الاثنين ٣٠ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم غزالة الزهراء

في القطار

انطلق القطار المارد يحتضن السكة الحديدية في هوس عجيب.
بحركة آلية من يدها سحبت كتابا من جوف حقيبتها الرمادية الملساء، وأنشأت عيناها العسليتان تلتهمان السطور الموازية بمحبة خالصة، هذا الكتاب حظيت به من أختها التي تصغرها بأشهر قلائل بمناسبة رأس السنة.
نطت من الفرح كريم طليق في بيداء مترامية الأطراف، وصاحت وهي ترتع تحت أيكة السعادة المورقة: كتاب !؟

عادة جميلة في جمال النرجس و الأقحوان جبلت عليها منذ أن وطأت قدماها مسرح الحياة،إنها عادة المطالعة الحميمة المشوقة، ومن ثم استهوتها روح الكتابة المقدسة فامتزجت بدمها القاني حتى العظم.

في حصة تصحيح التعبير أثنى عليها أستاذها هشام مفتخرا: أجود موضوع اعتلى المرتبة الأولى هو موضوع زميلتكم نهاد، هبوا أنفسكم لاغتراف ما في بطون أمهات الكتب، لا تتوانوا لحظة واحدة في امتصاص ما يقع بين أيديكم من رحيق المعارف و شتى العلوم.

حين تنطرح فوق فراشها الحريري الناعم تمسك كتابا بين يديها الناعمتين، وتغرق بولع شديد في قراءته إلى أن تبلغ منتصف الليل. عندئذ يرفرف الكرى حولها طاهرا وديعا مسالما كالحمائم البيض، ثم تنغمس في سبات عميق أشهى من رائحة الياسمين.
يتدحرج الكتاب الوفي من بين راحتيها كما تتدحرج دمعات لؤلؤية من عين صاحبها، ويستقر فجأة على شاطئ صدرها استقرار الهزار الشادي في عشه.

ذات يوم امتثلت أمام أستاذها مثول البريء أمام المحكمة، وقالت له بصوت يخالطه فيض الأمل و انتعاش الروح: من فضلك يا سيدي أن تطالع هذه القصة القصيرة التي هي من تأليفي الخاص، وأستعطفك أن توافيني برأيك الحكيم و توجيهك السديد، أرجو ألا تبخل علي يا سيدي.
ابتسم ابتسامة كبيرة ابتلعت وجهه القمحي اللون، ورد عليها بثقة واضحة، و اعتزاز كبير: لا تتوجسي قلقا، سأقرأ ها بكل تمعن و إخلاص، هذا شرف عظيم لي.

مر أسبوع، أسبوعان، ثلاثة أسابيع، شهر، شهران.
بدأ القلق الخبيث يخرب هدوءها الأزلي بمعاوله، و ينهش جنبات نفسها كصقر جائع لعين،و هاهي تتهاوى في بركة صدئة،آسنة،متربة من التساؤلات المفخخة:ألم يول اهتماما بالغا لقصتي، وقذف بها عمدا في أدراج النسيان؟ هل اعتبرها مجرد تخريف و هراء مسكوب فوق الورق؟ أهو يسخر مني الآن في أعماقه سخرية الملك المبجل لعبده الضعيف الذليل؟

دلف إلى القسم بخطواته الرزينة كأنه جندي في ميدان الشرف، التلاميذ كلهم في انتظاره، هبوا واقفين من مقاعدهم احتراما له، شق طريقه نحو المكتب بعد ان ألقى عليهم التحية الصباحية اللطيفة. كان في منتهى السعادة و الاطمئنان هذا اليوم بالنسبة له ليس كسائر الأيام، إنه يوم مميز حقا.

أربع وستون عينا عسلية، وبنية،وسوداوية ترمقه باهتمام زائد محبب، وآذان صاغية متحفزة لادخار ما يتلفظ به من قول ثري ثمين.
فتح محفظته الجلدية المنتفخة، أخرج مجلة في ثوبها الجديد عنوانها *الأمل* ثم طافت عيناه الذكيتان كل أرجاء القسم، وأخيرا استقرتا على وجه نهاد،هذه هي المعنية بالأمر.
ـــ اليوم سنحتفل احتفالا جماعيا بولادة كاتبة ناشئة تدرج بخطواتها في الدرب الوعر.
و أشار لها بسبابته أن تتفضل أمام زملائها و زميلاتها لتسمعهم قصتها الشيقة، فما كان منها إلا الانصياع و الطاعة.

دماء الخجل طفرت إلى وجنتيها حارة كاللهب، ارتبكت بعض الشيء، ثم شدت على رباطة جأشها و صمدت و الأمل شعاع ساحر وهاج يضيء هذه اللحظة المباركة.
راحت تقرأ بعذوبة بالغة مطلقة لا مثيل لها، وما إن فرغت من القراءة حتى علت الهتافات صاخبة،نابضة، مترنمة مصحوبة بتصفيقات حارة ألهبت المشاعر و الوجدان.
عيون البعض طفحت بالحسد و اللؤم، وبعضهم الآخر طوقها بالتشجيع و الامتنان و الإعجاب وكان من بين هؤلاء أستاذها الذي قال بصريح العبارة: صرت مفخرة كبرى لمدرستنا، واصلي المضي قدما في هذا الدرب الشائك.

ثم رانت عليه لحظة صمت سرعان ما تبددت كالخيالات، و استأنف قائلا وهو يحوطها بعينين تقطران سماحة و اعتزازا: نصيحتي الثمينة ألا تدعي الغرور يتشبث بك كالعلق لأنه سيهدم طموحك النبيل.
أسرت عبير: لو كنت محلك لترفعت عن الجميع.
ـــ لا يا عبير. ماذا دهاك؟ ألم يكن التواضع تاج المرء و زينته؟
صفر القطار، وصل إلى المحطة.

طوت من فوق صفحة الكتاب و أغلقته،ثم انتصبت واقفة كالطود الشامخ لتلقي نظرة دافئة سريعة من وراء النافذة.
هذه ليست محطتها المقصودة، مسافرون نزلوا في رمشة عين، و تشتتوا في كامل الاتجاهات، وآخرون امتطوا هذا القطار المارد الذي يشبه في زحفه الحية اللاسعة الرقطاء.
جلست مجددا،و بمجرد أن عاودت فتح الكتاب جلس قبالتها سيد محترم أثار كامل انتباهها،يبدو أنه شارف على الثمانين من العمر أو كاد، غزاه الشيب فاستحال شعره كالقطن في بياضه، أحست أنها تعرفه منذ وجود الخليقة على الأرض، هناك خيط رفيع جدا يربطها بهذا الشخص المحترم. طفقت تختلس النظر إليه وهي تتوغل و في مسالك ذكريات بعيدة، مبهجة.

ربما طمست آثار بعض الوجوه من مخيلتها مع تعاقب السنوات، و زحف العقبات، ولكن هذا الوجه الذي أنهكته رحلة الزمن الطويلة الشعثاء لم ينمح، ولم تتبدد معالمه، لا زال منقوشا بأحرف من ذهب في دهاليز ذاكرتها.
ابتدرته قائلة وهي تتوجس خيفة من ردة فعله: سيدي.... أنا ....
حدجها بنظرة عميقة يمازجها نوع من الاستغراب،قال بصوته المعهود: أتعرفينني أيتها .....
واحتمى بستائر الصمت كاحتماء الصغير برداء أمه.
ـــ أنا ....
ـــ ماذا تريدين؟
ـــ إن لم أكن مخطئة في اعتقادي، ألست مدرسا؟
ـــ كنت، وكان فعل ماض ناقص.
وسكت.

حفزها قوله على أن تسأله مرة أخرى: ألست الأستاذ هشام؟
ـــ أنا بلحمه و دمه،نعم أنا هو.
انفرجت شفتاها القرمزيتان عن ابتسامة مشعة و قالت: أنا نهاد التي كانت تلميذتك.
صاح بفرح: نهاد!كاتبة القصص و المواضيع الشيقة.
ـــ أمازلت تتذكرني طيلة هذه السنوات كلها؟
ـــ و كيف أنسى كاتبة ناجحة مثلك؟ لقد كتبت العديد من القصص و الروايات، روايتك الأخيرة *حصاد السنين* نالت جل إعجاب القراء.
ـــ الفضل الكبير يعود لك ،أنت من حفزتني و شددت على يدي بقوة للمضي قدما،ولا أنسى أبدا أول قصة لي برزت إلى النور عندما كنت آنذاك تلميذتك، لقد بعثت القصة بنفسك إلى عنوان المجلة، وفي الأخير فوجئت بالذي لم أتوقعه قط، القصة نشرت.
أرادت أن تخبره بأنها تزوجت بعد تخرجها من الجامعة مباشرة بشخصية لامعة لها وزنها في المجتمع، وأن زواجها هذا أثمر عن بنتين و ولد.
باغتها بسؤاله لمعرفة المزيد عنها: ماذا تفعلين حاليا؟
ـــ أستاذة أدب عربي بالثانوية.
ـــ ماشاء الله.
وأضاف قائلا: أنا أحلت على التقاعد منذ زمن، ولكن في بعض الأحيان أحن إلى التدريس رغم انه مهمة صعبة للغاية.
ـــ معك حق يا سيدي، التدريس مسؤولية جسيمة لا يستشعر مخاطرها إلا من ألقيت على كاهله.

هاهو القطار يصفر، إنه يتقدم نحو المحطة، الركاب يتأهبون للنزول، هبت من مقعدها قائلة في سعادة كبيرة: رافقتك السلامة يا سيدي.
هبطت وهي تتذكر دوما النصيحة الثمينة التي قيلت في شأنها: لا تدعي الغرور يتشبث بك كالعلق لأنه سيهدم طموحك النبيل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى