، فهو إذ يدعي تحرير المرأة يكبلها بخيوط من حرير ويعاملها كجسد، بل يسجنها داخل ذلك الجسد ممارساً نرجسيته الذكورية في قصائد تعيش في عوالم «ألف ليلة وليلة» وبلاط هارون الرشيد.
إن شعره في المرأة إشكالي على رغم صوره واستعاراته الجريئة. إنه يعمل على ذلك المستوى الغريزي من الخيال الشعري، يثير في المرأة إحساسها بذاتها كأنثى وفي الرجل ولعه بالمرأة ورغبته فيها. ولكن العمل في تلك المنطقة من مناطق الشعور لا يهبط بشاعرية نزار، بل إنه يصنع خصوصية شعره واختلافه في تاريخ الشعر العربي المعاصر».

ويضيف صالح : «إن نزار في ما يسمى (شعره السياسي) يعمل أيضاً على مستوى المشاعر الجمعية الأولية، على ما يثير في الجماعة الإنسانية إحساسها بهويتها القومية مستخدماً في قصائده رموز هذه الهوية وألفاظها الدارجة».

ولقد كان هذا بالفعل ديدن نزار حتى حدثت هزيمة حزيران (يونيو) 1967م، فأحدثت شرخاً في نفسه، وكانت حداً فاصلاً في حياته، جعله يخرج من مخدع المرأة إلى ميدان السياسة. فتحول شعر نزار من شعر الحب والحنين إلى شعر الرفض والمقاومة، وانتشرت قصائده السياسية الغاضبة، فحزيران «كان ثمرة شديدة المرارة، بعضنا أكلها...، وبعضنا اعتاد تدريجياً على مذاقها... وبعضنا تقيأها فوراً... » وقد رفض حتى اليوم الأخير من حياته «الاعتراف بالجنين المشوّه الذي طرحه رحم حزيران».

ومن قصائده الجريئة الغاضبة؛ قصيدة «هوامش على دفتر النكسة»، التي كانت نقداً ذاتياً جارحاً للتقصير العربي، وقد أثارت القصيدة عاصفة شديدة في العالم العربي، وأحدثت جدلاً كبيراً بين المثقفين، ولعنف القصيدة صدر قرار بمنع إذاعة أغاني نزار وأشعاره في الإذاعة والتلفزيون. ويرى الدكتور حسين جمعة أن «هذه القصيدة تعدّ فاتحة لما يسمى بالأدب الحزيراني (نسبة إلى حزيران النكسة) لأنها نشرت بعد الخامس من حزيران بأيام، وقد سبقت قصيدة أمل دنقل (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)...» يقول في بعض أجزائها:

إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ
لأننا ندخُلها..
بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ
بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ
لأننا ندخلها..
بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ
السرُّ في مأساتنا
صراخنا أضخمُ من أصواتنا
وسيفُنا أطولُ من قاماتنا
خلاصةُ القضيّهْ
توجزُ في عبارهْ
لقد لبسنا قشرةَ الحضارهْ
والروحُ جاهليّهْ…
بالنّايِ والمزمار..
لا يحدثُ انتصار

وفي هذه القصيدة نعى نزار علينا غياب الديمقراطية، وسحق المواطن، وإهدار حقوقه وحرياته. وتمنى الشاعر لو يمنح الأمان، حتى يقول للسلطان:

يا سيدي السلطان
كلابك المفترسات مزقت ردائي
ومخبروك دائماً ورائي
أنوفهم ورائي
أقدامهم ورائي
يستجوبون زوجتي
ويكتبون عندهم أسماء أصدقائي
ضُربتُ بالحذاء
أرغمني جندك أن آكل من حذائي
يا سيدي.. يا سيدي السلطان
لقد خسرت الحرب مرتين
لأن نصف شعبنا ليس له لسان
…………….
لأنك انفصلت عن قضية الإنسان
وعليه يصل قباني إلى استنتاج مؤداه؛
ما دخل اليهود من حدودنا
وإنما
تسربوا كالنمل من عيوبنا

ويتأسى نزار من النفط العربي الذي بدل أن يتحول إلى أسلحة:

يراق تحت أرجل الجواري!

وبعد أن يبكي نزار الوحدة العربية المهدرة، يرى الحل في جيل غاضب:

نريد جيلاً يفلح الآفاق
ونكش التاريخ في جذوره
وينكش الفكر من الأعماق
نريد جيلاً قادماً مختلف الملامح
لا يغفر الأخطاء.. لا يسامح
لا ينحني.. لا يعرف النفاق
نريد جيلاً، رائداً، عملاق

وقد كان نزار يرى أن الشرط الأساسي في كل كتابة جديدة هو الشرط الانقلابي، وبغير هذا الشرط، تغدو الكتابة تأليفاً لما سبق تأليفه، وشرحاً لما انتهى شرحه، ومعرفة بما سبق معرفته. «بالشرط الانقلابي نعني خروج الكتابة والكاتب على سلطة الماضي بكل أنواعها الأبوية، والعائلية، والقبلية، ومهمة الكاتب الانقلابي صعبة ودقيقة.. لأنها تتعلق بإلغاء نظام قائم، له جذوره، وإعلان نظام بديل يصعب على الناس في بادئ الأمر الإيمان به، والاعتراف بدستوريته».

و«أن تكون كاتباً عربياً، في هذا الوطن الخارج لتوه من غرفة التخدير والعمليات، دون أن تؤمن بالشرط الانقلابي، معناه أن تبقى حاجباً على باب السلطان عبد الحميد في الآستانة، أو عضواً في حكومة الأقلية البيضاء في جنوبي أفريقيا».

وخلافاً لما راح إليه الكثير من النقاد والدارسين، فقد كانت القضية الفلسطينية والقضايا القومية الكبرى ماثلة في ذهن ووجدان نزار قبل هزيمة حزيران عام 1967م، ولم تكن قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» هي الأولى في المجال.. ويمكن الإشارة ـ في هذا الصدد ـ إلى مجموعة من القصائد التي تؤكد ما ذهبنا إليه بدءاً من قصيدة «إلى الجندي العربي المجهول»، و «أصبح عندي الآن بندقية»، و «قصة راشيل شوارز نبرغ ـ 1955م»، مروراً بـ «رسالة جندي في السويس ـ 1956م»، و «جميلة بوحيرد ـ 1957م»، و « فتح ـ 1969م»، و «شعراء الأرض المحتلة ـ 1968م» و «منشورات فدائية على جدران إسرائيل ـ 1970م»، و «عرس الخيول الفلسطينية ـ 1973م»، و «دعوة اصطياف للخامس من حزيران ـ 1972م»، وغيرها الكثير من القصائد التي لسنا بصدد دراستها وحصرها في هذا المقال..

في رائعته «الحب والبترول ـ 1958م»، أجمل شاعرنا العربي الكبير،أسباب النكبة، فأجاد حين قال:

إذا خسرنا الحرب، لا غرابة
لأننا ندخلها
بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابة
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة
لأننا ندخلها
بمنطق الطبلة والربابة

وقد أعاد الشاعر نفسه «السر في مأساتنا» إلى كون؛

صراخنا أضخم من أصواتنا
وسيفنا
أطول من قامتنا
وزاد قباني الأمر وضوحاً؛
خلاصة القضية
توجز في عبارة
لقد لبسنا قشرة الحضارة
والروح جاهلية

وينحى نزار في هذه القصيدة باللائمة وبأسلوب لاذع، على أولئك الذين باعوا القدس وانصرفوا لملذاتهم، يقول:

فبعتَ القدسَ.. بعتَ الله.. بعتَ رمادَ أمواتكْ
كأنَّ حرابَ إسرائيلَ لم تُجهضْ شقيقاتكْ
ولم تهدمْ منازلنا.. ولم تحرقْ مصاحفنا
ولا راياتُها ارتفعت على أشلاءِ راياتكْ
كأنَّ جميعَ من صُلبوا..
على الأشجارِ.. في يافا.. وفي حيفا..
وبئرَ السبعِ.. ليسوا من سُلالاتكْ
تغوصُ القدسُ في دمها..
وأنتَ صريعُ شهواتكْ
تنامُ.. كأنّما المأساةُ ليستْ بعضَ مأساتكْ
متى تفهمْ ؟
متى يستيقظُ الإنسانُ في ذاتكْ ؟

والحقيقة أن هذه الكلمات ـ التي قالها شاعرنا منذ نصف قرن تقريباً ـ تعكس الواقع الحالي الذي نعيشه اليوم.
وفي قصيدته «طريق واحد» يؤكد نزار، على خيار المقاومة من أجل استرداد الحقوق وإعادة الوطن المسلوب:

يا أيّها الثوار..
في القدسِ، في الخليلِ،
في بيسانَ، في الأغوار..
في بيتِ لحمٍ، حيثُ كنتم أيّها الأحرار
تقدموا..
تقدموا..
فقصةُ السلام مسرحيّه..
والعدلُ مسرحيّه..
إلى فلسطينَ طريقٌ واحدٌ
يمرُّ من فوهةِ بندقيّه..

وفي قصيدته «منشورَاتٌ فِدَائيّة على جُدْرَانِ إسْرائيل» يعود نزار، مجدداً، ليؤكد خيار المقاومة والنضال لتعود للوطن كرامته وتعود للأطفال حريتهم، يقول:

من قصب الغابات‏
نخرج كالجنّ لكم.. من قصب الغاباتْ‏
من رزم البريد، من مقاعد الباصات‏
من علب الدخان، من صفائح البنزين، من شواهد الأموات‏
من الطباشير، من الألواح، من ضفائر البناتْ‏
من خشب الصلبان، ومن أوعية البخور، من أغطية الصلاة‏
من ورق المصحف نأتيكم‏
من السطور والآياتْ…‏
فنحن مبثوثون في الريح، وفي الماء، وفي النبات‏
ونحن معجونون بالألوان والأصوات..‏
لن تفلتوا.. لن تفلتوا..‏
فكل بيتٍ فيه بندقيه‏
من ضفة النيل إلى الفراتْ‏

في الثلاثين من شهر نيسان (أبريل) 1998م رحل شاعرنا الكبير نزار قباني، بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد عمل شاعرُنَّا طوال نصف قرن على تركيز خياله الشعري حول موضوعين هما التغزل بالمرأة والكتابة عن الحدث السياسي الحار، أو بالأحرى عن الجروح السياسية، ذلك أن شعره الذي كتبه بعد هزيمة حزيران 1967م بدأ انعطافة جديدة حيث أضاف إلى الكثير إلى كتابه الشعري، وتكريماً لروح الشاعر ورحلة عطائه، ارتأينا نشر مجموعة من قصائده السياسية الغاضبة.

مختارات من قصائد الشاعر الراحل نزار قباني

طريق واحد

أريدُ بندقيّه..
خاتمُ أمّي بعتهُ
من أجلِ بندقيه
محفظتي رهنتُها
من أجلِ بندقيه..
اللغةُ التي بها درسنا
الكتبُ التي بها قرأنا..
قصائدُ الشعرِ التي حفظنا
ليست تسأوي درهماً..
أمامَ بندقيه..
أصبحَ عندي الآنَ بندقيه..
إلى فلسطينَ خذوني معكم
إلى ربىً حزينةٍ كوجهِ مجدليّه
إلى القبابِ الخضرِ.. والحجارةِ النبيّه
عشرونَ عاماً.. وأنا
أبحثُ عن أرضٍ وعن هويّه
أبحثُ عن بيتي الذي هناك
عن وطني المحاطِ بالأسلاك
أبحثُ عن طفولتي..
وعن رفاقِ حارتي..
عن كتبي.. عن صوري..
عن كلِّ ركنٍ دافئٍ.. وكلِّ مزهريّه..
أصبحَ عندي الآنَ بندقيّه
إلى فلسطينَ خذوني معكم
يا أيّها الرجال..
أريدُ أن أعيشَ أو أموتَ كالرجال
أريدُ.. أن أنبتَ في ترابها
زيتونةً، أو حقلَ برتقال..
أو زهرةً شذيّه
قولوا.. لمن يسألُ عن قضيّتي
بارودتي.. صارت هي القضيّه..
أصبحَ عندي الآنَ بندقيّه..
أصبحتُ في قائمةِ الثوّار
أفترشُ الأشواكَ والغبار
وألبسُ المنيّه..
مشيئةُ الأقدارِ لا تردُّني
أنا الذي أغيّرُ الأقدار
يا أيّها الثوار..
في القدسِ، في الخليلِ،
في بيسانَ، في الأغوار..
في بيتِ لحمٍ، حيثُ كنتم أيّها الأحرار
تقدموا..
تقدموا..
فقصةُ السلام مسرحيّه..
والعدلُ مسرحيّه..
إلى فلسطينَ طريقٌ واحدٌ
يمرُّ من فوهةِ بندقيّه..

*****************

هوامش على دفتر النكسة

1
أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغةَ القديمه‏
والكتبَ القديمه‏
أنعي لكم..‏
كلامنا المثقوب، كالأحذية القديمه..‏
ومفرداتِ العهر، والهجاء، والشتيمه‏
أنعي لكم.. أنعي لكم‏
نهايةَ الفكر الذي قاد إلى الهزيمه‏
 
2‏
مالحةٌ في فمنا القصائد‏
مالحةٌ ضفائر النساء‏
والليل، والأستار، والمقاعد‏
مالحةٌ أمامنا الأشياء‏
 
3‏
يا وطني الحزين‏
حولتني بلحظةٍ‏
من شاعرٍ يكتب الحب والحنين‏
لشاعرٍ يكتب بالسكينْ‏
 
4‏
لأن ما نحسه أكبر من أوراقنا‏
لا بد أن نخجل من أشعارنا
5‏
إذا خسرنا الحرب لا غرابه‏
لأننا ندخلها..‏
بكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابه‏
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابه‏
لأننا ندخلها..‏
بمنطق الطبلة والربابه‏
 
6‏
السرُّ في مأساتنا‏
صراخُنا أضخمُ من أصواتنا‏
وسيفنا أطولُ من قاماتنا‏
 
7‏
خلاصةُ القضيه‏
توجَزُ في عباره‏
لقد لبسنا قشرةَ الحضاره‏
والروحُ جاهليه...‏
 
8‏
بالنايِّ والمزمار..‏
لا يحدث انتصار‏
 
9‏
كلَّفنا ارتجالُنا‏
خمسين ألف خيمةٍ جديده‏
 
10‏
لا تلعنوا السماء‏
إذا تخلت عنكم..‏
لا تلعنوا الظروفْ‏
فالله يؤتي النصر من يشاء‏
وليس حداداً لديكم.. يصنع السيوفْ‏
 
11‏
يوجعني أن أسمع الأنباء في الصباحْ‏
يوجعني.. أن أسمع النباح..‏
 
12‏
ما دخل اليهود من حدودنا‏
وإنما..‏
تسربوا كالنمل.. من عيوننا‏
 
13‏
خمسة آلاف سنه..‏
ونحن في السرداب‏
ذقوننا طويلةٌ‏
نقودنا مجهولةٌ‏
عيوننا مرافئ الذباب‏
يا أصدقائي:‏
جربوا أن تكسروا الأبواب‏
أن تغسلوا أفكاركم، وتغسلوا الأثوابْ‏
يا أصدقائي:‏
جربوا أن تقرؤوا كتاب..‏
أن تكتبوا كتاب‏
أن تزرعوا الحروف، والرمان، والأعناب‏
أن تبحروا إلى بلاد الثلج والضباب‏
فالناس يجهلونكم.. في خارج السرداب‏
الناس يحسبونكم نوعاً من الذئاب...‏
 
14‏
جلودنا ميتة الإحساس‏
أرواحنا تشكو من الإفلاس‏
أيامنا تدور بين الزار، والشطرنج، والنعاس‏
هل نحن "خير أمةٍ قد أخرجت للناس" ؟...‏
 
15‏
كان بوسع نفطنا الدافق بالصحاري‏
أن يستحيل خنجراً..‏
من لهبٍ ونار..‏
لكنه..‏
واخجلة الأشراف من قريشٍ‏
وخجلة الأحرار من أوسٍ ومن نزارِ‏
يُراق تحت أرجل الجواري...‏
 
16‏
نركض في الشوارع‏
نحمل تحت إبطنا الحبالا..‏
نمارس السحل بلا تبصرٍ‏
نحطّم الزجاج والأقفالا..‏
نمدح كالضفادع‏
نشتم كالضفادع‏
نجعل من أقزامنا أبطالا..‏
نجعل من أشرافنا أنذالا..‏
نرتجل البطولة ارتجالا..‏
نقعد في الجوامع..‏
تنابلاً.. كسالى‏
نشطر الأبيات، أو نؤلف الأمثالا..‏
ونشحذ النصر على عدونا..‏
من عنده تعالى...‏
 
17‏
لو أحدٌ يمنحني الأمان..‏
لو كنت أستطيع أن أقابل السلطان‏
قلت له: يا سيدي السلطان‏
كلابك المفترسات مزقت ردائي‏
ومخبروك دائماً ورائي..‏
عيونهم ورائي..‏
أنوفهم ورائي..‏
أقدامهم ورائي..‏
كالقدر المحتوم، كالقضاء‏
يستجوبون زوجتي‏
ويكتبون عندهم..‏
أسماء أصدقائي..‏
يا حضرة السلطان‏
لأنني اقتربت من أسوارك الصمّاء‏
لأنني..‏
حاولت أن أكشف عن حزني.. وعن بلائي‏
ضُرِبت بالحذاء..‏
أرغمني جندك أن آكل من حذائي‏
يا سيدي..‏
يا سيدي السلطان‏
لقد خسرت الحرب مرتين‏
لأن نصف شعبنا.. ليس له لسان‏
ما قيمة الشعب الذي ليس له لسان؟‏
لأن نصف شعبنا..‏
محاصرٌ كالنمل والجرذان..‏
في داخل الجدران..‏
لو أحدٌ يمنحني الأمان‏
من عسكر السلطان..‏
قلت له: لقد خسرت الحرب مرتين..‏
لأنك انفصلت عن قضية الإنسان..‏
 
18‏
لو أننا لم ندفن الوحدة في الترابْ‏
لو لم نمزق جسمها الطري بالحراب‏
لو بقيت في داخل العيون والأهداب‏
لما استباحت لحمَنا الكلاب..‏
 
19‏
نريد جيلاً غاضباً..‏
نريد جيلاً يفلح الآفاق‏
وينكش التاريخ من جذوره..‏
وينكش الفكر من الأعماق‏
نريد جيلاً قادماً..‏
مختلف الملامح..‏
لا يغفر الأخطاء.. لا يسامح..‏
لا ينحني..‏
لا يعرف النفاق..‏
نريد جيلاً..‏
رائداً..‏
عملاق..‏
 
20‏
يا أيها الأطفال..‏
من المحيط للخليج، أنتم سنابل الآمال‏
وأنتم الجيل الذي سيكسر الأغلال‏
ويقتل الأفيون في رؤوسنا..‏
ويقتل الخيال..‏
يا أيها الأطفال أنتم - بعد- طيبون‏
وطاهرون، كالندى والثلج، طاهرون‏
لا تقرؤوا عن جيلنا المهزوم يا أطفال‏
فنحن خائبون..‏
ونحن، مثل قشرة البطيخ، تافهون‏
ونحن منخورون.. منخورون.. كالنعال‏
لا تقرؤوا أخبارنا‏
لا تقتفوا آثارنا‏
لا تقبلوا أفكارنا‏
فنحن جيل القيء، والزّهري، والسّعال‏
ونحن جيل الدجل، والرقص على الحبال‏
يا أيها الأطفال:‏
يا مطر الربيع.. يا سنابل الآمال‏
أنتم بذور الخصب في حياتنا العقيمه‏
وأنتم الجيل الذي سيهزم الهزيمه...‏

****************

منشورَاتٌ فِدَائيّة على جُدْرَانِ إسْرائيل

لن تجعلوا من شعبنا‏
شعب هنودٍ حمر..‏
**‏
فنحن باقون هنا..‏
في هذه الأرض التي تلبس في معصمها‏
إسوارةً من زهرْ‏
فهذه بلادنا..‏
فيها وجدنا منذ فجر العمر‏
فيها لعبنا، وعشقنا، وكتبنا الشعر‏
مشرشون نحن في خلجانها‏
مثل حشيش البحر..‏
مشرشون نحن في تاريخها‏
في خبزها المرقوق، في زيتونها‏
في قمحها المصفر‏
مشرشون نحن في وجدانها‏
باقون في آذارها‏
باقون في نيسانها‏
باقون كالحفر على صلبانها‏
باقون في نبيها الكريم، في قرآنها..‏
وفي الوصايا العشرْ..‏
 
2‏
لا تسكروا بالنصر…‏
إذا قتلتم خالداً.. فسوف يأتي عمرو‏
وإن سحقتم وردةً..‏
فسوف يبقى العطر‏
 
3‏
لأن موسى قطعت يداه..‏
ولم يعد يتقن فن السحر..‏
لأن موسى كسرت عصاه‏
ولم يعد بوسعه شق مياه البحر‏
لأنكم لستم كأمريكا.. ولسنا كالهنود الحمر‏
فسوف تهلكون عن آخركم‏
فوق صحاري مصر…‏
 
4‏
المسجد الأقصى شهيدٌ جديد‏
نضيفه إلى الحساب العتيق‏
وليست النار، وليس الحريق‏
سوى قناديلٍ تضيء الطريق‏
 
5‏
من قصب الغابات‏
نخرج كالجنّ لكم.. من قصب الغاباتْ‏
من رزم البريد، من مقاعد الباصات‏
من علب الدخان، من صفائح البنزين، من شواهد الأموات‏
من الطباشير، من الألواح، من ضفائر البناتْ‏
من خشب الصلبان، ومن أوعية البخور، من أغطية الصلاة‏
من ورق المصحف نأتيكم‏
من السطور والآياتْ…‏
فنحن مبثوثون في الريح، وفي الماء، وفي النبات‏
ونحن معجونون بالألوان والأصوات..‏
لن تفلتوا.. لن تفلتوا..‏
فكل بيتٍ فيه بندقيه‏
من ضفة النيل إلى الفراتْ‏
 
6‏
لن تستريحوا معنا..‏
كل قتيلٍ عندنا‏
يموت آلافاً من المرات…‏
 
7‏
انتبهوا.. انتبهوا…‏
أعمدة النور لها أظافر‏
وللشبابيك عيونٌ عشر‏
والموت في انتظاركم في كل وجهٍ عابرٍ…‏
أو لفتةٍ .. أو خصر‏
الموت مخبوءٌ لكم.. في مشط كل امرأةٍ..‏
وخصلةٍ من شعر..‏
 
8‏
يا آل إسرائيل.. لا يأخذكم الغرورْ‏
عقارب الساعات إن توقفت، لا بد أن تدور..‏
إن اغتصاب الأرض لا يخيفنا‏
فالريش قد يسقط عن أجنحة النسور‏
والعطش الطويل لا يخيفنا‏
فالماء يبقى دائماً في باطن الصخور‏
هزمتم الجيوش.. إلا أنكم لم تهزموا الشعور‏
قطعتم الأشجار من رؤوسها.. وظلت الجذور‏
 
9‏
ننصحكم أن تقرؤوا ما جاء في الزبور‏
ننصحكم أن تحملوا توراتكم‏
وتتبعوا نبيكم للطور..‏
فما لكم خبزٌ هنا.. ولا لكم حضور‏
من باب كل جامعٍ..‏
من خلف كل منبرٍ مكسور‏
سيخرج الحجاج ذات ليلةٍ.. ويخرج المنصور‏
 
10‏
إنتظرونا دائماً..‏
في كل ما لا ينتظرْ‏
فنحن في كل المطارات، وفي كل بطاقات السفر‏
نطلع في روما، وفي زوريخ، من تحت الحجر‏
نطلع من خلف التماثيل وأحواض الزهر..‏
رجالنا يأتون دون موعدٍ‏
في غضب الرعد، وزخّات المطر‏
يأتون في عباءة الرسول، أو سيف عمر..‏
نساؤنا.. يرسمن أحزان فلسطين على دمع الشجر‏
يقبرن أطفال فلسطين، بوجدان البشر‏
يحملن أحجار فلسطين إلى أرض القمرْ..‏
 
11‏
لقد سرقتم وطناً..‏
فصفَّق العالم للمغامره‏
صادرتمُ الألوفَ من بيوتنا‏
وبعتم الألوف من أطفالنا‏
فصفّق العالم للسماسره..‏
سرقتم الزيت من الكنائس‏
سرقتم المسيح من بيته في الناصره‏
فصفق العالم للمغامره‏
وتنصبون مأتماً..‏
إذا خطفنا طائره‏
 
12‏
تذكروا.. تذكروا دائماً‏
بأن أمريكا – على شأنها –‏
ليست هي الله العزيز القدير‏
وأن أمريكا – على بأسها –‏
لن تمنع الطيور أن تطير‏
قد تقتل الكبير.. بارودةٌ‏
صغيرةٌ.. في يد طفلٍ صغير‏
 
13‏
ما بيننا.. وبينكم.. لا ينتهي بعام‏
لا ينتهي بخمسةٍ.. أو عشرةٍ.. ولا بألف عام‏
طويلةٌ معارك التحرير كالصيام‏
ونحن باقون على صدوركم..‏
كالنقش في الرخام..‏
باقون في صوت المزاريب.. وفي أجنحة الحمامْ‏
باقون في ذاكرة الشمس، وفي دفاتر الأيام‏
باقون في شيطنة الأولاد.. في خربشة الأقلام‏
باقون في الخرائط الملونه‏
باقون في شعر امرئ القيس..‏
وفي شعر أبي تمام..‏
باقون في شفاه من نحبهم‏
باقون في مخارج الكلام..‏
 
14‏
موعدنا حين يجيء المغيب‏
موعدنا القادم في تل أبيب‏
"نصرٌ من الله وفتحٌ قريب"‏
 
15‏
ليس حزيران سوى يومٍ من الزمان‏
وأجمل الورود ما ينبت في حديقة الأحزان..‏
 
16‏
للحزن أولادٌ سيكبرون..‏
للوجع الطويل أولادٌ سيكبرون‏
للأرض، للحارات، للأبواب، أولادٌ سيكبرون‏
وهؤلاء كلهم..‏
تجمعوا منذ ثلاثين سنه‏
في غرف التحقيق، في مراكز البوليس، في السجون‏
تجمعوا كالدمع في العيون‏
وهؤلاء كلهم..‏
في أي.. أي لحظةٍ‏
من كل أبواب فلسطين سيدخلون..‏
 
17‏
..وجاء في كتابه تعالى:‏
بأنكم من مصر تخرجونْ‏
وأنكم في تيهها، سوف تجوعون، وتعطشون‏
وأنكم ستعبدون العجل دون ربكم‏
وأنكم بنعمة الله عليكم سوف تكفرون‏
وفي المناشير التي يحملها رجالنا‏
زدنا على ما قاله تعالى:‏
سطرين آخرين:‏
ومن ذرى الجولان تخرجون‏
وضفة الأردن تخرجون‏
بقوة السلاح تخرجون..‏
 
18‏
سوف يموت الأعور الدجالْ‏
سوف يموت الأعور الدجال‏
ونحن باقون هنا، حدائقاً، وعطر برتقال‏
باقون فيما رسم الله على دفاتر الجبال‏
باقون في معاصر الزيت.. وفي الأنوالْ‏
في المدّ.. في الجزر.. وفي الشروق والزوال‏
باقون في مراكب الصيد، وفي الأصداف، والرمال‏
باقون في قصائد الحب، وفي قصائد النضال‏
باقون في الشعر، وفي الأزجال‏
باقون في عطر المناديلِ..‏
في (الدبكة) و (الموال)..‏
في القصص الشعبي، والأمثالْ‏
باقون في الكوفية البيضاء، والعقال‏
باقون في مروءة الخيل، وفي مروءة الخيال‏
باقون في (المهباج) والبن، وفي تحية الرجال للرجال‏
باقون في معاطف الجنود، في الجراح، في السعال‏
باقون في سنابل القمح، وفي نسائم الشمال‏
باقون في الصليب..‏
باقون في الهلال..‏
في ثورة الطلاب، باقون، وفي معاول العمال‏
باقون في خواتم الخطبة، في أسِرّةِ الأطفال‏
باقون في الدموع..‏
باقون في الآمال‏
 
19‏
تسعون مليوناً من الأعراب خلف الأفق غاضبون‏
با ويلكم من ثأرهم..‏
يوم من القمقم يطلعون..‏
 
20‏
لأن هارون الرشيد مات من زمانْ‏
ولم يعد في القصر غلمانٌ، ولا خصيان‏
لأننا من قتلناه، وأطعمناه للحيتان‏
لأن هارون الرشيد لم يعد إنسان‏
لأنه في تحته الوثير لا يعرف ما القدس.. وما بيسان‏
فقد قطعنا رأسه، أمس، وعلقناه في بيسان‏
لأن هارون الرشيد أرنبٌ جبان‏
فقد جعلنا قصره قيادة الأركان..‏
 
21‏
ظل الفلسطينيُّ أعواماً على الأبواب..‏
يشحذ خبز العدل من موائد الذئاب‏
ويشتكي عذابه للخالق التوابْ‏
وعندما.. أخرج من إسطبله حصاناً‏
وزيَّتَ البارودة الملقاة في السرداب‏
أصبح في مقدوره أن يبدأ الحساب..‏
نحن الذين نرسم الخريطه‏
ونرسم السفوح والهضاب..‏
نحن الذين نبدأ المحاكمه‏
ونفرض الثواب والعقاب..‏
 
23‏
العرب الذين كانوا عندكم مصدِّري أحلامْ‏
تحولوا بعد حزيران إلى حقلٍ من الألغام‏
وانتقلت (هانوي) من مكانها..‏
وانتقلت فيتنام..‏
 
24‏
حدائق التاريخ دوماً تزهرُ..‏
ففي ذرى الأوراس قد ماج الشقيق الأحمر..‏
وفي صحاري ليبيا.. أورق غصنٌ أخضر..‏
والعرب الذين قلتم عنهم: تحجَّروا‏
تغيّروا..‏
تغيّروا‏
 
25‏
أنا الفلسطيني بعد رحلة الضياع والسرابْ‏
أطلع كالعشب من الخراب‏
أضيء كالبرق على وجوهكم‏
أهطل كالسّحاب‏
أطلع كلَّ ليلةٍ..‏
من فسحة الدار، ومن مقابض الأبواب‏
من ورق التوت، ومن شجيرة اللبلاب‏
من بركة الدار، ومن ثرثرة المزراب‏
أطلع من صوت أبي..‏
من وجه أمي الطيب الجذّاب‏
أطلع من كل العيون السود والأهداب‏
ومن شبابيك الحبيبات، ومن رسائل الأحباب‏
أفتح باب منزلي.‏
أدخله. من غير أن أنتظر الجوابْ‏
لأنني أنا.. السؤال والجواب‏
 
26‏
محاصرون أنتمُ بالحقد والكراهيه‏
فمن هنا جيش أبي عبيدةٍ‏
ومن هنا معاويه‏
سلامكم ممزقٌ..‏
وبيتكم مطوقٌ‏
كبيت أي زانيه..‏
 
27‏
نأتي بكوفيّاتنا البيضاء والسوداءْ‏
نرسم فوق جلدكم إشارة الفداء‏
من رحم الأيام نأتي كانبثاق الماء‏
من خيمة الذل التي يعلكها الهواء‏
من وجع الحسين نأتي.. من أسى فاطمة الزهراء‏
من أُحدٍ نأتي.. ومن بدرٍ.. ومن أحزان كربلاء‏
نأتي لكي نصحح التاريخ والأشياء‏
ونطمس الحروف..‏
في الشوارع العبرية الأسماء..‏

****************

أطفـال الحجـارة

بهروا الدنيا..‏
وما في يدهم إلا الحجاره..‏
وأضاؤوا كالقناديل، وجاؤوا كالبشاره‏
قاوموا.. وانفجروا.. واستشهدوا..‏
وبقينا دبباً قطبيةً‏
صفِّحت أجسادها ضد الحراره..‏
قاتلوا عنا إلى أن قتلوا..‏
وجلسنا في مقاهينا.. كبصّاق المحارة‏
واحدٌ يبحث منا عن تجارة..‏
واحدٌ.. يطلب ملياراً جديداً..‏
وزواجاً رابعاً..‏
ونهوداً صقلتهن الحضارة..‏
واحدٌ.. يبحث في لندن عن قصرٍ منيفٍ‏
واحدٌ.. يعمل سمسار سلاح..‏
واحدٌ.. يطلب في البارات ثاره..‏
واحدٌ.. بيحث عن عرشٍ وجيشٍ وإمارة..‏
آه.. يا جيل الخياناتِ..‏
ويا جيل العمولاتِ..‏
ويا جيل النفاياتِ‏
ويا جيل الدعارةْ..‏
سوف يجتاحك –مهما أبطأ التاريخ-‏
أطفال الحجاره..‏

***************

دكتوراه شرف في كيمياء الحجر

يرمي حجراً..
أو حجرينْ.
يقطعُ أفعى إسرائيلَ إلى نصفينْ
يمضغُ لحمَ الدبّاباتِ،
ويأتينا..
من غيرِ يدينْ..
في لحظاتٍ..
تظهرُ أرضٌ فوقَ الغيمِ،
ويولدُ وطنٌ في العينينْ
في لحظاتٍ..
تظهرُ حيفا.
تظهرُ يافا.
تأتي غزَّةُ في أمواجِ البحرِ
تضيءُ القدسُ،
كمئذنةٍ بين الشفتينْ..
يرسمُ فرساً..
من ياقوتِ الفجرِ..
ويدخلُ..
كالإسكندرِ ذي القرنينِ.
يخلعُ أبوابَ التاريخِ،
وينهي عصرَ الحشّاشينَ،
ويقفلُ سوقَ القوَّادين،
ويقطعُ أيدي المرتزقينَ،
ويلقي تركةَ أهلِ الكهفِ،
عن الكتفينْ..
في لحظاتٍ..
تحبلُ أشجارُ الزّيتونِ،
يدرُّ حليبٌ في الثديينْ..
يرسمُ أرضاً في طبريّا
يزرعُ فيها سنبلتينْ
يرسمُ بيتاً فوقَ الكرملْ،
يرسمُ أمّاً.. تطحنُ بُنَّاً عندَ البابِ،
وفنجانينْ..
وفي لحظاتٍ.. تهجمُ رائحةُ الليمونِ،
ويولدُ وطنٌ في العينينْ
يرمي قمراً من عينيهِ السوداوينِ،
وقد يرمي قمرينْ..
يرمي قلماً.
يرمي كتباً.
يرمي حبراً.
يرمي صمغاً.
يرمي كرّاسات الرسمِ
وفرشاةَ الألوانْ
تصرخُ مريمُ: "يا ولداهُ "..
وتأخذهُ بينَ الأحضانْ.
يسقطُ ولدٌ
في لحظاتٍ..
يولدُ آلافُ الصّبيانْ
يكسفُ قمرٌ غزّاويٌ
في لحظاتٍ...
يطلعُ قمرٌ من بيسانْ
يدخلُ وطنٌ للزنزانةِ،
يولدُ وطنٌ في العينين..
ينفضُ عن نعليهِ الرملَ..
ويدخلُ في مملكةِ الماء.
يفتحُ نفقاً آخرَ.
يُبدعُ زمناً آخرَ.
يكتبُ نصاً آخرَ.
يكسرُ ذاكرةَ الصحراءْ.
يقتلُ لغةً مستهلكةً
منذُ الهمزةِ.. حتّى الياءْ..
يفتحُ ثقباً في القاموسِ،
ويعلنُ موتَ النحوِ.. وموتَ الصرفِ..
وموتَ قصائدنا العصماءْ..
يرمي حجراً.
يبدأ وجهُ فلسطينٍ
يتشكّلُ مثلَ قصيدةِ شعرْ..
يرمي الحجرَ الثاني
تطفو عكّا فوق الماءِ قصيدةَ شعرْ
يرمي الحجرَ الثالثَ
تطلعُ رامَ الله بنفسجةً من ليلِ القهرْ
يرمي الحجر العاشرَ
حتّى يظهرَ وجهُ اللهِ..
ويظهرُ نورُ الفجرْ..
يرمي حجرَ الثورةِ
حتّى يسقطَ آخر فاشستيّ
من فاشستِ العصرْ
يرمي..
يرمي..
يرمي..
حتّى يقلعَ نجمةَ داوودٍ
بيديهِ،
ويرميها في البحرْ..
تسألُ عنهُ الصحفُ الكبرى:
أيُّ نبيٍّ هذا القادمُ من كنعانْ ؟
أيُّ صبيٍّ ؟
هذا الخارجُ من رحمِ الأحزانْ ؟
أيُّ نباتٍ أسطوريٍّ
هذا الطالعُ من بينِ الجُدرانْ ؟
أيُّ نهورٍ من ياقوتٍ
فاضت من ورقِ القرآنْ ؟
يسألُ عنهُ العرَّافونَ.
ويسألُ عنه الصوفيّونَ.
ويسألُ عنه البوذيّونَ.
ويسألُ عنهُ ملوكُ الأنسِ،
ويسألُ عنهُ ملوكُ الجانْ.
من هوَ هذا الولدُ الطالعُ
مثلَ الخوخِ الأحمرِ..
من شجرِ النسيانْ؟
من هوَ هذا الولدُ الطافشُ
من صورِ الأجدادِ..
ومن كذبِ الأحفادِ..
ومن سروالِ بني قحطانْ ؟
من هوَ هذا الولدُ الباحثُ
عن أزهارِ الحبِّ..
وعنْ شمسِ الإنسانْ ؟
من هوَ هذا الولدُ المشتعلِ العينينْ..
كآلهةِ اليونانْ ؟
يسألُ عنهُ المضطهدونَ..
ويسألُ عنهُ المقموعونَ.
ويسألُ عنه المنفيّونَ.
وتسألُ عنهُ عصافيرٌ خلفَ القضبانْ.
من هوَ هذا الآتي..
من أوجاعِ الشمعِ..
ومن كتبِ الرُّهبانْ؟
من هوَ هذا الولدُ
التبدأُ في عينيهِ..
بداياتُ الأكوانْ؟
من هوَ؟
هذا الولدُ الزّارعُ
قمحَ الثورةِ..
في كلِّ مكانْ؟
يكتبُ عنهُ القصصيّونَ،
ويروي قصّتهُ الرُّكبانْ.
من هوَ هذا الطفلُ الهاربُ من شللِ الأطفالِ،
ومن سوسِ الكلماتْ؟
من هوَ؟
هذا الطافشُ من مزبلةِ الصبرِ..
ومن لُغةِ الأمواتْ؟
تسألُ صحفُ العالمِ،
كيفَ صبيٌّ مثل الوردةِ..
يمحو العالمَ بالممحاةْ؟؟
تسألُ صحفٌ في أمريكا
كيف صبيٌّ غزّاويٌّ،
حيفاويٌّ،
عكَّاويٌّ،
نابلسيٌّ،
يقلبُ شاحنةَ التاريخِ،
ويكسرُ بللورَ التوراةْ ؟؟؟

***************

المهـرولــون

1
سقطت آخر جدران الحياءْ.‏
و فرحنا.. و رقصنا..‏
و تباركنا بتوقيع سلام الجبناء‏
لم يعد يرعبنا شيئٌ..‏
و لا يخجلنا شيءٌ..‏
فقد يبست فينا عروق الكبرياءْ…‏
 
2
سقطت..للمرة الخمسينَ عذريتُنا..‏
دون أن نهتز.. أو نصرخَ..‏
أو يرعبَنا مرأى الدماء..‏
و دخلنا في زمان الهرولة..‏
و و قفنا بالطوابير، كأغنامٍ أمام المقصلة.‏
و ركضنا.. و لهثنا..‏
و تسابقنا لتقبيل حذاء القتلة..‏
 
3
جوَّعوا أطفالنا خمسين عاماً.‏
و رموا في آخر الصوم إلينا..‏
بصلة...‏
 
4
سقطت غرناطةٌ‏
للمرة الخمسين من أيدي العرب.‏
سقط التاريخ من أيدي العرب.‏
سقطت أعمدة الروح، و أفخاذ القبيلة.‏
سقطت كل مواويل البطولة.‏
سقطت كل مواويل البطولة.‏
سقطت إشبيلة.‏
سقطت أنطاكية..‏
سقطت حطين من غير قتالً..‏
سقطت عمورية..‏
سقطت مريم في أيدي الميليشيات‏
فما من رجلٍ ينقذ الرمز السماوي‏
و لا ثَمَّ رجولة...‏
 
5
سقطت آخر محظياتنا‏
في يد الروم، فعن ماذا ندافع؟‏
لم يعد في قصرنا جاريةٌ واحدةٌ‏
تصنع القهوة و الجنس..‏
فعن ماذا ندافع؟؟‏
 
6
لم يعد في يدنا‏
أندلسٌ واحدةٌ نملكها..‏
سرقوا الابواب‏
و الحيطان و الزوجات، و الأولاد،‏
و الزيتون، و الزيت‏
و أحجار الشوارع.‏
سرقوا عيسى بن مريم‏
و هو ما زال رضيعاً..‏
سرقوا ذاكرة الليمون..‏
و المشمش.. و النعناع منا..‏
و قناديل الجوامع...‏
 
7
تركوا علبة سردينٍ بأيدينا‏
تسمى (غزةً)..‏
عظمةً يابسةً تدعى (أريحا)..‏
فندقاً يدعى فلسطين..‏
بلا سقفٍ لا أعمدةٍ..‏
تركونا جسداً دون عظامٍ‏
و يداً دون أصابع...‏
 
8
لم يعد ثمة أطلال لكي نبكي عليها.‏
كيف تبكي أمةٌ‏
أخذوا منها المدامع؟؟‏
 
9
بعد هذا الغزل السري في أوسلو‏
خرجنا عاقرين..‏
وهبونا وطناً أصغر من حبة قمحٍ..‏
وطناً نبلعه من غير ماءٍ‏
كحبوب الأسبرين!!..‏
 
10
بعد خمسين سنة..‏
نجلس الآن، على الأرض الخراب..‏
ما لنا مأوى‏
كآلاف الكلاب!!.‏
 
11
بعد خمسين سنة‏
ما وجدنا وطناً نسكنه إلا السراب..‏
ليس صلحاً،‏
ذلك الصلح الذي أدخل كالخنجر فينا..‏
إنه فعل اغتصاب!!..‏
 
12
ما تفيد الهرولة؟‏
ما تفيد الهرولة؟‏
عندما يبقى ضمير الشعب حياً‏
كفتيل القنبلة..‏
لن تساوي كلُّ توقيعات أوسلو..‏
خردلة!!..‏
 
13
كم حلمنا بسلامٍ أخضرٍ..‏
و هلالٍ أبيضٍ..‏
و ببحرٍ أزرقٍ.. و قلوع مرسلة..‏
و وجدنا فجأة أنفسنا.. في مزبلة!!.‏
 
14‏
من ترى يسألهم عن سلام الجبناء؟‏
لا سلام الأقوياء القادرين.‏
من ترى يسألهم‏
عن سلام البيع بالتقسيط..‏
و التأجير بالتقسيط..‏
و الصفقات..‏
و التجار و المستثمرين؟.‏
من ترى يسألهم‏
عن سلام الميتين؟‏
أسكتوا الشارعَ‏
و اغتالوا جميعَ الأسئلة..‏
و جميع السائلينْ...‏
 
15
... و تزوجنا بلا حبٍ..‏
من الأنثى التي ذات يومٍ أكلت أولادنا..‏
مضغت أكبادنا..‏
و أخذناها إلى شهر العسل..‏
و سكرنا.. و رقصنا..‏
و استعدنا كل ما نحفظ من شعر الغزل..‏
ثم أنجبنا، لسوء الحظ، أولاداً معاقين‏
لهم شكل الضفادع..‏
و تشردنا على أرصفة الحزن،‏
فلا من بلدٍ ثمة نحضنه..‏
أو من ولد!!‏
 
16
لم يكن في العرس رقصٌ عربي.ٌ‏
أو طعامٌ عربي.ٌ‏
أو غناءٌ عربي.ٌ‏
أو حياء عربي.ٌ ٌ‏
فلقد غاب عن الزفّة أولاد البلد..‏
 
17
كان نصف المهر بالدولار..‏
كان الخاتم الماسي بالدولار..‏
كانت أجرة المأذون بالدولار..‏
و الكعكة كانت هبةً من أمريكا..‏
و غطاء العرس، و الأزهار، و الشمع،‏
و موسيقى المارينز..‏
كلها قد صنعت في أمريكا!!.‏
 
18
و انتهى العرس..‏
و لم تحضر فلسطين الفرح.‏
بل رأت صورتها مبثوثةً عبر كل الأقنية..‏
و رأت دمعتها تعبر أمواج المحيط..‏
نحو شيكاغو.. و جيرسي.. و ميامي..‏
و هي مثل الطائر المذبوح تصرخ:‏
ليس هذا الثوب ثوبي..‏
ليس هذا العار عاري..‏
أبداً.. يا أمريكا..‏
أبداً.. يا أمريكا..‏
أبداً.. يا أمريكا..‏

*****************

متى يعلنون وفاة العرب

ـ 1 ـ‏
أحاولُ منذ الطفولة رسم بلادٍ‏
تسمّى مجازاً بلاد العرب‏
تسامِحُني إن كسرْتُ زجاج القمر...‏
وتشكرني إن كتبت قصيدة حبٍ‏
وتسمح لي أن أمارس فعل الهوى‏
ككل العصافير فوق الشجر...‏
أحاول رسم بلادٍ‏
تعلمني أن أكون على مستوى العشق دوماً‏
فأفرش تحتك، صيفاً، عباءة حبي‏
وأعصر ثوبك عند هطول المطر...‏
 
ـ 2 ـ‏
أحاول رسم بلادٍ...‏
لها برلمانٌ من الياسمين.‏
وشعبٌ رقيق من الياسمين.‏
تنام حمائمها فوق رأسي.‏
وتبكي مآذنها في عيوني.‏
أحاول رسم بلادٍ تكون صديقة شعري.‏
ولا تتدخل بيني وبين ظنوني.‏
ولا يتجول فيها العساكر فوق جبيني.‏
أحاول رسم بلادٍ...‏
تكافئني إن كتبت قصيدة شعرٍ‏
وتصفح عني ، إذا فاض نهر جنوني‏
 
ـ 3 ـ‏
أحاول رسم مدينة حبٍ...‏
تكون محررةً من جميع العقد...‏
فلايذبحون الأنوثة فيها...ولايقمعون الجسد...‏
 
ـ 4 ـ‏
رحلت جنوباً...رحلت شمالاً...‏
ولافائده...‏
فقهوة كل المقاهي ، لها نكهةٌ واحده...‏
وكل النساء لهن إذا ما تعرين‏
رائحةٌ واحده...‏
وكل رجال القبيلة لايمضغون الطعام‏
ويلتهمون النساء بثانيةٍ واحده.‏
 
ـ 5 ـ‏
أحاول منذ البدايات...‏
أن لا أكون شبيهاً بأي أحد...‏
رفضت الكلام المعلب دوماً.‏
رفضت عبادة أيِّ وثن...‏
 
ـ 6 ـ‏
أحاول إحراق كلِّ النصوص التي أرتديها.‏
فبعض القصائد قبرٌ،‏
وبعض اللغات كفن.‏
وواعدت آخر أنثى...‏
ولكنني جئت بعد مرور الزمن...‏
 
ـ 7 ـ‏
أحاول أن أتبرأ من مفرداتي‏
ومن لعنة المبتدأ والخبر...‏
وأنفض عني غباري.‏
وأغسل وجهي بماء المطر...‏
أحاول من سلطة الرمل أن أستقيل...‏
وداعا قريشٌ...‏
وداعا كليبٌ...‏
وداعا مُضَرْ...‏
 
ـ 8 ـ‏
أحاول رسم بلادٍ‏
تسمى مجازاً بلاد العربْ‏
سريري بها ثابتٌ‏
ورأسي بها ثابتٌ‏
لكي أعرف الفرق بين البلاد وبين السفن...‏
ولكنهم...أخذوا علبة الرسم مني.‏
ولم يسمحوا لي بتصوير وجه الوطنْ...‏
 
ـ 9 ـ‏
أحاول منذ الطفولةِ‏
فتحَ فضاءٍ من الياسمين‏
وأسَّست أول فندق حبٍ...بتاريخ كل العربْ...‏
ليستقبل العاشقين...‏
وألغيت كل الحروب القديمة...‏
بين الرجال...وبين النساء...‏
وبين الحمام...ومن يذبحون الحمام...‏
وبين الرخام ومن يجرحون بياض الرخام...‏
ولكنهم...أغلقوا فندقي...‏
وقالوا بأن الهوى لايليق بماضي العرب...‏
وطهر العرب...‏
وإرث العرب...‏
فيا للعجب!!‏
 
ـ 10 ـ‏
أحاول أن أتصور ما هو شكل الوطنْ؟‏
أحاول أن أستعيد مكانيَ في بطن أمي‏
وأسبح ضد مياه الزمن...‏
وأسرق تيناً ، ولوزاً ، و خوخاً،‏
وأركض مثل العصافير خلف السفن.‏
أحاول أن أتخيّلَ جنة عدنٍ‏
وكيف سأقضي الإجازة بين نهور العقيق...‏
وبين نهور اللبن...‏
وحين أفقت...اكتشفت هشاشة حلمي‏
فلا قمرٌ في سماء أريحا...‏
ولا سمكٌ في مياه الفرات...‏
ولا قهوةٌ في عدن...‏
 
ـ 11 ـ‏
أحاول بالشعر...أن أمسك المستحيلا...‏
وأزرع نخلاً...‏
ولكنهم في بلادي ، يقصون شعر النخيل...‏
أحاول أن أجعل الخيل أعلى صهيلا‏
ولكن أهل المدينة يحتقرون الصهيل!!‏
 
ـ 12 ـ‏
أحاول سيدتي أن أحبَّكِ...‏
خارج كلِّ الطقوس...‏
وخارج كل النصوص...‏
وخارج كل الشرائع والأنظمه‏
أحاول سيدتي أن أحبك...‏
في أي منفى ذهبت إليه...‏
لأشعر حين أضمّك يوماً لصدري‏
بأني أضمّ تراب الوطن...‏
 
ـ 13 ـ‏
أحاول مذ كنت طفلاً، قراءة أي كتابٍ‏
تحدث عن أنبياء العرب.‏
وعن حكماء العرب... وعن شعراء العرب...‏
فلم أر إلا قصائد تلحس رجل الخليفةِ‏
من أجل جفنة رزٍ... وخمسين درهم...‏
فيا للعجب!!‏
ولم أر إلا قبائل ليست تفرق ما بين لحم النساء...‏
وبين الرطب...‏
فيا للعجب!!‏
ولم أر إلا جرائد تخلع أثوابها الداخليه...‏
لأي رئيسٍ من الغيب يأتي...‏
وأي عقيدٍ على جثة الشعب يمشي...‏
وأي مرابٍ يكدس في راحتيه الذهب...‏
فيا للعجب!!‏
 
ـ 14 ـ‏
أنا منذ خمسين عاما،‏
أراقب حال العرب.‏
وهم يرعدون، ولا يمطرون...‏
وهم يدخلون الحروب، ولا يخرجون...‏
وهم يعلكون جلود البلاغة علكاً‏
ولا يهضمون...‏
 
ـ 15 ـ‏
أنا منذ خمسين عاماً
أحاول رسم بلادٍ‏
تسمى مجازاً بلاد العرب‏
رسمت بلون الشرايين حيناً‏
وحيناً رسمت بلون الغضب.‏
وحين انتهى الرسم، ساءلت نفسي:‏
إذا أعلنوا ذات يومٍ وفاة العرب...‏
ففي أي مقبرةٍ يُدفنونْ؟‏
ومن سوف يبكي عليهم؟‏
وليس لديهم بناتٌ...‏
وليس لديهم بنون...‏
وليس هنالك حزنٌ،‏
وليس هنالك من يحزنون!!‏
 
ـ 16 ـ‏
أحاول منذ بدأت كتابة شعري‏
قياس المسافة بيني وبين جدودي العرب.‏
رأيت جيوشاً... ولا من جيوش...‏
رأيت فتوحاً... ولا من فتوح...‏
وتابعت كل الحروب على شاشة التلفزه...‏
فقتلى على شاشة التلفزه...‏
وجرحى على شاشة التلفزه...‏
ونصرٌ من الله يأتي إلينا...على شاشة التلفزه...‏
 
ـ 17 ـ‏
أيا وطني: جعلوك مسلسل رعبٍ‏
نتابع أحداثه في المساء.‏
فكيف نراك إذا قطعوا الكهرباءْ؟؟‏
 
ـ 18 ـ‏
أنا...بعد خمسين عاماً‏
أحاول تسجيل ما قد رأيت...‏
رأيت شعوباً تظن بأن رجال المباحث‏
أمرٌ من الله...مثل الصداع...ومثل الزكام...‏
ومثل الجذام... ومثل الجرب...‏
رأيت العروبة معروضةً في مزاد الأثاث القديم...‏
ولكنني...ما رأيت العرب !!‏

******************

القدس

بكيتُ.. حتى انتهت الدموعْ‏
صليت.. حتى ذابت الشموعْ‏
ركعت.. حتى ملني الركوع‏
سألت عن محمدٍ، فيك وعن يسوعْ‏
يا قدسُ، يا مدينة تفوح أنبياءْ‏
يا أقصر الدروب بين الأرض والسماءْ‏
يا قدس، يا منارة الشرائعْ‏
يا طفلةً جميلةً محروقة الأصابعْ‏
حزينةٌ عيناك، يا مدينة البتولْ‏
يا واحةً ظليلةً مرَّ بها الرسول ْ‏
حزينةٌ حجارة الشوارعْ‏
حزينةٌ مآذن الجوامعْ‏
يا قدس، يا جميلةً تلتف بالسوادْ‏
من يقرع الأجراسَ في كنيسة القيامة؟‏
صبيحةَ الآحادْ..‏
من يحمل الألعاب للأولادْ؟‏
في ليلةِ الميلادْ..‏
يا قدس، يا مدينة الأحزانْ‏
يا دمعةً كبيرةً تجول في الأجفانْ‏
من يوقف العدوانْ؟‏
عليك، يا لؤلؤة الأديانْ‏
من يغسل الدماء عن حجارة الجدرانْ؟‏
من ينقذ الإنجيلْ؟‏
من ينقذ القرآنْ؟‏
من ينقذ المسيحُ ممن قتلوا المسيحْ؟‏
من ينقذ الإنسانْ؟‏
يا قدسُ.. يا مدينتي‏
يا قدس.. يا حبيبتي‏
غداً.. غداً.. سيزهر الليمونْ‏
وتفرح السنابل الخضراء والزيتون‏
وتضحك العيون..‏
وترجع الحمائم المهاجرة..‏
إلى السقوف الطاهره‏
ويرجع الأطفال يلعبونْ‏
ويلتقي الآباء والبنون‏
على رباك الزاهرة..‏
يا بلدي..‏
يا بلد السلام والزيتونْ‏

-أهم المصادر والمراجع:

  1. د.حسين جمعة ، «نزار وارتعاش الروح»، دراسة، مجلة الموقف الأدبي، العدد 449 السنة السابعة و الثلاثون سبتمبر (أيلول) 2008م.
  2. سامر محي الدين أمين، نزار قباني شاعر المرأة والسياسة، دار كنوز المعرفة العلمية للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الثانية 2009م.
  3. د.محمد توفيق أبو علي ، « نزار بين الحداثة والجاهلية»، دراسة، مجلة الموقف الأدبي، العدد 449 السنة السابعة و الثلاثون سبتمبر (أيلول) 2008م
  4. محمد خليل الورداني، القصائد الممنوعة لنزار قباني، دار كنوز المعرفة العلمية للنشر والتوزيع، عمان، طبعة أولى 2008م.
  5. نزار قباني، الأعمال الشعرية الكاملة، الجزء الثالث (الأعمال السياسية)، منشورات نزار قباني، بيروت، الطبعة الثانية آب (أغسطس) 1998م.
  6. نزار قباني، الأعمال النثرية الكاملة، منشورات نزار قباني، بيروت، الطبعة الثانية آب (أغسطس) 1998م.
  7. نزار قباني، القصيدة الدمشقية وقصائد أخرى، اختيار: فادية غيبور ـ تقديم: د.حسين جمعة، سلسلة الكتاب الشهري (كتاب الجيب) رقم (22)، اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق.
  8. نضال نصر الله، نزار قباني وقصائد كانت ممنوعة، دار الأوائل للنشر والتوزيع، دمشق ـ الطبعة الرابعة 2006م.
  9. د.نعيم اليافي ، «الشعر العربي المعاصر في سورية»، دراسة، معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين، مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، الكويت، النسخة الالكترونية: [www.almoajam.org].

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى