الأربعاء ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم بوشما حميد

الحلقة الأخيرة من رواية: الساحر بوجا

14نهاية عطلة المهرجان وبداية الدراسة

في يوم الاثنين،وخلال فترة الاستراحة الصباحية كانت ساحة المدرسة تعج بالتلاميذ الذين لم يكن من حديث يشغلهم سوى الحديث عن المهرجان وكل تلميذ بيده بعض المفرقعات أو اللعب التي استقدمها منه، فهاهي ملاك الآن تتباهى ببعض الصور التي التقطتها رفقة بعض الأطر والسحرة المرموقين في حين أن التلميذة شيطا تتباهى بكونها استطاعت أن تأخذ صورة على متن بغلة القبور. فصاحب بغلة القبور ينتقل من مهرجان لآخر لاستئجار بغلته للراغبين في أخذ تلك الصور مقابل بعض القطع النحاسية، ومن هنا نفهم ما قاله مجنون عيشة عندما عاتب صاحبه قائلاً:(( وله فيها مآرب أخرى)). كانت البغلة تنتفض في الصورة وتوهوه حتى أن ملاك لم تستطع أن تأخذ تلك الصورة بين يديها.

وظهر عاشور شاحب الوجه وقد احترق شعر رموشه وحواجبه و السبب هو انه طفق يشتغل قريبا من مقلة الإسفنج!.وكان يجد نفسه مجبراً على الاقتراب من الموقد بين الفينة و الأخرى، إلا أنه كان مسروراً بمجسم صغير لتنين أهداه إياه أحد أصدقاء أبيه، ظل التنين ينفث النار بين الفينة والأخرى والتلاميذ يبتعدون عنه ويقهقهون،استغل (جهبور) فترة الاستراحة وشرع يغرس بعض الشتائل التي استقدمها معه من المهرجان وهو يفتخر على أنه يعمل على تنويع المغروسات بحديقة المدرسة،وإن بدت بعض أشجار الحديقة غيورة من الفسائل الجديدة، ويتباهى كذلك بأن هذه الفسائل أهدتها له (الأم تريزا)# وقد باركت له عمله هذا.

لم يكن بوجا حاضرا بالساحة رغم انه تماثل للشفاء و رغم أنه بإمكانه الآن متابعة دراسته فمادامت الشهادة الطبية تخول له البقاء في منزله حتى اكتمال فترة النقاهة، فمن الأحسن أن يبقى في حجرته فالطبيب أدرى بما يفعله لم يفكر أحد من أصدقائه في زيارته، رغم أنهم علموا بالإصابة والسبب هو عقدة القفص. حتى أنه يتذكر أن التلاميذ كانوا يبتعدون عنه كأنه مجذوم، وحتى عندما يسأل أحدهم عن شيء لم يفهمه، فان ذلك المجيب كان يحرص على الإجابة بصوت مرتفع وهو مبتعد منه!

عرف أن الشهادة الطبية تمنحه حق متابعة دروسه عبر الشبكة السحرية. صفق راحتيه فظهرت على الحائط شاشة واسعة تظهر فيها الصور بأبعادها الثلاثة وبدأ يحرك فأرة الحاسوب ليتابع درس مادة التشفير،حيث بدأ التلاميذ يدخلون وهم يجمعون لعبهم في محفظاتهم، عضته فأرة الحاسوب،و تذكر أنه نسي تعويذة التلطيف، رددها وهو يخيط جرح أصبعه بلسانه، وبدأ يتابع الدرس غير آبه لذلك وهو يشاهد على شاشته الأستاذة شفورة ضفدوعة وهي تبدو منهكة وتعبة.

وقفت من على مقعدها واتجهت نحو السبورة، وتثاءبت ورددت:« درسنا اليوم سيكون هو التدرب على القيام بعمليات حسابية ذهنية في أسرع وقت ممكن. إذن فليقم كل واحد منكم بجمع عددين مختلفين، يتكون كل واحد منهما من رقمين في البداية.وعندما يرى أنه تمرن على ذلك، فلينصرف إلى جمع عددين يتكون كل واحد منهما من ثلاثة أرقام ثم من أربعة، وقفوا عند هذا الحد، فلا أريد إجهاداً ولا أدمغة تحترق، ونفس الشيء أفعلوه مع القسمة والضرب والطرح... هل فهمتم؟. لديكم نصف ساعة من التمارين، وفي النصف الآخر منها، سوف نرى من استطاع أن يقوم بأعقد العمليات بطريقة سريعة.و إذا وجدت منكم من هو جديرٌ بالاهتمام،فإنني سأساعده للمشاركة في المباريات الخاصة بالدخول إلى موسوعة موغا للأرقام القياسية».

ظل هذا هو الأسلوب المميز للأستاذة في عملها فهي دائما تحث التلاميذ على الجد والاجتهاد بطرق تحفيزية، وساد الصمت وبدأ التلاميذ يركزون كما لو أنهم يمارسون درسا من دروس "اليوغا".إلا شيطا التي شرعت تحول أصابع يدها إلى أقراص وخشيبات إذ يبدو أنها تعاني من ضعف كبير في هذه المادة،جلست الأستاذة فوق مكتبها ودفنت وجهها بين كفيها لبضع ثوان، ثم فتحت محفظتها وبدأت تخرج كتبها وتضعها فوق المكتب:"تاريخ الجنيات السبع"، "السيرة الذاتية للقاضي زوبعة"،"الطرق الست للخياطة السحرية"،الميثاق التعاضدي للساحرات الشقيات". وأخيرا كتاب" أناشيد مالدورو" الذي ينتمي إلى كتب العامة،أنا لست متفقا مع ملاك التي تقول الآن ما معناه: إن اهتمام الأستاذة بالكتب السوريالية، هو تجل لظاهرة العدوان لديها، وأنها تستأنس بهذه الكتب للتخفيف من وطء العذاب والتعاسة التي تعانيها من قدرتها"الأنيماجوسية"،على التحول إلى ضفدعة، فملاك تعتز بانتمائها إلى طبقة السحرة ذوي الدماء النقية وهي ترى أن القدرة على التحول إلى حيوانات أكثر دناءة وحقارة،هي بلية ونقمة أكثر مما هي نعمة.

رددت الأستاذة مشمئزة في وجه ملاك:« تابعي تمارينك أيتها البليدة ولا تتطرقين إلى مواضيع تبدو أكبر منك فذهنك مكشوف كما لو كان داخل قنينة زجاج».

حدج جهبور ملاك بنظرة وميضية احترقت معها بعض أطراف قميصها،وهو يهددها بشكل مسموع:« أتمنى ألا يحاكمونني هذه المرة بالاشتغال مجانا في بعض دور الأيتام،كمهتم بجمع حُفَاضات الأطفال فقط لأنني صفعت تلميذةً متعجرفة، في مثل هذه الحالة أتمنى أن أقوم بجريمة توصلني إلى سجفنارت.

وتابع جهبور توعده وهو يخبط جبهته مع الطاولة.

بدأت ملاك ترتعد في مكانها بسبب هذا التهديد، وتابعت بصوت مشروخ:« معذرة يا سيدتي إن الذهن أحيانا يفكر في أشياء دون أن تكون لصاحبه الرغبة في ذلك «.

ردت الأستاذة بعد ابتسامة حزينة وخاطفة « حسناً أنا أعرف ذلك...إيه جهبور لا تكن عنيفاُ وثوريا أكثر من اللازم، أنا معجبة ببعض خصائص شخصيتك، إلا أنني لا أريد أن يرتكب أحدا بعض الحماقات من أجلي «.

ندم بوجا على عدم حضوره هذه الحصة الشيقة، وبدأ يُمني نفسه أنه لو كُتِب له أن يحضرها لحصل على نتائج جيدة، فقد كانت أستاذته تكلفه والتلاميذ الذين انتخبتهم للمشاركة في المهرجان بتمارين شبيهة بهذه، وكان غالبا ما يوفق في ذلك، وبدأ بدوره يتمرن على تلك العمليات الحسابية، كان صدوق عاشور يختلس النظر من كتاب "كيف تتعلم السحر في خمسة أيام وبدون معلم!"، و ينتهز فرصة انشغال الأستاذة عنه، ليهيء وصفة تطويل شعر الرأس والرموش.إلا انه غالبا ما كان يفشل في ذلك، فيحصل على شعر بلون آخر.أو رموش من الريش ولم تكن شيطا تستطيع كبت رغبة الضحك عندما ترمقه في هذا الحال أو ذاك.
بيد أن ما أثار انتباه بوجا،هو أن الأستاذة الآن تعاود مراقبة أوراق الامتحان التي كانت قد كلفتهم به في الشهر المنصرم، وهي تحول نقط هذا الامتحان إلى سجلها الخاص، كلما ضربت مكان النقطة بسبَّابتها. بيد أنها عندما وصلت ورقة امتحانه هو، لم تكن هنالك أية نقطة، فقط علامتي استفهام كبيرتان وفتحت الأستاذة ورقة بوجا وبدأت تقرأ الإجابة التي أجاب بها عن السؤال الأول المتعلق بتاريخ الخياطة السحرية،حيث كان قد كتب:« إن الخياطة السحرية للجروح لها تاريخ عريق، حتى يحكى أن السحرة القدامى استلهموها من محاكاة بعض الثعابين. فالثعبان الذي يصاب بجرح في ذيله،غالبا ما يدخل هذا الذيل في فمه،ويصوم عن الأكل حتى يلتئم ذلك الجرح ويندمل، ولو اقتضى منه ذلك أن يصوم مدة طويلة، لقد كان العامة في البوادي يعتقدون أن الثعابين إنما تفعل ذلك لتحمي الجروح من هجوم النمل، ومهما يكن فنحن معشر السحرة نعتقد أن الثعابين بفعلها ذاك توفر ظروفا مثالية لالتئام الجرح وهذا هو المعنى الحقيقي للخياطة السحرية «.

توقفت الأستاذة عن متابعة المراجعة و بدأت تهز رأسها مثل يمامة استشعرت باقتراب طفل طائش منها و غمغمت في خاطرها:« أنت أيها الأبله.(وارتفع صوتها كالصرخة )، أتعتقد أيها الساذج أني لم أشعر أنك تتجسس علي عبر الشبكة السحرية؟ هيا ابتعد أيها الأبله و إلا حرمتك من متابعة هذا الدرس».

ارتعدت فرائصه وشعر بالخجل والخوف، لقيامه بهذا السلوك المقرف،وأحس كأن أذنيه أصبحتا طويلتان كأذني حمار لقد أغواه حب الاستطلاع على نقطة امتحانه،ليتجسس على الورقة وهي بين يديها ولم يخطر على باله أن الأستاذة ستضبطه متلبسا هكذا.
تمنى لو ابتلعته إحدى الحفر،وأكثر من ذلك فلو حدث له هذا مع أستاذ آخر لكان الخطب هينا شيئا ما، أما أن يحدث هذا مع الأستاذة شفورة ،التي كان لها فضل كبير عليه فرغم ما سمعه من الطبيب، رغم ذلك فهو يكن لها احتراما خاصا وحفاظا على ماء وجهه غادر الموقع برمته وحتى يتفادى الاصطدام معها مرة أخرى كذلك.

خطر بباله أن يزور المواقع السحرية للجرائد حيث أن معظمهن غطين أحداث المهرجان،بدأ يقرأ الجريدة النصف شهرية "سحر هاروت وماروت "وهي بالمناسبة جريدة يقرؤها قدماء السحرة والمتقاعدون ودوي التكوين الرديء،وصل بوجا الآن إلى الموضوع الذي يخص قضيته قرأ عند هذا الحد:«بوجا فاز بجائزة المسا يف المثالي،إلا أنه لن يستطع تسلمها، ولو تسنى له ذلك لكان مبلغها كافيا، لإرجاع الأموال التي سرقها من خزانة أستاذه،فضيلة الشيخ الأستاذ حربوء بن شراهيا، ولتمكن كذلك من دفع غرامات المحكمة».

تأفف من هذه الطريقة التي تناولت بها الجريدة موضوعه، انتقدها في نفسه كيف يحق لها البث في شيء لم تفصل فيه المحكمة بعد،غادر موقع الجريدة وأبحر تجاه موقع جريدة "سحر النانو" الجريدة اليومية الشهيرة، التي يتابعها جهابذة السحر وفطاحله، فهي تهتم بمستقبل السحر،وتغطي إنتاج التعاويذ الدقيقة واللعنات المجهرية.الجريدة التي يكتب فيها سَحَرة عظماء من قبيل نجُّوم ترو تسكي كتبت الجريدة في موضوع التسمم:« رغم محاولتها لتغيير الحامض النووي لبوجا وتغيير اسمه لم تفلح قلعتنا في إخفائه عن أعين جواسيس النمرود وجنوده، فهذا الأخير كان قد أرسل أفعى دست آلة سحرية،دقيقة تحت أنف بوجا. فيما يعرف بحادثة الأفعى والضفدعة. لقد كان والدا بوجا بالتربية يعتقدان أن الأفعى كانت تود لدغه وثم فهم العملية على أنها عملية طبيعية مما يحدث عندهم إلا أن الأفعى دست تلك الآلة الدقيقة، وأتقنت عملها بإحكام والتي بواسطتها استطاع عملاء النمرود أن يتعرفوا عليه عندما كان بالمهرجان، فالآلة تبعث إشعاعا سحريا على بعد مأتي ياردة وقد سهلت عليهم محاولة التسميم تلك. التحاليل وحدها ستبين ما إذا نجحوا في تسميمه بالشوكو إنترنيتو،إدا نجا هذا التلميذ فقد يكون نجا بأعجوبة. وعليه أن يكون حذرا في المستقبل فهو على رأس قائمة المطلوبين وعلى القلعة أن تتحمل ما تتعهد به في بنودها أي حماية المستظلين تحت ظلها».

لم ينه قراءة هذا المقال، حتى بدأ يسمع نبض قلبه، ويمسح نقط العرق التي تنساب من جبينه كالدموع فكر في الانصراف لقراءة مواضيع أخرى، غير أنه استحسن ألا يعرف شيئا آخر ففي بعض الأحيان يصبح الجهل رحمة، حداه شعور غريب حيث بدأ يفكر في فعل شيء ما، لماذا لا يقرأ كتابا؟ لماذا لا يدون ذكرياته؟ ضاق صدره فلا يفتأ يفتح كتاباً حتى يغلقه وينصرف لشيء آخر.

فكر في تصبين ملابسه وتصفيفها في الدولاب،بتعويذةٍ سحريةٍ واحدة، بدأت تجف الملابس والبخار يتصاعد منها.لازال هنالك وقت طويل،فكر في الخروج إلى الحديقة المجاورة، خطر بباله أنه إذا شاهده أحد من أساتذته سيقول له:«إيه...أيها اللعين أنت في صحة جيدة،ولم تأت لمتابعة دراستك،أنت إذن تتمارض سوف أخصم خمس نقط من معدلك «.

والآن فكر في الفكرة الجهنمية التي كان ينتزعها من ذهنه غير ما مرة، وهي الاطلاع على موقع سجفنارت. فإذا كانت كل المؤشرات تشير إلى أنه سيدخل إلى هذا السجن، فمن الأفضل أن يكتسب فكرة ما عنه. فتح الشاشة السحرية شاهد أول صورة، تسجل حارسا عملاقا شبيها بمجنون عيشة. تحولت يده إلى مطرقة كبيرة، وبدأ يخبط رأس أحد السجناء بعدما وضعه فوق سندان أحمر متوهج. والشرر الأخضر يتطاير بعد كل ضربة. لم تكن هنالك دماء تنهمر،بل كان رأس السجين يتعوج وينضغط كأنه قطعة حديدية حتى أن ملامح الوجه بدأت تختفي، انسدت عيناه وخرج معجون أبيض من أذنيه، وبدأ انفه يختفي تحت أسنانه التي أصبحت مشتتة في الوجه كله كأنها بيادق زليجية ملتصقة على سطح سارية. وظل السجين يصرخ بكل قواه وهو يردد:« إذا أضفتم ضربة واحدة ستقفلون أنفي ومسامي، كفوا عن ذلك أيها الجبناء «. إلا أن الحارس استمر يخبطه بشدة، حتى جعله على شكل أسطوانة بحجم قزم. وبدأت الملامح تظهر كأنها مرسومة على الاسطوانة بقلم رصاص.

ثم جعله في أنبوب نحاسي و أطبقه عليه والضحية يئن ويطلب النجدة،وأنينه يخفت كما لو ألقي به في بئر عميقة ومده إلى حارس آخر كان قاعدا مقربة موقد ناري، تسمع فيه طقطقات الحطب والأحجار المحترقة، فزج به الحارس في النار وأنينه الوهِن لا زال يسمع بين الفينة و الأخرى. ثم أجابه هذا الحارس وهو يرش النار بسائل يضاعف من أجيجها وَوَهَجِهَا:« اصبر يا ولدي فنحن نشتغل لمصلحتك...إننا نريد أن نقتل فيك فيروس "الشوغو إنترنيتو"...تجلد يا بني إن عذاب ليلة واحدة لا محالة زائل « . ما إن سمع بوجا هذه العبارة حتى انتفشت شعيرات رأسه وظهره وابتعد عن الشاشة مثلما لو خشي أن تبتلعه،حقا لقد أخطأ في الإبحار لا شك أنه داخل موقع مستشفى الرازي للأمراض السحرية وليس بموقع سجفنارت.

15عيد ميلاد ملاك

مَرَّت ثلاثة أسابيع،واليوم ستطفئ ملاك شمعتها الرابعة عشرة وقد دأب والداها على دعوة أصدقاء مهمين في القلعة ولإرضاء نجلتهم كذلك فقد اعتادوا على استدعاء زملائها في الدراسة و أساتذتها، ورغم أن والدها كان على علم بقضية بنته مع بوجا إلا أنه بدأ يقنعها باستدعائه.

وهو يذرع الصالون جيئة وذهاباُ، رشف رشفة من ذلك الكأس الذهبي الذي بيده،وألقى به في الهواء ليأخذه عشرة عفاريت كانوا ينتظرون ذلك. وبدأ يتحدث بصوت إلزامي: « أرى أنه من باب الإنسانية ألاّ ندعوَّ زملاءه ونتركه هو، ثم إن قضيته أصبحت مغطاة إعلاميا، وعلينا أن نأخذ هذا بعين الاعتبار». استجابت لرغبة أبيها،وبما أنها لم تكن قد هيأت الاستدعاء الخاص بهذا الضنين وبعثت به عبر أثير الشبكة السحرية، فقد اقتطفت ورقة من أغصان شجرة الحديقة التي كانت تتدلى من بعض النوافذ وحولت سبابتها إلى ريشة، ثمَّ نفخت في الرسالة لتطير نحو حجرة بوجا.

تمعن الولد في الرسالة كثيراً وعقرب إرادته يتردد بين الإقبال و التردد، فهو يشعر بالخجل عندما يظهر في بعض التجمعات العمومية بقفصه.إذ طفِقَ دائماً يتمنَّى لو كانت له قُبّعة ُ إخفاء، فكلما مرَّ مقرُبة جماعةٍ ألاَّ و اعتقد أنهم يتداولون قضيته. ومن جهة أخرى ذكَّرته هذه المناسبة بعيد ميلاده هو، فهو لا يعلم اليوم ولا الشهر الذي ولد فيهما. وكلما كان يحدث أمه رقية في الموضوع إلاّ وكانت تقول له:« ولدت في اليوم الذي سقط فيه حمار أيت علال في البئر». وهو بعد ذلك كله يشعر بالراحة والهناء، لأنه بجهله ليوم وشهر ميلاده، يستريح من عادة قراءة الأبراج والإيمان بها. كانت الهواجس تتقاطع في ذهنه وهو يردد تعويذة على البراد.فيحوله تارة إلى مقراج و أخرى إلى مهراز، غير أنه أفرغ ذهنه من تلك الهواجس التي كانت تُشَتِّتُه. وبدأ متضجراً وهو يعوِّذ فتحول البراد إلى مكواة، وبدأ يكوي السروال والقميص اللذان سيحضر بهما. كان القميص متآكلاً من بعض الجهات التي تحتك بقضبان القفص. مرر عليه لسانه فضحك شبح الجدة من ورائه وهو يُنَطِّعُ ساريا على ارتفاع ياردة واحدة:« خياطة جيِّدة لولا تلك الرشوم البادية!». ردَّ عليه دون أن يأبه به:« لا بأس لدي تعاويذ كثيرة لإخفاء الرشوم،ما خطبك؟». علَّق الشبح بسرورٍ:« أسرع فالضيوف بدءوا يستقرون بمقاعدهم، دخولك متأخراً قد يزيد من انتباههم إليك (ضَحَكَ) عقدة القفص».

خمن الوقت الذي سيستغرقه في الطريق مستعملاً قبقابيه. رغم ذلك سيكون من المتأخرين. فكر في قضية الإسراء، تذكر تلك الأيام التي قضاها في الحديقة متدرباً على ذلك. لم يكن يسري أكثر من بضع ياردات حتى يسقط على وجهه. كان يرى الأستاذ عبقور يسري وكان يغريه ذلك حيث كان يعتقد أن أستاذه لم يكن يبذل أي مجهود... أما طريقة الانتقال الآني التي انتقل بها في المهرجان رفقة أحد الحراس، فلو فكر فيها فسيكون مثل شخص أمي زعم أنه يستطيع قيادة طائرة صفق يسراه على يمناه وهو يردد:« جَلب خريطة >>.

بوشام أخضر ظهرت فوق راحته خريطة القلعة بها عدسة بلّورية تلمع مشيرةً إلى منزل ملاك حيث وجهته وجد أن أقصر الطرق إليه، يعبر من منتصف الغابة المشئومة. بيد أنه فضل أن يمشي في الطريق الجانبي. فهو لا يعرف المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها بدخوله للغابة المذكورة، ورغم أنه عبرها معية الحراس ساعة عودتهم من المهرجان، إلاّ أنهم مسحوا ذاكرته، حتى لا تعلم الوزارة بخرقهم للقانون من خلاله. وفي المرَّّةِ التي وقع فيها بقفصه أنقذه جنوت.

فضل المُضي في الطريق المحاذي لسياجها، وهو مسلك ضيق يصعب المشي فيه بسبب الصخور المتكورة هنا وهنالك، فما بالك بالانزلاق، على جهة اليمين تتدلى أغصان الدِّفلى، تظهر جذورها من تحث مثل أفاعي ملتوية على بعضها، ومن جهة اليسار سياج الغابة المكون من السدرِ والطلح.حيث يضطر أحياناً لرفع الأغصان حتى لا تتشابك بقفصه. وهو يتذكر عندما وبخته الأستاذة ضفد وعة بخصوص هذا الموضوع. بدأ يشم رائحة غريبة لم يسبق له أن شمَّها، لم يٌعِرها اهتماماً، هو الآن يفكر إلاَّ في هدية لملاك، رمق ورودا جميلة وراء أشجار السِّياج، إذن هذه فرصته سيجمع باقةً منها. تسلّل من بين أشواك السدرِ وهو يتمتم بالسِّحرِ والأشواك تتمايل يميناً وشمالاً لتترك له ممرّاً. ملأ ذراعه بالورود، التي شرعت تتفتح عن أكمامها وتنغلِقٌ، وألوانها تتغير باستمرار. أبصر عصفوراً جميلاً كالعندليب، كان العصفور يعزف سمفونيةً رائعة سيكون من الأفضل لو أهداه لها، يا لها من هديةٍ متميزة بدأ يتربص به غير أنّ الطائر طار ليحط غير بعيد، تذكر الطائر الأحمق الذي حدثته عنه الأٌستاذة في بداية السنة، غير أن رغبةً قوية كانت تدفعه للأمام، تضاعفت قوة الرائحة التي استنشقها آنفاً. رائحة شبيهة برائحة نبيذ فاسد، لم يشعر متى توغل في الغابة، اختفى الطائر. فتح خريطته وبدأ يبحث عن أقرب مسلك يقوده نحو فِيلاًّ ملاك. شقّ طريقه عبر أحد المسالك، إلا أن القنافذ السحرية هاجمته، قنافذ كثيرة تتطاير أشواكها كالسهام صوبه،و من ورائها تظهر تلك الضرابين التي كانت سهامها أطول، استعمل قبقابيه بأقصى ما يمكن من السرعة، وهو يسمع صوت الأشواك متساقطة وراءه كالبرَد، انعطف في مسلك آخر اختفت القنافذ إلا أن الرائحة بدأت تتأجج، بدأ يرى مصدرها إنه الضبع السحري، كانت شيطا قد حدثته عنه عرضا:« عندما يتبول عليك الضبع السحري تفقد وعيك وتتبعه ضاحكاً ثملاً، دون أن تشعر إلى أن يصل بك إلى وِجَارِهِ أو إلى كمين ما >>.

فكر فيما استرجعه من كلام شيطا هل يستطيع الرجوع إلى الوراء،رجع بضع ياردات وهو يكلم نفسه:« ها أندا أستطيع الرجوع، إذن أنا في كامل قواي النفسية «.

ثم سار في طريق منحدر، واأسفاه! لقد وجد نفسه مجبراً على عبور طريقٍ يمرٌّ وسط أشجار العناكب ظهر الذعر في عينيه، لقد سمع عن هذه الأشجار أنها تصطاد ضحاياها بطريقة العناكب فما أن يلمسك أحد أغصانها حتى يلتوي عليك. ولن تستطيع فكه حتى يلتوي عليك غصن آخر.ودَّ الرجوع إلاَّ أن المنحدر صُمِّمَ بطريقة يصعب التراجع عبره. اتضحت الرؤية أكثر حيث يرى تلك الأغصان الرقيقة والمتشابكة.و بها ذئاب وقردة نافقة تظهر كالذباب في أعشاش العناكب.وهنالك حيوانات وطيور أخرى لا زالت تنتفض ورؤوس الأغصان المشوَّكة تنغرز فيها وتمتص دماءها. اتجهت نحوه أغصان كثيرة وهي تطُول وتَطُول، احتمى بصخرة مرتفعة عن الأرض بياردة إلاّ أنها لم تنفعه فقد بدأت الرؤوس الأوُلى من الأغصان تلتف بقدميه بدأ يردد تعاويذ التخلص من الأغصان إلا أنها لم تؤت أُكلها. فعلى كل غصن من أشجار العناكب يوجد رقم طويل عليه أن يردده بعد كلِّ تعويذة، الأغصان كثيرة ومتشابكة وبالتالي يصعب تمييز تلك الأرقام. فكر في جنوت،عفواً جنوت اليوم منشغل بعيْد مخدومته ملاك.

فيرنان القلعة مفهوم في هذه الحالة،دخول الغابة المشئومة محظوراً و القانون لا يحمي المتهورين.كان هناك أسد يزأر وسط الأغصان وينهشها بأنيابه.إلاَّ أنها بدأت تلتفٌّ حوله بقوة وأشواكها توخزه بسرعة. تخلى بوجا عن فكرة تحويل سبابته إلى سيف، حيث تعلم من حالة الأسد ألاَّ يبدي أيَّة مقاومة،بدأ يسمع أنيناً قريباً منه تحث بعض الأغصان كابد كثيراً ليتجه نحو مكان الأنين.حيث كان كمن يجر أوتاراً تتمطط. بدأ يرفع بعض الأغصان ليظهر من تحتها صديقه جهبور.وقد أغمي عليه،تذكر خاتم ميمون، فأخرجه من محفظته وهو يصارع الأغصان التي بدأت تلتف حول صدره.بدأ يخبط رأس جهبور بالخاتم. خبطات خفيفة،استفاق جهبور من غيبوبته وبدأ يتكلم بصوت يقطعه الشهيق والفواق:« أنت الذي أنقذتني،إذن نجينا». رد بوجا بصوت مشروخ «كلاَّ بل وقعنا «. عقب جهبور وهو يعتصر رأسه بين راحتيه كأنه يتخلص من بقايا الدٌّوار: «رائحة الضبع هي التي أثرت علي، أما أشجار العناكب فأحسب نفسك تخلصت منها «.

قفل جهبورأذنيه بأصابع يده.وبدأ يصرخ بصوت مرتفع حتى أن رجع صوته كان يسمع بعيداً. حول بوجا راحتيه إلى مكبر صوتي ليساعد صديقه،وقربهما منه وبدأ الصوت يرتفع أكثر:«أنا جهبور،صاحب الرقم القياسي لغراسة الفسائل.غرست الكثير من أعشاش العناكب،أفسحوا لي الطريق». بدأت الأغصان تنحل عن عنقه،وسائر جسمه. بقي صديقه مكبلاً لوحده،تدارك جهبور الأمر،وهو يتمتم لقد نسيت،وبدأ يصرخ من جديد « وهذا صديقي لن أذهب بدوووونه». انفكت عنه بعض الأغصان وبقيت أٌخرى حتى أنها بدأت تلتوي عن بعضها البعض.

فهم بوجا أن بعض الأشجار استجابت للنداء وأخرى رفضت. بدأ يبحلق في جهبور دون أن ينبس ببنت شفة،تذكر جهبور حدثاً مهماًّ وصرخ مستجمعاً كل قواه:« إيه لقد ساعدني يوماً في غراسة الفسائل.في ذلك اليوم غرسنا كثيراً من أعشاش العناكب».

أنفسح المسلك أمامهما. بدءا يمشيان وهما مسروران،تساءل جهبور وهو يمسح وجهه:« كيف استطعت معالجتي،أتملك خبرة في هذا الميدان». عقب بوجا متنهداً:«يقال إن الساحر هو الحدس اليوم عرفت معنى هذه الكلمة...كان ميمون الطيار قد أهداني خاتمه.وقد استطعت اختراق عقله آن ذاك وهو يفكر: «رغم أنه يحتوي على بعض المنافع، إلاَّ أنني لم اعد في حاجة إليه». وفي ذلك اليوم بالضبط،عندما عبرت معهم الغابة المشئومة.كان هو وحده الذي ينتزع أشواك القنافذ من جسده. ورأيت أحدهم يخبطه ببعض الصفعات على وجهه كأنه يُمازحه.واليوم عندما طاردتني القنافذ السحرية.كانت أشواكها تتساقط ورائي دون أن تصيبني، كما أن رائحة الضبع لم تؤثر فيَّ. فهمت أن السر يكمن في هذا الخاتم.وخمنت أن الحارس الذي كان يصفع ميمون الطيار، إنما كان يعالجه دون أن يشعرني حيث كان يصفعه بالخاتم. فقد مسحوا ذاكرتي حتى لا تكتشف القلعة من خلالي أنهم خرقوا القانون... أرأيت كم أنا ذكي؟..المشكلة أنني استخفَفْتُُ هذا الخاتم، فحتى وقت قريب كنت أرغب في التخلص منه.وبالمناسبة ما سبب وجودك هاهنا؟».

 هذا الصباح وعدت ملاك أن أزين حفلها بجميع أصناف أغصان الأشجار.حيث كنت أضع الغصن في كأس واردد عليه تعويذة، يظل يدور تحت تأثيرها أمام مائدة الضيف. بقي كأس فارغ في المقعد المخصص لشيطا. أفتى علي جنوت أن أضع فيه غصناً من أغصان العناكب (وضع بوجا رأسه بين راحتيه). فسأله جهبور:مابك؟.

 أممم... لقد نسيت مشموما كنت أزمع إهداءه لملاك خبط جهبور راحته اليسرى على اليمنى،وهو يضحك،ليظهر شيئا في الهواء:« ها هو لقد بدأ الطريق يتضح أمامي الآن، سوف أكون ساحراً متميزاً في كل ما يتعلق بالنباتات».

وصلا أمام باب فيلا ملاك، الذي انفتح بطريقة عجيبة حتى أنهما لم يعرفا أين اختفى، تقدم جهبور وهو يمشي فوق رصيف من زجاج تظهر من تحته أسماك صغيرة مختلفة ألوانها، وكانت تلك الأسماك تبتعد من المكان الذي تقع عليه أقامهما،لم يهتم جهبور لذلك مثلما اهتم بوجا. وعلى الجانبين رشاشات الماء البادية كديَّكَةٍ منتفخة..

وصلا أمام باب الصالون، ألقيا جنوت الذي كان مشرفاً على الاستقبال،والذي تظاهر بأنّه لا يعرف بوجا من قبل، وهو يضحك ويربت على صدر جهبور:« كيف حالك أيها الشجاع؟ هل أحضرت أغصان العناكب؟ اعتقدتُ أنًّك لن تعود أبداً فالغابةُ خطيرةٌََََََُ للغاية».

ردًّ جهبور مُعتزاً بنفسه:«هيّا أعطيني القطعة الذهبيّة لقد ربحت الرهان،هاهو الغصن (والتفت نحو بوجا) لقد قامرتُ معه «.

دلفا إلى الداخــل، كان جلُّ المدعوين جالسين بمقاعدهم، تقدم جهبور وبيده أغصانه،ثمّ أخد من بوجا هديّته ووضعها فوق طاولةٍ كبيرةٍِِِِِِ كانت تعجّ بالهدايا، ثم سارا في اتجاه الرُّكن الذي يجلس فيه أصدقائهما. أزال كلُُّ منهما تمثالا أزرقا صغيرا من فوق كرسيه وجلس.

كانت شيطا على يمينهما تتسلُّى بإضحاك طفلين صغيرين يبدوان أنهما أخوي ملاك وهي تريهما الصورة التي التقطتها على متن بغلة القبور،وغير بعيد كان عاشور يُحاول استدراجهما إلى جانبه،وهو يُريهما تنينه النافث للنار ويهمسُ لأحدهما:«هيا أعطيني تلك الحلوة التي بيدك،أُريك كيف يأْكل الجمل حلوته».غير أن شيطا نهرته وهي تقول لهما:«كلاّ أنا من سيعلمكما كيف تأكل بغلة القبور حلوتها «.وضاعف بوجا سمعه ليسمع ما كان يقوله أربعة سحرة طاعنين في السن،حيث همس أحدهما دون أن يُحرك رأسه أو شفتيه:«أنظروا إلى ذلك الفتى إنه ابن الساحرة شامة تلك التي دمر النمرود عائلتها، أظنك تعرف القصة كاملةً يا هارون».

كانت الأغصان،التي وضعها جهبور في كؤوسٍ على الطاولات تدور في أماكنها كالمروحيات وكان الغصن الذي أمام شيطا يتطاول أحياناً ليشحط وجهها،ولم يكن يُسمع سوى حفيف دوران هذه المزهريات،وصوت موسيقى هادئة كل ضيف يعتقد أنّه يَسمعها وحده.

اعتدل بوجا بمكانه عندما شاهد أساتذته على مائدةٍ خُصصت لهم، اعتقد في البداية أنه يرى صوَّرهم منعكسةً على زجاج إحدى السواري، وفيما بعد بدأ يساءل نفسه هل كانوا هنالك من قبل ولم ينتبه إليهم،أم أنّهم وصلوا بعده.كان الأُستاذ حربوء يُناقش الأستاذ حسُّوب حول موضوع الزيادة في أجورالأساتذة،الذي تحدثت عنه بعض الصحف،وفيما إذا كانت تلك الزيادة ستشمل أصحاب السلَّم العاشر...وكان عبقور إلى جانبهما يقول: إنه لا يتنبأُ بأخبار سارّة في الموضوع،فالقلعة تنفق أموالا كثيرة في محاربة إرهاب النمرود.وإن كان يظهر أن الأستاذان لم يهتما بتنبؤاته وإلى جانبهم بدت الأُستاذة ضفدوعة،وهي في أبهى ثيابها،منهمكة في خواطرها.

نحنحت الأستاذة و بدأت تُمَشط الصالون بعينيها الخضراوين، محاولةً ألاّ تثير انتباه الحاضرين ثم قوست حاجبيْها،تعجبا من الأثاث الفخم الذي أُفرش به الصالون انتظرها الأستاذ صنوع حتى نظرت نحوه ليقول بصوتٍ هامس:«جو معتدلٌ...فيما أعتقد...كيف حالكم؟».

ردت الأستاذة ضفدوعة وهي ترفع شعرها الأسود عن عينيها:« بخير...سوى أنّ أمي هذه الأيام أصبحت تعاني من مرض نفسي، لقد أمست تتفوه بكلامٍ غريب من قبيل: أنني لست ابنتها (ضحكت)...في الحقيقة زارها تلاميذ وسحرة كثيرون، سوى انتم أصدقائي في هذه المهنة،إنكم تتحيّزون ناحية حربوء>>. عقَّب صنُّوع متظاهراً بهدوءِ أعصابه:«في الحقيقة لم أفهم لماذا كلُّ هذه الضجة حو ل موضوع تافه؟. تلميذ من العامة يسرق خزانة أستاذه بات من الأفضل أن تتنازلين عن مؤازرته فلن تجنين من وراء ذلك سوى المتاعب... ستجرين عليك عواقب معاداة النمرود».

ردت وهي تستوي في قعودها:« المشكلة يا سيدي أن معظم المحامين يبتعدون عن الملفات التي يكون أحد أطرافها مطلوبا للنمرود، من سيدافع عن هؤلاء المساكين؟ إذا كان كل واحدٍ منا يخاف على نفسه.المسألة يا سيدي مسألة مبادئ...إيمان...».

تخلّصت شيطا من الطفلين اللذان كانت تلاعِبهما،إذ أرعبتهما بتحويل أنفها إلى خرطوم فيلٍ وتدخل عاشور الذي كان ينافسها في استجلابهما:« أكلت ما بحوزتهما من حلوة وتخلصت منهما أيتها المشاكسة».

اقترب الصغيران من بوجا وبدءا يتعلقان بقفصه ويرددان«لماذا ترتدي أنت هذا الشيء؟....تكلم... أليست لديك ملابس؟».زأر في وجهيهما زئيرا لأسد وهو يتفادى إثارة انتباه الضيوف فابتعدا عنه.

شرع العفاريت الخدام يضعون الحلويات والفواكه اليابسة فوق الموائدِ ويوزعون كؤوس الشاي على السحرة،كؤوسٌ من البلار نقش عليها اسم العائلة لكز جهبور بوجا بيده وهو يضحك:« أما أنا فلدي كأس من الطين استعمله لشرب الشاي والماء والحليب ولي فيه مآرب أخرى،وحتى موهبتي في التحويل ضعيفة>>.

فرغ الضيوف من احتساء الشاي، وطلب منهم العفاريت أن يفكروا فيما يشتهون اشتهى بوجا وجبة كسكس مغربي إلا أنه لم يستطع التفكير فيه مغربي. كان يجاهد نفسه ويجمع تركيزه إلاّ أنه يجد نفسه مجبراً على التفكير في وجبة الطاجين.

لم تمر سوى بضع دقائق حتى وزع العفاريت الخدام جميع وجبات الضيوف رفع بوجا غطاء (الطاجين) فوجد به دجاجة محمرة، ومزينة ببيض الحجل( المصلوق)، والمقطع على شكل دوائر.( وصلصة) البصل والطماطم المفرومة بالزبيب واللوز المقلي. تذكر أن هذه هي الطريقة التي كانت تحضر بها والدته رقية الطاجين خلال فصل الربيع.

كانت شيطا تبكي رغم أن طاولتها مكتظة بالطلبات، فهي تريد قنفذا مشويا اعتذر لها جنوت بأنه لا يستطيع توفير وجبة قنافذ، احتراما للسيد الحارس العام المشهور بحبه للقنافذ، بقيت شيطا مصرة وهي تئن وتبكي كالرضيع.

بدأ العفاريت الأقزام يجرون مائدة كبيرة ومستديرة من المطبخ نحو الصالون. حيث يظهرون من بعيد كديلم نملٍ يجر جرادة كبيرة، سووا المائدة وسط القاعة وشرعوا يرددون بعض التعاويذ لتظهر شجرة حلوى كبيرة، كتب عليها اسم ملاك بطريقة رائعة. كانت الشجرة مصممة تصميما هندسيا رائعا. فمن الجدع يتفرع اثنا عشر فرعا على شكل شموع ذهبية اللون. يتفرع كل فرع بدوره إلى ثلاثين غصنا على شكل شموع بنفسجية صغيرة. وعلى كل شمعة من هذه الشموع تظهر كتابات تتغير حروفها من لغة إلى أخرى باستمرار، كما لو كان الأمر يتعلق بلوحة إشهارات. فهم بوجا أن الأمر يتعلق بذكريات ملاك لهذه السنة.حول إحدى عينيه إلى مجهر ليرى تلك الكلمات المكتوبة على الشموع الصغيرة بدأ يبحث عن الشمعة التي تََهُمُّهُ. مرت الشموع في عينه كأنه يقلب أوراق دفترٍ بسرعة. توصل إلى الشمعة بفارغ الصبر وبدأ يقرأ:« في هذا اليوم بالضبط أعطيت لبوجا "كتاب تشفير الإشفير" لمجهول بن معروف، وعندما اتهمني بأنني أعطيته ذهباً، أنكرت كلَّ شيء دفعة واحدة >>.

أراد بوجا إتمام قراءته، غير أن الكتابة صارت بلغة أخرى،ربما اللغة الهيروغليفية وتذكر أن لديه كتابا بخزانته الخاصة، يستطيع بواسطته فك رموز هذه اللغة فحول العين الأخرى إلى آلة تصوير وبدأ يصور هذه الشمعة. غير أنه سمع صرخة جازرة:« ممنوع التصوييير».

اقشعر بدنه وارتعشت فرائصه،ثم تنفس الصعداء لأن الصرخة كانت موجهة لشيطا التي كانت تصور الشجرة برمتها بواسطة آلة قديمة، اقترب جنوت من شيطا وانتزع منها آلتها وصار يفككها وهو يردد:«تمنيت لو لم تحضرين هذا الحفل، ففي السنة الماضية سرقت من حفلنا كؤوساً،وسكاكين كثيرة.وعندما تتبعناها بواسطة الإنترنيت السحرية وجدناها بمنزلك!».
ردت شيطا بعنف:«أممم أهو ذا حفل جدتك. إنه حفل صديقتي وسأفعل ما أريد. (ولوحت بأصبعها) انظرواْ إليه...إنه وزير ويملأ جيوبه بقطع الحلوة فما بالي أنا شيطا بنت الشويطنة... أمي علمتني كيف أستحوذ على العقول، فلو كنت أنتَ هو ملاك لجعلتك تستدعيني لحفلك دون أن تشعر أنا شخصيا أركز على الأطر فأجعلهم يحبونني وأتلذّذ بكراهية محيطهم لي!».
بدأت الشجرة تقْصُرُ ثم تقصر وتحولت إلى أربعة عشر شمعة تتغير ألوانها القزحية، اقترب الضيوف من الطاولة وبدأت ملاك تقطع الحلوى بسبابتها التي تحولت إلى سكين ذهبي لامع. كانت أنامل ملاك لطيفة بحيث أن السكين الذي أعطته كان يرتج. ثم بدأت تطفئ الشموع وشرع الضيوف يطفئون معها ويأكلون، إلاّ شيطا فقد كانت تبتلع شمعة مشتعلة كأنها تبتلع قفازاً وهي تغمغم:« تعاويذ إطفاء النار توجد بمعدتي».

انتهى الحفل وأقبل السحرة يغادرون المنزل، كل حسب قدرته السحرية. تقدمت شيطا عند أساتذتها وطلبت من جهبور أن يأخذ لها صورة معهم. مانع( حربوء) وانصرف بسرعة وأمرت الأستاذة ضفدوعة جهبور أن يلتقط الصورة. تقدم عاشور وملاك ليلتقطا صورا بدورهما، أراد بوجا أن يتقدم إلاّ أن يدا من ورائه ربتت على كتفه، فالتفت فإذا بالعفريت جنوت وراءه. همس هذا الأخير في أذن التلميذ:« هيا تعالى معي لذي معك كلام خاص».

سار الجني في اتجاه المطبخ، وتبعه هو والحيرة تتملّكه واختفيا ولم تعد تسمع سوى جلبة خفيفة للضيوف وهم يودعون بعضهم البعض، أو يودعون عائلة ملاك. فقطع جنوت خواطر التلميذ زاجراً إياه:« لماذا تهوّرتَ ودخلت الغابة المشئومة، من حسن حظك أن الأمور سارت كما توقعتُ فأنا من أرسل جهبور وهو لا يدري لكي ينقدك دون أن يشعر. الأقدار وحدها جعلت الأمور تسير كما خططتُ لها».

رد الولد بصوت متلعثم:« لم أعرف كيف؟. في البداية رغبت في مشموم ورد. وعندما شاهدت عصفورا جميلا رغبت فيه. تذكرت الطائر الأحمق وعرفت أنه هو إلا أنني لم أستطع التراجع. كأن قوة ما، كانت تدفعني( نحنح جنوت قائلا إذن هو)... من هو؟».رد جنوت بعدما أفرغ جيوبه من المخاط الأخضر:«النمرود النمرود وعملاؤه، يخططون لاختطافك. لذلك فهم يمارسون عليك تعاويذ التحكم عن بعد. ليدخلونك إلى المناطق المحظورة، حتى يسهل عليهم اختطافك. لأن القلعة لا تهتم بحماية الداخلين إلى هذه الأماكن كما أنهم يعملون كل ما بوسعهم ليزجون بك في السجن وهذه قصة أخرى». استرجع بوجا أحداث السنة بكاملها، معاناته مع الكتب المستعارة والحفر.. لم يكن يرى التشوير الطرقي حيث غالبا ما كان يجد نفسه في المناطق الخطيرة. لاشك أن أحدا كان يمارس عليه تعاويذ تحكم عن بعد كثيرة».
غير جنوت الموضوع بسرعة:« لا تهتم، فاليوم لذي إليك مفاجأتان،الأولى هي أنّ الطاجين الذي قدمته لك هو من صنع أمك رقية، لقد أبذلته لها بطاجين يعتبر نسخة طبق الأصل ومارست عليك تعويذة لم تستطع معها التفكير في وجبة أخرى لاشك أنك كنت تفكر في (الكسكس) المغربي... أمك المسكينة لازالت تبكي وتقول:« لا أصدق أن إبني ميت حتى أرى جثته «أما والدك عمر فقد ظلّ يقنعها بموتك ويأمرها بالصبر، وإن بدا هو بدوره غير مقتنع بكلامه».

عقب بوجا وهو يرمش حتى لا تنسكب دموعه خارج محجريهما:« تقصد والدي بالتربية، لقد علمت هاهنا أن والديَّ الحقيقيين اختطفا من قبل النمرود، لاشك أن أبي ميت وأن أمي تتعرض لأبشع أنواع التعذيب.سوف أفعل مستقبلا كل ما بوسعي لأجد أمي، قيل لي بأنها لازالت حية، أما أبويَّ بالتبني فلازلت أكن لهما احتراما خاصا، فهما لم يشعرانني يوما أني ابنهما بالتبني. مع أنني ألومهما لإخفائهما الحقيقة عني، إنه خطأ يقع فيه الكثير من الناس، فالحقيقة تشق طريقها نحو الظهور، ولا يمكن، بطبيعة الحال، حجب الشمس بالغربال «
 حسناً أنا أعرف أمك الحقيقية.. اسمها:شامة، وهي آخر من اختطفه النمرود من عائلتك شخصيا أعتقد أنها ساحرة موهوبة،ولديها جميع الإمكانيات لتنجو بحياتها بيد أنني عشت بمنزل والديك بالتربية أكثر من ست سنوات. وغالباً ما كنت أسمع حواراتهما دون أن يبصرانني، لم يحدث يوماً أن قالا عنك إنك ابنهما بالتبني. لاشك أن هناك لبس في القضية».

دفن الولد وجهه بين كفيه وأحنى ر أسه قليلا ثم رفعه وشرع يتفرس وجه مخاطبه إن التجاعيد الرأسية في وجه جنوت،وحاجبيه المحترقين اللذان لم يبق بهما سوى زغب شبيه بزغب الكتاكيت.وعيناه الشبيهتين بعيني خروف. وجيوب أنفه المقلوبة. والتي يضطر معها بين الفينة والأخرى لينحني حتى يفرغها من المخاط الأخضر.وعندما تتساقط الأمطار فجأة يجد صعوبة كبيرة في إفراغ أنفه من الماء، خلاصة الفراسة تذل على أن جنوت من ذلك النوع الذي عانى ولا زال يعاني كثيراً في حياته. ويبدو أن ذلك هو ما يجعله أكثر استعداداً لمساعدة الآخرين، قطع الجني خواطر الولد بقوله:« لننتقل إلى موضوع المفاجأة الثانية، لقد شاهدتك تصور الشمعة الخاصة بذكريات ملاك لذلك اليوم البئيس. إن واحدة من علامات النباهة هي أن تدرك الميدان، وبسرعة،الذي أنت فيه. لاشك أنك ساحر واعد( وربت على كتفه). فلم يشاهدك أحدٌ غيري وأنت تصور الشمعة(نحنح). وأنا لم أرغب في إثارة ضجة حولك، خاصة وأنك متهم،(وأخرج الجني شريط الصور من أذن بوجا وتابع):إني أعرف مضمون الكلمات.إن ملاك فتاة لطيفة وذات حس مرهف.وهي لن تستطيع تحمل عذاب (سجفنارت) لذلك فقد نفت الأمر برمته.والداها استأجرا سحرة رفيعي المستوى،لمحو جميع الأذلة التي يمكنها أن تثبت أن فلذة كبدهم أعطتك الكتاب. لذلك فالقضية أصبحت أكثر تعقيداً. إنهما الآن يخشيان أن تتهمهما المحكمة بالتكتم و بإتلاف طريق الحقيقة كما أنهما أضحيا يعتقدان أنهما اشتغلا ضدك. وأتلفا بعض الحقائق التي ستقود إلى تبرئتك. وأنهما أربكا الأستاذة ضفدوعة في تحرياتها. حيث استعصى عليها فك خيوط القضية لذلك فإنني اعتذر إليك باسمهما. وأطلب منك ألا تعطي هذه الصور لهيئة المحكمة».

رد الولد باستغراب:« وبراءتي ألا تهمك في شيء؟... فلأول مرة أجد دليلا قد يقود إلى براءتي». شرع الجني يذرع غرفة المطبخ جيئة وذهابا، وهو يضرب شريط الصور على راحة يسراه واقترب من أحد مواقد المطبخ حيث كانت النار تزأر وهمس:« اسمع باستطاعتي أن أحرق هذا الدليل غير أنني لن أفعل ذلك. فأنا أريد منك وعداً بأنك لن تخبر المحكمة ولا الأستاذة ضفدوعة ولا أي كان أعدك بدوري أنني سأبقى بجانبك، تذكر كم مرة أنقدتك».
تنهد الولد وقال بتذمر:«وعد» وخالف أصابعه مع أصابع الجني. وهو يتحسس أنفاسه ويُقاوم اصطكاك أسنانه. فلأول مرة راوده شعور بأنه يعمل ضد نفسه.

سمعا وقع أقدام تقترب منهما وضع عليه جنوت قبعة إخفاءٍ وهمس:« اصمت لقد تأخرنا قليلا لا شك أن المنزل أمسى فارغا من الضيوف». اقترب منهما والد ملاك وهو يتكلم بصوت مرتفع:« يا جنوت...أرى أن الضيوف رحلوا ألاّ أنني لا زلت أشم رائحة الآدمي، أشك أن أحدهم بقي مختفياً بأحد الأقبية هيا شغل نظام التفتيش عفاريتا وكلابا».

رد الجني جنوت مرتعدا:« عفوا سيدي رائحة الآدميين تبقى بالمكان حتى بعد خروجهم منه بساعة كاملة، سنفتح الأبواب والنوافذ وسنعمل على تغيير هواء المنزل». ولوَّح لبوجا أن ينصرف من إحدى النوافذ. (يتبع)

16ـ الجلسة الأخيرة من المحاكمة.

لم تبق على نهاية الموسم الدراسي إلاّ خمسة عشر يوماً. وبساحة المدرسة، وخلال فترة الاستراحة، كان التلاميذ يتحاورون مثنى وثلاث ورُباع.. ولم يكن من حديث يشغلهم سوى الحديث عن النجاح والرسوب والعُطلة الصيفية. هزت ملاك كتفيها وهي تُحاور كل من عاشور وجهبور ثم شيطا، محاولةً أن تقاوم الرغبة في الضحك ثم قالت:« أبي وعدني بأننا سنقضي العطلة الصيفية بمملكة العباقرة كمقابل لنجاحي.. سأتصور بجانب التنانين الحقيقية، وسأسبح ببحيرة " الأتَمَا". يقال إن من سبح فيها لن يرى التعاسة أبداً،بل سيعيش طوال حياته سعيدا».

رد عاشور محتجاً:«هُراء مجرد هُراء.. دقيقة واحدة من السنة هي التي يحدث فيها هذا، ولكي تصادفين هذه الدقيقة عليك أن تبقين في البحيرة طوال السنة مع العلم أنها تتجمد أكثر من ستة أشهر، وإذا صادفتِ اقتران زحل بالمشتري فإن البحيرة تتحول إلى نار حسب ما أكده لنا الأستاذ عبقور».

عقبت ملاك وهي تهز شعرها عن عينيها غير مبالية:«من يدري لعلي أصادف ساعة السعادة هذه».

زاد غضب عاشور ورد منفعلا:« قلت دقيقة وليس ساعة.. ستصادفين البعر. في الصيف يسبح بالبحيرة أزيد من مليون ساحر أكُلُّهم سيصبحون سعداء؟».

لن نفهم نفسية عاشور، إلاّ إذا علمنا أن والده اعتاد أن يبعثه في كل عطلة صيفية ليشتغل مع أحد السحرة، الذي كان يمتهن صناعة أقفاص الطيور والحيوانات، ويعرضها لزبنائه رفقة خدماتٍ أخرى،كالتعاويذ التي تجعل الطيور تطير غير بعيدٍ ثم تعود لأقفاصها. وقد كانت ذكريات عاشور مع هذه المهنة سيئة إلى حدٍّ لا يطاق، فخلال عطلة السنة الماضية، تركه مخدومه في المحل، وذهب لقضاء حاجة له فدخل عاشور قفصا فانغلق عليه هذا الأخير. وظل داخله يرقب الزبناء الذين يزورون المحل،وهم يشيرون إليه ويتحدثون:« انظروا إنه حيوانٌ جديد،عندما سيعود رب هذا المتجر سأقتنيه منه».

وكان هو يطرق قضبان القفص من الداخل، وينتفض ويصرخ بكل قواه طالبا النجدة، إلاّ أنه لا أحد من الزائرين كان يسمعه، وإنما كان يسمعهم يضحكون ويقولون:« إنه يغني ويرقص أيضاً».
ومرت مدة طويلة ليعرف أن القفص كان يُغَيِّرُ صورة الكائن الموجود بداخله، ويبذل صوته ومضمون أقواله أيضاً، ومرةً أخرى أراد عاشور أن يحول طائراً من قفص قديم إلى آخر جديد فانفلت منه وحلق بعيداً. فأجبره مالكه أن يقبض عليه دون إذاية، فطفق يطارده لمدة ثلاثة أيام، وفي مرة أخرى تحدث عاشور مع أحد الزبناء بسوء عن مستخدمه، وحينما حضر هذا الأخير حكا له الببغاء كل شيء بل وأضاف أشياء كثيرة، والطامة الكبرى هي أن الببغاء لقي حتفه في اليوم الموالي.

وظل رب المحل يعتقد أن عاشور هو من قتله، وكانت العقوبة هي أن يقوم عاشور بمهمة الببغاء، كان الببغاء يُعلم عصافير الزبناء بعض الترانيم الموسيقية مقابل وزنة من النحاس. فبقي عاشور يقوم بهذه المهنة حتى اشتهر بلقب مايسترو العصافير!.

احتدم النقاش بين عاشور وملاك، فغلقت شيطا كتاب أبراج كان بيدها وهي تسب:« اللعنة على المنجمين، يقولون كلاما عاما من قبيل أنك ستلتقي اليوم بأحد أصدقائك. من ذا الذي لا يلتقي بأربعة من أصدقائه في اليوم. صناعة التنبؤ أعطيت للأستاذ عبقور إنه يدقق تنبؤاته.. (تنهدت)آهٍ أبي يقول إننا سنمضي الصيف بمملكة الأشرار، سنزور أخي الذي يشتغل هنالك لأغراض إنسانية،أما أمي فتقول إنه علينا تأخير هذه الزيارة، حيث الظرفية حرجة والعلاقات متوترة،ثم إن صخرة مولاي" بوعزة" أضحت،هذه الأيام، عنيفة ومتشددة في التفتيش، ودائما حسب أمي من الأفضل أن نتفادى هذه الشبهات... إي ملاك غداً سيحاكمون ذلك البليد اقترح عليك أن تحضري معي هنالك..آهٍ أمي تقول عني دائماً أنني سادية».

سمع بوجا كل شيء فقد كان واقفا قربهم يتنصت. وكان هذا كله بفضل قبعة الإخفاء التي أعطاها له جنوت. وهي القبعة التي أصبح يرتديها في الساحة حتى يستريح من نظرات التلاميذ.

تكلم جهبور هذه المرة بصوته القوي:« أما أنا فمشروعي هذا الصيف هو أن أقوم ببحثٍ حول أشجار العناكب، وهل يمكننا أن نحولها من طبيعتها الشريرة إلى طبيعة خيرة».

ردت شيطا بامتعاض:«إذن سيتحول السم إلى ترياق وستصبح مملكة النمرود هي مملكة العباقرة،و شيطا هي ملاك». خطرت لبوجا فكرة مفادها أن زملاءه يمكن أن يشاهدونه عبر عدسات الكاميرات المسحورة إذا كانت هذه الكاميرات ترصد المتخفين تحت القبعات.
هزّ رأسه بهدوء وبدأ ينظر إلى عدسة إحدى الكاميرات والتي كانت شبيهة بعين فرس، وأبصر صورته عليها وهو يرتدي تلك القبعة الخضراء القرمزية. ثم شرع يتهجى كلمات كُتِبت إلى جانب صورته:« لو أن كل من ارتدى قبعة إخفاء، استطاع خداع الكاميرات لوقعت فتنة كبيرة في هذه القلعة». ابتعد قليلاً حتى أيقن أن صورته لن تبقى منعكسة على الكاميرات ولو جانبياً.ثم تنفس الصعداء، فلو كانت شيطا قد أبصرته من خلال العدسة لكانت قد ملأت الدنيا ضجيجاً.
شرع أصدقاؤه يقتربون من قاعة الدرس، فركض هو حول دورة المياه وهو يتفادى الاصطدام بالمارة ثم نزع القبعة وبدأ يتأملها حقا إنها أفضل هدية تلقاها هذه السنة بالإضافة إلى خاتم ميمون أو هكذا فكر.

سار في اتجاه القاعة وهو يفكر فيما سمعه من شيطا حول الأستاذ عبقور. واسترجع كل ما قاله عنه هذا الأستاذ منذ بداية السنة حتى الآن:«.. إنه سيقوم بمغامرة ستكونُ نسبة نجاحه فيها أقل من واحد بالمائة». وبخصوص المحاكمة قال الأستاذ في حوار أجراه مع جريدة مستقبل السحر:« سيُدان الظنين بخمسة أشهرو سيتم الإفراج عنه». وتوقف الأستاذ في تصريحه عند هذا الحد ولم يضف أية تفاصيل، وظل كلامه في نظر بوجا أكثر عموميةً خلافاً لما تراه شيطا، إلاّ أنه تذكر محنته في المهرجان عندما كان يحاول تفادي التسمم حيث كان قد حول إصبعهُ البنصر إلى أداة لكشف السموم وكان يراقب أطعمته قبل تناولها. ومع ذلك حدث ما حدث.

استرجع هذا كله فهمهم بقولة مشهورة للأستاذ عبقور:« إن التنبؤ بالشيء لا يقود بالضرورة إلى تجنبه».كان من لطف الحظ أنه نجا من فيروس "الشوغو إنترنيتو" بأعجوبة. إلاّ أن ذلك لم يسره فقد كان ذهنه مهووسا بالمحاكمة.

وفي صبيحة اليوم الموالي استيقظ وهو يعلم أن الحراس سيقودونه للمحكمة، بخلاف المرات السابقة التي ظل يذهب بمفرده أوحى له هذا كله بالإدانة.

بدأ يجمع أغراضه تحسباً لذلك، ارتدى خاتم ميمون كدملج في ذراعه وردد على القبعة تعاويذ حتى أصبحت على شكل أذُن فوضعها بمحفظته وأخذ أول مصنوع كان قد صنعه بالمدرسة والأمر يتعلق ب« بيرس السحري»، وبدأ يمسحه بمنديله وهو يذرف دموعه في صمت، ويتذكر قريته وأبويه من العامة، ويسترجع أحداث الطفولة.

وضع المجسم في إحدى الرفوف وبدأ ينبه الشبح الذي كان يدندن في قلب المرآة:« إي يمكنك أن تعبث بكل شيء يوجد هاهنا. إلاّ بيرس السحري إذا لمسته قتلتك». ضحك الشبح وخرج من المرآة ودنا من الولد وهو يتذبذب في الهواء مثل فراشة بحجم ديك هندي. وقرب فمه من أذن بوجا وردد ضاحكا:« قلت لك إننا لا نموت مرتان،سأقوم برعايته. أو قل سأبتعد عنه».
تذكر تلك الصورة التي التقطها من دفتر\ شجرة ذكريات ملاك. إلاّ أنه فضل ألاّ يأخذها معه للمحكمة حتى لا يقدمها لمحاميته تحت ضغوط نفسية. فينقض بذلك العهد الذي أبرمه مع جنوت. ردد في نفسه وهو يحرق تلك الصورة:« المساعدات التي قدمتها إلىّ يا جنُّوت ها أندا أؤدي ضريبتها غالية.. هل تجبرنا الظروف أحياناً أن نصير أعداءً لأنفسنا؟».

خرج عند الحراس، حياهم فردوا عليه بإشارات رأسية مليئة بالأنفة والكبرياء. بدوا معها أكثر صرامة وجدية، وشرعوا يتعاملون معه كأنهم لم يعرفونه من قبل. هدّه هذا التعامل، انشرخ قلبه وتبدد لديه أخر بصيص من الأمل في البراءة طال صمت الحراس وهو يرافقهم حتى شك في أنهم حراسا آخرين يشبهونهم ليس إلاّ. كسّر ميمون الطيار هذا الشك وهمس في أذنه:« جاء اليوم الذي ستعرف فيه أن ذاكرتي المستقبلية كانت على حق».

خطرت له فكرة وتساءل وهو يلهث مقتفيا أثرهم:« ألا يمكنكم أن ترجعونني عند العامة؟ وتعتبرون هذا الإرجاع بمثابة عقوبة، عندنا نحن العامة من هاجر لأورﭙا وارتكب فيها جريمة، السلطات الأورﭙية قد تعاقبه بإرجاعه لبلاده». ضحك ميمون وزفر أنفاسه حتى أن بوجا شعر بها تخنق تنفسه ثم رد:« نحن هنا بالقلعة وليس بأوْرَبَة أين توجد هذه الأوْربَة؟». خرجوا من المدرسة فردد أحدهم وهو يمسك بيد الولد:«هيا تمسكوا ببعضكم سننتقل آنياً، لكن هذه المرة عبر التراب».

شعر بقدميه تنغرسان في التراب، ثم اُنغرس سائر جسمه.وبدأ يتحرك كأنه سكة محراث خشبي تقليدي، والتراب يندفع عن يمينه وشماله ليجد نفسه بقاعة المحكمة، التي بدت اليوم كأنها تعاني من الفوضى والتسيب والازدحام، سمع أحد الحاضرين يشكو حرارة الجو والآخر يشكو البرودة، كانت شيطا جالسة غير بعيدٍ رمقته وهمهمت بشكل مسموع:« أما أنا فأخشى الرطوبة وأكره رائحة المتهمين»

حاول أن يمنع عيناه من الالتقاء بعينيها، إلاّ أن الفضول كان يجره لذلك. رنا ببصره نحو المقاعد الأمامية كانت هنالك ساحرة واقفة بين الصفوف وتحمل في يديها ملفات جلدية كثيرة، شرع يتهجى حروفا مرشومة فوق وزرتها:«لا؟! الإرهاب "ماتقيسش" قلعتي». فهم أن الأمر يتعلق بإحدى الجمعيات الإنسانية. ظهر وسط الزحام ساحر يجاهد كثيرا حتى لا تطأ أقدام الحاضرين أنفه الذي يتجرجر في التراب.اقترب الرجل من بوجا وبدأت تظهر الجملة المكتوبة فوق وزرته الزرقاء." مراسل جريدة سحر هاروت وماروت". جلس الصحافي بجانب الولد وشرع يستجوبه:« لماذا تحْلق شعرك هكذا؟ هل هي عادة من عوائدكم؟.. وكيف هي معايير الجمال عندكم؟ بتعبير آخر هل أنا في نظرك أبدوا جميلا أم العكس؟».

أجاب الولد:« أنت أجمل من جميل». غير أنه لم يستطع كبت أنفاس الضحك، وضحك الصحافي،بدوره، من أنفه حتى أن الغبار تتطاير من أرضية القاعة. وشرع يكتب ويتكلم:« إذن سأسجل أنك نسبي، أي أنك لا تؤمنُ سوي بمقاييس عالمك، فأنت تعتقد أنني دميم الوجه، ثم لماذا لم تجبني عن الشق الأول من سؤالي؟ حسنا سأجيبك أنا:أنت تحلق شعرك هكذا لأنه ينمو، شعري أنا لا ينمو وبالتالي فأنا لا أحلقه».

استوى بوجا بمقعده وأدرك أن الصحافي يبدو جادا ومراوغا في نفس الوقت. ونظر صوب شيطا التي كانت تتابعهما بشغف، والتي مافتئت أن نهرته قائلةً:«إنه ابن عمي،صحافي شديد المِراس..في السنة الفائتة فاز بجائزة أجمل صحافي لا أعتقد أن جدتك هي من منحه تلك الجائزة».

إلا أن الصحافي قَرص بوجا وهمس في أذنه:« إنني تشبهت بابن عمها. الحقيقة هي أنني مراسل لجريدة"مستقبل السحر". إدارة المحكمة تحظر علينا الدخول إلى قاعاتها. بدعوى أننا نشوش عليهم أعمال التحقيق. وبذريعة أننا ننشر حقائق، لا يجب أن يعلم بها المتهمون. والحقيقة هي أن خطنا التحريري يؤرق إدارة المحكمة، فوحدنا نحمل هم َّ إعلامٍ حقيقيٍّ بناء ومسئول. إنهم لا يسمحون للدخول إلاّ لتلك الأقلام المشبوهة. يجعلونها كمطية يتظاهرون من خلالها بأنهم رعاة حق التعبير». تساءل الولد باندهاش:« ألاَ يمكنهم اكتشافك؟. أظن أن عقوبتك ستكون قاسية». ضحك الصحافي ثم ازدرد لعابه. وقد تحولت أنامله كلها إلى أقلام. وشرع يكتب ويتكلم في نفس الوقت:« لا تخف فأهل القلعة أدرى بحفرها». وخطف بوجا نظرة وميضية من مسودة الصحافي ليجده قد كتب:«وأُسجل أن الظنين يخاف عواقب الأمور...». مرر الصحافي راحته على أنفه ليصبح بحجم خرطوم فيل. ثم بحجم أنف طبيعي. وبدأت أذناه تكبران شيئا فشيئا. حتى أصبحتا بحجم صحون الأطباق. وبدأ بوجا يسمع جميع محاورات الحاضرين وهمساتهم من خلال أذني الصحافي هاتين. وأصابع هذا الأخير تدون:« سبعة وثمانون فاصلة مائتين وخمسة وعشرون من الحاضرين لديهم انطباع كبير بأن هذا الولد بريء. غير أن هيئة التحقيق تناقش الآن مدة الإدانة.انتهى الجرد الشمولي».

انصرف الصحافي نحو متهم آخر، وصوت وقع أقلامه على الدفتر يسمع كصوت آلة كتابة قديمة ( داكتيلوغراف). والتفت بوجا نحو شيطا التي شرعت تستفزه،وهي تدخل لعابها بين شفتيها وتخرجه.ثم علقت:« أنا أعرف أنك ستدان اليوم لقد قالها لي أبي، إنه صديق أحد القضاة.. أنا أعرف حتى مدة العقوبة غير أنني لن أقول شيئاً». حاول أن يتجاهلها إلاّ أنها ظلت تستفزه.
نهرها صوت عفريت كان يجلس قريبا منها.فوجئ بوجا، فالأمر يتعلق بصديقه جنوت. فكر مليا، لا شك أن جنوت حضر ليتأكد أن صديقه لن يخون العهد.ذكّر العفريت شيطا بأن الاستفزاز بدوره يعتبر جنحة يعاقب عليها قانون القلعة، حسب الفصل الرابع من قانون ثورة السحرة الأحرار. بدأت شيطا تعتذر لجنوت وتطلب منه ألاّ يرفع ضدها أية دعوى. قبل اعتذارها إلاّ أنها ظلت تستعطفه، وتطلب منه أن يعاهدها على ذلك. عاهدها وبقيت تستعطفه. لم يشعر متى صفعها صارخا بهستريا:«إن كثرة الاستعطاف هذه بدورها تعتبر استفزازا شنيعاً». وسُمِعتِ الصفعة من بعيد حتى أن جلساء الصفوف القريبة بدؤوا يلتفتون. وسرت الالتفاتات إلى أبعد الحدود في الجهة التي كانت أكثر هدوءا. عقبت شيطا وهي تضحك محتضنة الصفعة:« التفتوا أمامكم ألم ترو شيطا تصفع عفريتا من قبل».

اقترب جنوت من صديقه وجلس بجواره. ثم دخل حارس المحكمة ذلك الجني البدين.والذي كان ينضغط مع إطار الباب كما لو تعلق الأمر بتمرير كرة من وسط دملج. وما إن أبصره جنوت حتى شرع يتكلم من وراء أسنانه الشبيهة بأسنان مجسم صغير لتمساح:« اللعنة إنه فأل شؤم. لُجمة..لا يظهر إلاّ في الأيام النحسة. أتمنى أن يمر هذا اليوم بخير».خطا الحارس المتضعضع خطواته نحو القرص النحاسي وضربه بيده المطرقة. وهو يهمس بخفوت "محكمه". انغرست أقدام الحاضرين بالأرض حتى أنها تركت أثرا منحوتا.نظر بوجا مكان أقدامه فوجد رقم حدائه منحوتا بدوره في الأرض.

تحولت الفوضى إلى انتظام وصار الضجيج هدوءا. همس جنوت في أذن صديقه مستعملاً تعويذة حصر الصوت على المُخاطب:« أرأيت، هذه مجرد همسة أما عندما يصرخ فإنه يُحدث رجا يصل خمس درجات بسلم من تسمونه أنتم رينكر.. عفوا أظنكم تسمونه هكذا». نزلت،هذه المرة، من سماء القاعة كتلة من سحاب أبيض حليبي خرج من وسطها القضاة الثلاثة وعلامات الحيرة بادية على وجوههم.

شرع زوبعة لتوه يردد الأحكام بصوت مرتفع:«حكمت المحكمة على المسمى الغراب الأسود بخمسمائة سنة سجنا نافدا. وسيتم إيداعه طيلة الآن في الزنزانة المعتمة». وتابع القاضي سرد الأحكام.

أغلق الظنين عينيه وهو يفكر في كل ما يسمعه. واسترجعت ذاكرته،بسرعة البرق،أحداث السنة بكاملها. فشعر برغبة في تقيؤ معدته. وببرودة تغمر كل جسمه. قطع الجني خواطره متنهدا:« أممم الزنزانة المعتمة إنها عبارة عن مطمورة خالية من الأوكسجين. وفيها يحس السجين لأول مرة كأنه غير موجود. يشعر كأنه نائم وما هو بنائم. ولا يسمع سوى همهمات الحراس وهم يضعون الطعام في فمه وينفخون فيه شيئا من الهواء وهو لا يرغب في فتحه. كما لو أن النعاس يغلبه. أف أحكام اليوم ستكون شاقة».

سرد القاضي مجموعة من الأحكام. وبدا صوته يخفت ويتباطأ كأنه يتهجى كلمات مركبة من حروفٍ تنتمي إلى لغات متعددة:« والقضية الوحيدة التي سنحكم فيها اليوم بقليلٍ من البراءة.والتي كانت ترافع فيها الأستاذة ضفدوعة. والتي يحصل لنا شرف البث فيها لما أبداه المتهم من صمودٍ وتحد وجلَد. هي قضية التلميذ جهبور. لقد خفضت عنه هيئة المحكمة لعنة الإدمان على غرس الأشجار بنسبة خمسين بالمائة».وضع بوجا يديه على قلبه تألماً، فقد كان يعتقد أن القاضي يتحدث عنه.ضمه جنوت إليه وهو يواسيه:« اصبر يا صاح فهذه اللحظة أصعب حتى من السجن نفسه». تابع القاضي أحكامه التي بدأت تخترق الآذان ببطء:« وكما ستعلمون جميعاً. فقد قضينا في قضية السارق البليد بخمسة أشهر نافذة...». وبدأت جلبة الاستنكار. وشرع بعض السحرة يحتجون وسادت الضوضاء والضجيج.رغم أن القاضي كان يخبط المكتب بمطرقته الصغيرة. وهمس حارس المحكمة وساد صمت قاتل وتابع القاضي كلامه:« دعونا نتمم كلامنا..أقول: غير أن الأستاذة ضفدوعة قدمت ملتمسا تقول فيه: إن لديها جديداً في القضية والآن سنتابعُ التحقيق في هذا الجديد».

أدخلت الأستاذة ملف جهبور إلى محفظتها. وبدأت تبحث عن ملف بوجا بين الملفات المنتفضة داخل المحفظة كأنها تحاول الإمساك بثعبان مشاكس، ثم شرعت ترافع بكسل وهي تنظر في وجه القاضي زوبعة:« سيدي الرئيس، السادة القضاة المحترمون،أسيادي جنود الخفاء: ذات يومٍ تأخر مؤازري عن الحصة التي أدرسها له ولزملائه وعندما استفسرته عن سبب تأخره ذاك، أجابني بأن أغصان إحدى الأشجار قد تشابكت بقفصه.فسألته ما إذا كان قد قرأ كتاب "تشفير الإشفير" لمجهول بن معروف. ففيه ـ كما نعلم جميعاًـ تعاويذ التخلص من الأشجار و أغصانها، فأجابني بالإيجاب فخطر ببالي احتمالان: إما أن يكون مؤازري قد قرأ الكتاب وأهمل التعاويذ المذكورة. وإما أن يكون قد كذب عني.وشككت كذلك أن يكون أحدهم قد أعطاه خطأ كتاب " تشفير الإشفير" لمجهول. وهو الكتاب العنيف والمحظور على التلاميذ أقل من ثمانية عشر سنة.من أجل ذلك وضعت للتلاميذ امتحانا كتابيا مستعجلاً. حيث قسمت أسئلة الامتحان إلى مجموعتين.كانت أسئلة المجموعة الأولى من الكتاب العادي. في الوقت التي جعلتُ فيه أسئلة المجموعة الثانية من الكتاب المحظور.والنتيجة هي أن الظنين وحده أجاب في المجموعة الثانية.وقد قادني هذا الاستنتاج ـ سيدي الرئيس ـ إلى أن أتذكر طريفة كانت قد وقعت لي مع هذا الظنين في بداية السنة.( نحنحت الأستاذة وعدلت شعرها) فقد كنت في سبيلي إلى قضاء حاجة لي فرمقت المتهم متلاهيا مع شجرة ضاحكة.وبجانبه كتابه الذي كان قد حوله آنذاك إلى عربة وهذا يعني أنه لم يستطع أن يحمله في يده.وهذا يدل على أن الكتاب الممنوع هو الذي كان بحوزته.فهذا الكتاب كما نعلم جميعا لا يستجيب لتعاويذ تخفيف الوزن.ثم لو كان الكتاب العادي هو الذي كان بحوزته لما احتاج تحويله إلى عربة. خاصة أنه كان مبتدئا آنذاك في السحر ويجد صعوبات كبيرة في التحويل. إلاّ أنني عندما اقتربت ساعتئذ من الظنين وجدت أن الكتاب العادي هو الذي كان معه. ولم يخطر ببالي حينها أن أحدا كان يراقبه بواسطة الإنترنيت السحرية. ويحاول أن ينصب له كمينا كما سنعلم فيما بعد. لقد أوّلْتُ الأمر حينذاك، مع قليلٍ من الحيرة والجنون، أن التلميذ محب للاستطلاع أو هاوٍ للعربات. لذلك حوّل كتاباً خفيفا إلى عربة رغم أنه ليس في حاجة لذلك. ثم أعطيته كتابه ووبخته عن إهماله إياه.وانصرفت لغايتي. إلا أن تلك النظرة التي نظر بها إلى الكتاب. قد بقيت راسخة في ذهني حتى الآن. فقد كانت نظرته اللاشعورية توحي بأنه شك في شيء ما. وقد اعتقدت آنئذ أن ما أثار انتباهه هو إرجاعي الكتاب إلى هيئته الأصلية. والحقيقة هي أن الجسيم كان يراقبه بواسطة الإنترنيت السحرية. وهو الذي بدل حينها الكتاب المحظور بالكتاب العادي عندما رآني قد اقتربت من التلميذ حتى لا أكتشفَ الأمر. وقد كان الجسم يبتغي من وراء ذلك الإيقاع ب الظنين في المصيدة وإحاشته إلى الفخ. فبمجرد ما ابتعدت حينها عن مؤازري وودَّعته، انتزع منه الجسيم الكتاب العادي وبدله له بالكتاب المحظور مستعملا الإنترنيت السحرية.ونعود القهقرى قليلاً فنجد أن مؤازري كان قد سأل الجُسيم عن تلك الجثث المحنطة المعلقة في سقيفة الخزانة، والتي يقوم عليها التلاميذ ببعض التجارب.فأجابه الجسيم بأن الأمر يتعلق ببعض التلاميذ الدين يقضون عقوبات مختلفة بسبب إهمالهم لكتبٍ استعاروها. ترى سيدي القاضي ما الهدف من ترويع مؤازري؟..

وبمساعدة الأستاذ حسوب رجعتُ،سيدي القاضي،إلى الشريط الأصلي الذي سُجلت عليه الأحداث التي وقعت بالخزانة، والذي،وللأسف الشديد،كان الجُسيم قد دمّره حيث لم نعثر عليه ونصلحه إلا بصبرٍ قهري. فوجدنا أن القرص الأصلي يسجل فيديو يظهر من خلاله أن الجسيم هو الذي أعطى الكتاب للولد وأجبره عليه. وفيما بعد تصرف الجسيم في الأقراص وسجل مشهدا نفهم من خلاله أن التلميذ هو من أخطأ وأخذ الكتاب الممنوع، حيث كان الجسيم قد طلب منه ذات مرة أن يساعده بمد الكتاب المذكور إلى صنوع الذي تظاهر بأنه يرغب فيه وسيتصرف الجسيم في إخراج المشاهد وتركيبها لِيُظهر أن الولد هو من أخذ الكتاب خطأ».

شرع الجسيم يبكي وينتحب وهو يرد بصوت مختلط بالحشرجة:« سيدي القاضي أنا لم أفعل شيئا من هذا، إنها أخرجتْ فيلما مفبركاً،فقط، لتبرئة متهمها إنها مريضة بجنون الدفاع».
ضحكت ضفدوعة وسأل القاضي الأستاذ صنوع إن كان يتذكر أنه أتى يوما ليأخد كتاب "تشفير الإشفير" لمجهول.ومده له الولد نزولا تحت طلب الجسيم. وضع صنوع جبهته بين أنامله هنيهة وهو يرتعد ثم رد وهو يحاول التخلص من الارتباك:« كلاّ سيدي لا أذكر شيئا من هذا».
تابعت الأستاذة مرافعتها وهي تومئ إلى محفظتها:« الأدلة، سيدي الرئيس، كلها هاهنا...لقد محا الجسيم الاسم الكامل لصاحب الكتاب حتى لا يميزه التلميذ.

واخترق خزانته الخاصة فمزق كتبها بالإضافة إلى الكتاب المستعار. وسيستيقظ حينها التلميذ وسيكتشف ذلك وسيفكر في طريقة يعالج بها الكتاب حتى لا يعلق بسقيفة الخزانة معية الجثث المحنطة والتي كان يظن من خلال الجسيم أنهم تلاميذ أتلفوا كتبا استعاروها. وسيجرب طرق الخياطة التي تعلمها لكن دون جدوى. فكل خياطة كانت تزيد الطين بلةً. وتجعل الكتاب أكثر سوءاً. وهاهو الكمين ينبني شيئا فشيئا. إذ سيمر الظنين قرب الأستاذ صنوع وسيسمعه يُهاتف أحدا حول موضوع شجرة التنين السحرية.وسيأمره بالذهاب إليها في منتصف الليل أو بعده، حتى يرتكب مؤازري جنحة الخروج ليلا وحتى يسهل عليهما تصويره.كان حربوء إذن مشاركا في بناء هذا الفخ.وكما خططا سيفكر مؤازري في الشجرة وسيذهب لها ليلا بطبيعة الحال. وسيتحكمان في الشجرة ويجعلانها تمشي في اتجاه منزل حربوء. ويتبعها الولد وهما يصورانه دونها. وستدخل الشجرة إلى المنزل وسيبقى هو أمامه.

وسيتم تكييف العملية على أنه دخل المنزل وكسر كاميراته. بقي لهما( أي حربوء وصنوع ) كيف يجعلان الأموال تظهر بين يديه. فلو وضعاها أمامه وأخذها وحده فسيخفيها إذا ما علم أنها مسروقة. مما جعلهما يفكران في إيهامه بأن شخص ما أعطاه تلك الأموال. ولم يجدا أحسن من التلميذة ملاك نظرا لسمعتها الطيبة. وقد سبق لبوجا أن ساعد طبيبا كان قد عالجها بالقاعة. وإذا ما منحته شيئا فسيعتبره ردا للجميل.

وعطل الأستاذ حربوء الكاميرات التي كانت بذلك المكان بنفس الطريقة التي عطل بها كاميرات منزله، تلك الطريقة البدائية التي توهمنا أن الفاعل لا بد أن يكون مبتدئ في السحر، وبطبيعة الحال كانت ملاك قد أعطته نسخة من الكتاب. ليعوض بها الكتاب الممزق. وهذا مدون حتى في دفاتر ذكرياتها (والتفت بوجا من قفصه. الذي كان معلقا بخيط عنكبوتي يتدلى من سقيفة القاعة. وشرع ينظر لعله يشاهد جنوت. نعم حدث ما خطر بباله. فجنوت كان ينظر إليه شزرا. كأنه يتوعده قائلا:« آه يا خائن العهد لقد أعطيتها الصور>>.).بل وإنها اليوم جاءت لتقر بأنها أعطت لمؤازري الكتاب العادي وليس الكتاب المحظور.

وعندما هم هذا الأخير بنقل الورقة التي عليها طابع الخزانة، من النسخة الممزقة إلى نسخة ملاك انصرفت هذه الأخيرة، لخوفها من حضور قضية تزوير، فهي تتفادى هذه الأمور حتى ولو كانت بسيطة.وصناع العملية كانوا على علم بنفسيتها. إذ بمجرد ما انصرفت حل واحد منهم مكانها، متشبها بها.

توقفت الأستاذة لهنيهة، ويداها ترتجفان ثم أخرجت من محفظتها ورقة سوداوية شفافة وتابعت مرافعتها:« سيدي القاضي لقد طلبت من قسم المراقبة السرية،التابع لإدارة أمن القلعة القومي.أن يوافيني بالأحلام التي رآها بوجا في منامه طيلة تلك الأيام. والتي تم تسجيلها ورصدها بطبيعة الحال بواسطة التماثيل المسحورة.مسح الأحلام هذا بين أن الظنين انتبه إلى اللسان إلا أنه أعتقد أن زميلته كانت تتسلى بتطويل لسانها وتقصيره. وحتى الآن لا نعرف الساحر الذي أنتحل صفة ملاك. فقد تم تشطيب المسرح من الأدلة المساعدة.لقد كان صنوع يروج تلك الأيام وزنات ذهب مزور، وخلق نقاشا حول الموضوع في القسم. وكذب على التلاميذ بخصوص أن الجهات المختصة قد كلفته بالبحت في الموضوع.

وبذلك استطاع أن يسجل مؤازري وهو يقول لصديقته:"هل أنت متأكدة أن تلك الأموال لم تكن مزورة؟."

لقد كان هدفه أن يخلق شهودا من التلاميذ.سيدي الرئيس،خلاصة القول:إن هؤلاء الثلاثة برعوا في بناء خطتهم حتى أنهم لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا وتدارسوها «.
استشاط القاضي زوبعة غضبا،حتى أن وهج عينيه الحمراوين بدأ ينعكس فوق وجه ميرنوش. وبدأ يتكلم كأنه ينفث النار، إذا صحّت أقوالكِ فنحن أمام خيانة...لا لا...لا أريد لهذا أن يقع بقلعتنا،سأعاقب الخونة.

والآن السؤال موجه على التوالي:للأستاذ حسوب والتلميذة ملاك. باعتبارهما شاهدين، وللجسيم وصنوع وحربوء باعتبارهم متهمين.هل تُقرون بما جاء في مرافعة الأستاذة شفورة؟... أريد أجوبة كتابية حتى لا يقع بينكم أي اتفاق.

بدأ الخمسة يكتبون بأصابعهم التي صارت أقلاما ترتعش، وبدأ خنتوع بن برخيا يهمهم ببعض التعاويذ لمنعهم من الإطلاع على بعضهم. أجاب كل من الأستاذ حسوب والتلميذة ملاك بالإضافة إلى الجسيم، الذي يبدو من حاله أنه فقد التحكم في أعصابه، أجاب هؤلاء كلهم بالإيجاب. في حين أجاب الأستاذين صنوع وحربوء بالنفي.واستأنفت الأستاذة ضفدوعة مرافعتها وقد بدأت حبالها الصوتية تهتز:« سيدي الرئيس،إن الرجوع إلى أرشيفات الانترنيت السحرية،وأرشيفات الكاميرات #.يزيل اللبس والالتباس عن خيوط هذه القضية.لقد راسل شرار سليل النمرود، كل من حربوء والجسيم في يوم... يطلب منهما أن يقومان ببناء فخ من الفخاخ لإحاشة بوجا للسجن.وهما لا يعرفان لماذا؟.في الحقيقة لم يقبل أي منهما أن يكون عميلا للنمرود.بل رفضا العرض.غير أن الأستاذ صنوع تظاهر كأنه اكتشف رسائلهما بالصدفة. وزور رسائل الرد التي كان يرد بها كل واحد منهما على حدة،على النمرود.وجعلها رسائل قبول وبدأ يبتز كل واحد منهما بمفرده. إذ لم يكن أحدهما على علم بما يحدث لصديقه. وبدأ صنوع يهدد كل واحد بأنه سيظهر رسائله إذا لم يفعل ما يأمره به.ومنذ ذلك الوقت أصبح يتحكم فيهما.ويستعملهما كبيدقين يفعلان ما يأمرهما به. وهما لايدريان ما يفعلانه،ولماذا يفعلانه،في الحقيقة إن صنوع هو العميل الوحيد الذي قبل الاشتغال مع أتباع النمرود.أما المتهمان فقد وقعا ضحيته.وحتى صنوع لم يكن يعلم لماذا يرغب النمرود في إدخال الظنين إلى السجن. وأقصى ما كان يعتقد هو أن النمرود كان يرغب في تعذيب عدوه في قلب القلعة. غير أن النمرود كان يخطط لاختطاف بوجا من السجن على يد الغراب الأسود. الذي فعل كل ما فعل ليدخل السجن.وفيما بعد سيختطف بوجا منه،لأن القلعة لاتوفر للسجناء الحماية التي توفرها للأحرار.الغراب الأسود بدوره لم يكن على اطلاع بما سيفعله.كان يتلقى الأوامر فقط « .

غضب زوبعة ولم يستطع التحكم في أعصابه.واحتقن وجه ميرنوش، حتى بدأت جميع صور الجاسوسية، التي بث فيها تمر على شاشة وجهه المرآتي، واقترب القضاة الثلاثة من بعضهم وبدءوا يوشوشون. ثم رفع القاضي خنتوع رأسه وتساءل منحنحا:« السؤال موجه للمتهمين الثلاثة.هل تقرون بما قالته الأستاذة». أجاب حربوء والجسيم بالإيجاب وانهارت أعصاب صنوع وبدأ يبكي ويطرق رأسه بيده التي صارت مطرقة، ومرت دقيقة هادئة إلا من حشرجة صنوع تبادل فيها القضاة نظرات صامتة.

ونحنح زوبعة بخفوت:« يا ميرنوش لأول مرة في حياتنا كنا سنحكم جوراً وظلماً ياخنتوع عذبنا هذا الولد». وارتفع صوته وبدا أكثر جدية:« قضت المحكمة حضوريا ببراءة بوجا... وسيتم متابعة كل من الجسيم وحربوء في حالة سراح. و متابعة صنوع بالتهم التالية:خيانة القلعة النصب والاحتيال والتزوير والابتزاز وممارسة تعاويذ التحكم على مواطني القلعة.والعمل لصالح العدو...سيبقى تحت الحراسة النظرية في ردهات سجفنارت». اختلطت دموع التلميذ بابتسامته، وقلبه يرفرف بين دفتي صدره كعصفور بلا أجنحة.لقد صدقت شيطا فالأستاذ عبقور رائد من رواد التنبؤ.شرع ميمون الطيار يفك عنه القفص،فبدا مثل امرأة تزيل قميصا صغيرا عن ابنها.حاجَّه بوجا:« أنت قلت لي أنني سأحل عندكم نزيلا».همس ميمون حتى لا يسمعه القضاة،الذين بدأوا يستعدون للمغادرة:« أشش، من يدري لعلك ستأتي العام المقبل،عفوا ذكرني باسمك؟».نطق الولد اسمه بصوت مرتفع.همس الحارس وهو يلكزه:« أكتبه وأريني إياه».كتب اسمه على راحته بسبابته التي بدأت ترتعش فرحة.قهقه ميمون الطيار:« آه حسبتك دوجا.المعذرة أذناي لا تفرقان بين الدال والباء،لذي خلط في سماع هذين الحرفين!».

بدأ الحاضرون يزدحمون قرب الأستاذة ضفدوعة ويلتقطون معها بعض الصور فكر بوجا أن يشكرها عن مؤازرتها له.فتقدم نحوها شاقا ممرا وسط الزحام،أقترب منها وانحنى على يدها وقبلها.سحبت يدها وردت بتواضع:« عفوا يا ولدي لا نريد منك جزاءا ولا شكورا،فنحن نعمل هذه الأعمال عن قناعة وحب». ثم مد لها شيئا ملفوفا وهو يتلعثم:« أتمنى أن تقبلين هذه الهدية مني «. ضربت الأستاذة غلاف الهدية ليظهر من تحته خاتم ميمون،ثم علقت وهي تضحك:« عرفته إنه خاتم ميمون من أين لك به؟» عقب التلميذ وقد زادته ابتسامتها شجاعة:« أعطاه لي،عندما كنا عائدين من المهرجان.أشهدت ُعليه الحراس والعفاريت والأقزام.حتى لايحدث لي معه ما حدث لي مع ملاك «. ابتسمت ضفدوعة وهي تتفحص الخاتم ببغض التعاويذ.فبدأ يظهر كل مرة بلون،وتظهر عليه إرشادات كثيرة.هدرت الأستاذة كأنها تحاور نفسها:«لست أعرف.. الخاتم وحده وفر لك الحماية عندما تهت بالغابة المشئومة.دون أن تكون لك أية دراية باستعماله.أمم..هذا أمر محتمل إلا أن احتمال وقوعه ضئيل جدا.(وازداد صوتها خفوتا).أسيكون والدك على قيد الحياة.ويساعدك عن بعد عفوا هذا هراء.إذن من يكون هذا الذي يساعدك يا ترى؟»ثم انتبهت إلى أولئك الذين يجتمعون لالتقاط بعض الصور معها،وقد أصبحت القاعة الآن أقل ازدحاما.ومدت الخاتم لبوجا وهي تقول:«آسفة جدا،أنا لا أقبل هدايا في اسم غيري. ميمون نقش عليه اسمك،ولا يمكن محو الاسم دون أن يفقد الخاتم بعض خواصه». شاهد بوجا الساحرة الجمعوية وهي تُصَرِّحُ للصحافي الذي استجوبه سابقا.ودنا منهما حتى بدأت تلك المرأة تمرر يدها على شعره وتقول:« سأدافع عن هذا الولد.لا يمكنه أن يرتدي قفصا لمدة سبعة أشهر دون أي رد للاعتبار «.

غادر القاعة وهو يبحث عن جنوت بفارغ الصبر.فهو يود إقناعه بأنه لم يعط أي صور للأستاذة. وأنه لم يخن عهده.بحث عنه في كل مكان إلاّ أنه لم يجده. شق طريقه راجعاً، أبصر غصن زيتون يحلق في السماء، على ارتفاع قامة ساحر. حلق الغصن نحوهُ رويدا رويدا. وبدأ يصفعه لوجهه كأنه يستوقفه.توقف للحظة والتفت فإذا بجهبور قد أقبل وهو يضحك.تكلم هذا الأخير قبل أن يصل: »سامحني لقد سحرت أغصان كثيرة ووزعتها تبحث عنك. ألم أقل لك إنني سأصبح ساحر نباتات». اغرورقت عيناهما بالدموع. تعانقا وكل منهما يذرف دموعه فوق كتفي الآخر.همس جهبور: » سامحني لقد شككت في براءتك».افترقا، فخطا بوجا خطوة إلى الأمام غير أن جهبور لكزه وهو يغمز:« انتظر هنالك شخص يريد الاعتذار». ظهر عاشور من تحت قبعة إخفاء وهو شاحب الوجه. كأنه وحده نجا من معركة. استرجع بوجا ذكريات السنة كلها. كان عاشور صديقا حميما ووفيا.قدم له مساعدات جليلة. غير أنه بقدر ما كان رحيما في صداقته كان قاسيا في جفائه. اعتذر عاشور وصوته يختلط بحشرجة البكاء وفجارة الضحك، وبدأ يتكلم:« اعذرني كثيرا. لذي عقدة مع الأقفاص.أبي يرسلني قسرا في كل عطلة صيفية لأشتغل مع بائع أقفاص. ذات يومٍ دخلتُ أحدَ الأقفاص لأرممهُ من الداخل.فانغلق عليَّ وشرعت أصرخ وأخبط قضبانه. مر وقت كثير كنت أرى الناس وهم يبحثونَ عني. أبي، أمي،أختي... غير أنهم لا يرونني. فبقيت في القفص أزيد من أسبوع. أرى أمي وهي تأتي، مائة مرة في اليوم،عند رب المحل وتسأله هل من جديدٍ عني. وبالمصادفة جاءت صاحبة القفص وشرعت تشتم مشغلي عن تأخره في إصلاح قفصها. شرح لها أنه كان مشغولا بالبحث عني وبعدها أخبرته،ببرودة، بأن قفصها مسحور بطريقة تجعل كل من دخله يختفي».

وصلوا إحدى الغابات. التي كان الطريق يخترقها.أخد بوجا غصن الزيتون الذي بقي بيده. وطلب من جهبور أدوات الزراعة، ثم جَانَب الطريق وشرع يحفر.فرِح جهبور بذلك وبدأ يعاونه.وتساءل عاشور بغباء:« ماذا تفعلان؟».فردا عليه بصوت واحد:« نريدان غرس فسيلة براءتنا». وصلتْ عليهم شيطا وملاك وكل واحدة منهما تضع يدها على كتف الأخرى. كانت ملاك تشكو من طول الطريق وخشونتها. هنّأتهما وهي تنظر في وجه جهبور الذي كان يبدو كوجه شبل صغير، أضافت ملاك:« القاضي أشاد بمجهوداتك ستصبح مستقبلا رائدا من رواد حماية البيئة». ضحكت شيطا ضحكةَ عجوز موغلة في السن وقد غطت دقنها بلحية بيضاء تصل حتى صدرها وحولت سبابتها إلى عكاز وشرعت تردد:« العم جهبور يدعوكم إلى احترام البيئة». وهم يقهقهون وهي تعيد الجملة، وفي كل إعادة تغلِّظ صوتها أكثر وتقوم بحركات بهلوانية. ثم انتبهت إلى الفسيلة وبدأت تتكلم بجد:«غرستما فسيلة البراءة في طريق المحكمة.إذن ستقضيان حياتكما كلها في المحاكمات.الأستاذ عبقور كان يقول هذا، عفواً أمي تقول هذا».رد جهبور مغتاظا:« سنحضران لنشاهدانك تدانين في أبشع القضايا». عقبت شيطا باستهزاء:« لن يحدث هذا فأبي يربط علاقات كبيرة مع القضاة». تنهد عاشور وهو يضحك:« أنا أعرفه إنه شاويش بالمحكمة،حارس صخرة مولاي بوعزة!». ضحكت شيطا وهي تفرد إصبعها الوسطى وتمدها في اتجاهه. نظرت ملاك إلى السماء وهي تلكز شيطا. كان الأمر يتعلق بالتيرودكثيل الذي حط مخلفا زوبعة من الغبار. عرضت ملاك على التلاميذ أن يستقلوه معها لتقربهم إلى مساكنهم. امتنعوا إلاّ شيطا. اختفت التلميذتان في السماء وبقي الثلاثة يتحاورون. كان جهبور يجلس القرفصاء وينثر قليلا من التراب الدقيق فوق جذور الفسيلة وهو يتكلم:« صدَقَتْ شيطا فحارس صخرة مولاي بوعزة يعتبر قنطرة تمر عبرها الرشاوى من المدعيين نحو القضاة. السمسرة وصلت إلى أنه في نفس الملف، قد يرتشي أحد القضاة من أحد المدعيين، وأصدقاؤه لا يعلمون شيئا. آه ٍيا صديقيَّ للسمسرة رجالا وعفاريت خبروا فيها!». ثم أزال المرشة من عنقه وشرع يسقي الشتلة وهو يهمهم:« المِرشة أصبحت خفيفة علي أن أملأها بالماء من جديد».تنهد بوجا وهو يعقب:« لاشك يا صديقي أنك قاسيتَ كثيرا. المهم اليوم هو أن المحكمة خففت عنك الثقل... تصورا لو مثل محمد شكري أمام محكمة قلعتنا». بدءا يبحلقان فيه. تذكر أنهما لا يعرفان شيئا عن عالمه. وتابع كلامه:« إنه كاتب من العامة ذكر في إحدى رواياته#، أنه بحث عن شجرة ملساء، ورسم عليها تصميم امرأة. حيث حفر حفرتا النهدين والفم.وحفرة ما بين الفخذين.وطفق يمارس عليها الجنس». ضحك عاشور غير أنه زم شفتيه بسرعة، لأنه أدرك أن هذا الخبر لم يرق لجهبور. الذي بدأ لون وجهه يتغير إلى الزرقة. وهو يتكلم واللعاب يتطاير من فمه:« لو ضبطته محكمتنا متلبسا هكذا. لحكمت عليه أن يحش حشائش الأشواك بيديه ويدرسها برجليه في دورة أبدية ودون استعمال السحر». وزاد غضب جهبور وهو يتساءل:«هل هذا الشيء الذي حدثنا عنه يعتبر بشرا أم مخلوقا كعبيدات الواد أو العفاريت الأقزام أو التماثيل المسحورة...؟». رأى بوجا أنه من الأفضل أن يكذب حتى يهدئ من غضب صاحبه.


17 ـ الحقيقة من وجهة نظر أخرى

كانت الشمس في كبد السماء، وكانت أشعتها العمودية الحارة تلسع الأجساد وحتى الهواء بدا محملا برائحة التراب وأوراق الأشجار، أما الطيور فكانت تروم الظلال وأفواهها فاغرة.
وفي حجرته استغل بوجا يوم الأحد فبدأ يجمع ملابسه إذ لم تبق على نهاية الموسم الدراسي إلا ثلاثة أيام. هيأ حقيبة كبيرة وضع فيها بيرس السحري وخاتم ميمون ثم قبعة جنوت. وجلس فوق سريره يتضور وسط أفكاره لم يكن النجاح والرسوب هو الذي يؤرقه مثل بقية الأولاد. وقد تذوق طعم البراءة إلاّ أن سعادته لم تكتمل. وأول ما بدأ يفكر فيه الآن هو ماذا سيقول لوالديه عندما يعود للقرية؟. ثم لقد مر موسم بكامله ولم يتعرف على أمه الحقيقية. أين هي؟.. وخبط يديه مع السرير تجهما.ووقف يذرع القاعة جيئة وذهابا. هل ستكون أمه هي ضفى تلك المرأة المجنونة.وما السبيل إلى تخليصها من عالم الضفادع؟. مرت أشهر طوال ولم يخطر بباله أن يتساءل عن ماهية هذا العالم. بدأ يعاتب نفسه ويلومها،حتى أنه أوشك أن يصفع خديه. كان عليه أن يستغل خروجه مع الحراس.. كان عليه أن ينتزع بعض الأفكار من شيطا الفضولية أو جهبور صديقه المزاجي. لماذا لم يفكر وقتها في هذه الأشياء. حقا لقد كان ذهنه منصبا على التفكير في المحاكمة. بقي له الآن طريق واحد سيستعمل حاسوبه السحري. صفق راحتيه، فظهرت الشاشة الثلاثية الأبعاد على الحائط. وظهر العفريت جوجن صاحب السبعمائة ألف رأس وقد ارتدى ملابس الصيف. دنا منه بوجا وسأله همساً:« ماذا تعرف عن عالم الضفادع؟». توهجت وجوه (جوجن ) واحتقنت دماء. حتى أن ذلك أفزع الولد الذي شرع يتراجع للوراء زاحفا. ثم بدأ أحد الرؤوس ينتفخ ويكبر ويبتلع الرؤوس الأخرى. وسُمِع صوت كالأزيز. فبدأ بوجا ينظر إلى سقيفة الحجرة وأركانها بحثا عن مصدره. تابع (جوجن) كلامه:«.. عندما يستحوذ النمرود شرار على الذكور فإنه يقدمهم لآلهته كقرابين. والفائض منهم يزج به في سجن جحيم الشر. أما عندما يقبض على النساء فإنه يستحييهم. ويعتقد أن آلهته تكرههن كهدايا. لذلك غالبا ما يهديهن لجنوده. والرافضات منهن يضعهن في سجن ويحبسهن بتعاويذ يشرف عليها جنوده. هذا السجن الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود. يمارس فيه النمرود على تلك النساء تعذيبا ساديا وبطيئا. حيث تتغير في هذا السجن الحرارة من البرودة إلى السخونة باستمرار.تتغير فيه كذلك نسبة الأوكسجين، تصل إلى الصفر لبضع ثوان فتختنق النساء. ثم تبدأ في الصعود حتى تصل مائة بالمائة فتقع مشاكل كثيرة. وكذلك الشأن بالنسبة للرطوبة والجفاف..تقع أشياء كثيرة من هذا القبيل.. هذا السجن يسمى عالم الضفادع».

لم ينته الكلام حتى انفجر رأس جوجن وبدأت دماء سوداء تنزف من سائر جسده. وهو يصدر صوتا شبيها بخوار عجل ذٌبِحَ لتوه. ثم اسودت الشاشة وبدأ دخان قاتم يخرج منها ليغطي سائر الحجرة. تكلم شبَح الجدة من ورائه فقفز بوجا فزعا. ثم همس الشبح:« قتلت عفريتكَ. لقد حمَّلته ُ أكثر من طاقته». استرجع الولد ذلك اليوم الذي دخل فيه عالم الضفادع. حقا لقد كانت تلك المرأة تجد صعوبة في إشعال النار. فقد كانت تنقر ظفري إبهاميها غير ما مرة لكن دون جدوى. وظلت ضفى آنذاك ترتعش كأنها في منطقة صقيعية. توقف لبرهة عن التفكير فقد سمع نقرات خفيفة على الباب. اتجه نحوه وهو يتوجس خيفة. فتحه إلاّ أنه لم يجد من كان يدق. لا شك أنه توهم ذلك. كان الهدوء أمام الحجرة قاتلا فحتى فواكه الأشجار كانت ذابلة وملتوية على بعضها البعض. غلق الباب بسرعة وعاد ينفض الدخان بمنديله ويردد تعاويذ تتعلق بالموضوع. إلاّ أن أي تحسن لم يحصل. فبعد كل تعويذة كانت الغرفة تزداد إظلاما واختناقا. سمع نقرات أخرى على الباب. خرج وأخرج معه صحنا من الماء. ليضعه أمام غرفته حتى إذا احتاجته الطيور فإنها ستأتي لترتوي منه. بدأت الطيور تقترب إلاّ أنها بقيت بعيدة قليلا كأنها تهابه. فكر في الدخول ليترك لها فرصة الارتواء. لم يكد يفعل ما فكر فيه حتى بدأت ضفدعة صغيرة تنط اتجاه الصحن. ارتوت الضفدعة وهو يتابعها. فكر في الدخول إلاّ أنها تبعته. ودّ رَكلها غير أنه تذكر أن أستاذته الأنيماجوس تصير ضفدعة. وردا منه للجميل التي فعلته معه كان قد أقسم أن لا يؤذي الضفادع. ازداد الظلام والدخان بالغرفة وشرعت الضفدعة تتحول شيئا فشيئا. إنها الأستاذة ضفدوعة بلحمها وعظامها. سقط المنديل من يديه وبدئتا ترتجفان. ولم تعد فرائصه تقوى على حمله فانهار ساقطا فوق سريره. همست الأستاذة:« لا تخف مجرد زيارة سرية». كان يفكر فيما إذا كانت قد قدمت لتوبخه عن فضوله واقتحامه لمواقع سرية.تكلمت الأستاذة بهدوء:« لا لا شيء من ذلك». خجل من نفسه ففي الأيام الأخيرة كان قد تعلم كيف يغلق ذهنه حتى لا يطلع عليه أي ساحر. لم تكن ضفدوعة تظهر له بشكل جيد فقد كانت بدلتها الزرقاء تخفيها وسط الدخان المنتشر في الحجرة. وتابعت كلامها بخفوت:« هذا الدخان لم يأت من الحاسوب. إنها العاصفة التي تسبق نزول الأقوياء. تلك هي الأستاذة ضفدوعة لا يمكنها أن تقوم بزيارة سرية دون تعاويذ الحماية والتضليل». ثم صفقت راحتيها و تمتمت برزانة:«خروج عن المكان».

بدأ يسعل شعر كأنه يسير مع الزمان..كأنه يسري في الفضاء بسرعة تفوق سرعة الضوء. اختلطت علية الحقيقة بالخيال.كأنه نائم ومستيقظ في آنٍ معاً.هو غير نائم بطبيعة الحال.إلاّ أن لا صلة بقيت تصله بالوجود، بالمكان. كأنه ثابت في فضاء لا متناهٍ. هو لا يتنفس ولا يشعر بالرغبة في ذلك. وأكثر من هذا يشعر كأن رئته تكتنز فائضا كبيرا من الهواء.هذا إن بقيت له رئة. فتح عينيه أو حسِب أنه فعل ذلك. لم ير شيئا سوى العتمة والسواد. ربما لم تبق لديه عينان ولا جسد.أراد أن يمرر يديه على جسمه غير أنه لم يجدهما. هو الآن مجرد فكرة حياة،فكرة وجود. وهو موجود فقط لأنه يشعر أنه موجود. سمع صوت حاد يحاوره:« كل شيء بخير». رد بخوف:« مالذي حدثَ ومن أنتِ؟».أجابت ضفدوعة بصوتٍ هادئ:« مارستُ تعويذة خرجنا بها عن المكان».

ـ لماذا؟.

ـ أريد أن أناقشكَ في بعض الأمور السرية. وبهذه الطريقة لن ترصدنا إدارة القلعة ولا مملكة النمرود.

ـ ألن يقع لي أي مكروه؟. هل سأعود سالما إلى المكان؟. ثم من أدراني أنكِ أنت هي الأستاذة شفورة؟.

ـ رقمكَ التشفيري لا يعرفه أحد غيري. من أجل هذا اليوم تعلمت التشفير وتحملت متاعب تحضير شُفر التلاميذ. لماذا لم تُرِنِي تلك الصورة التي التقطتها من شجرة \دفتر ذكريات ملاك؟. أنت تخون نفسك.

ود البكاء إلاّ أنه لم يستطع. لم يتغير حتى صوته. رد بخفوت:« جنوت جنوت جعلني أعاهدهُ ألاّ أفعلها وهو اليوم يعتقدُ أنني أبلغتك بتلك الصور وخنت العهد«.

ـ وهل كنت ستفي بعهدك له لو دخلت سجفنارت؟.

ـ نعم لا تراجع فقد حرقت الصور، حتى لا أفكر في التراجع. كان علي أن أتريث قبل أن أعاهدهُ. أما بعد ذلك فلا مناص من الوفاء...جنوت لقد دمرني سامحيني.. سامحيني..

همهمت الأستاذة:« عظيم.. وهل ستعاهدني،بدوري، على كتمان ما سأسر به إليك حتى لو وقعتَ تحت أبشع تعذيب؟ «.

تردد قليلا في الإجابة. استحضر ما سمعه من أحد الأطباء في المهرجان:" شخصيا أثق بهذه الأستاذة إلاّ أنه في مثل هذه الظروف لا يمكن للساحر أن يثق حتى في سبابته". إذا كان جنوت قد ساعده وفيما بعد أدى الثمن غاليا. فالأستاذة بدورها قدمت له دعماً فاق كل توقعاته. لذلك سيكون الثمن أغلى. هذا ما جال في خلده الآن، غير أنه سحب هذه الأفكار بسرعة. فليس هذا هو الوقت للتيه في دائرة شك مفرغة، وليس عليه سوى التسليم بحسن نية الآخرين. ثم همس بصوت قوي:« أعاهدكِ على ذلك». تنهدت الأستاذة وهي تردد في نفسها:" من أين أبدأ؟.. ماذا سأقول؟.. كيف سأبدأ؟".ثم ارتفع صوتها وهي تحاوره:« كان النمرود يخطط لاختطافك، وعلمت القلعة بذلك وقررت حمايتك لغاية في نفس يعقوب. حيث سحرت متطوعين ليصرون أشباها بك حتى يختلط على النمرود الأمر. غير أن هنالك جواسيس من القلعة أخبروه بالأمر. كان النمرود قد وضع خطتين لاختطافك. الخطة الأولى قد سمعتها في المحكمة: السجن ثم الغراب الأسود.. أما الخطة الثانية فقد هدف من خلالها أن يدخلك مستشفى الرازي للأمراض السحرية. كان يود إيهام المشرفين أن الفيروس معدٍ. ومن ثم سيقللون من حراستهم لك. ومن غير هذين البابين لا توجد طريقة لاختطافك فنُظُم المراقبة بالقلعة متطورة جداً. وظل النمرود يعتقد أن الذين يهتمون بحراستك أقصى ما سيصلون إليه هو اكتشاف خطة والتركيز عليها وإهمال الأخرى، وفعلا كان ذلك سيتأتى له لولا الأستاذة ضفدوعة التي استطاعت أن تفشل خطتيه معاً. فقد كان قد أخد أفعى من أفاعي العامة وروضها ودربها كيف تدس لك تعويذة نانوية دقيقة تحت أنفك. حتى يميزك من وسط الأشباه عندما تحل بالقلعة. وقد استطعتُ أن أنجح في ممارسةِ التعويذة التي كنتُ أحلمُ بها طوال حياتي. (وهي تقصد بذلك تعويذة الخروج عن المكان.) وتجسستُ على النمرود واكتشفتُ خططه. واتفقت أنا والساحرات الشقيات وتطوعت منَّا الساحرة ضفى، لتصير ضفدعة وتذهب عند العامة.كانت الخطة تقتضي أن تبقى ضفى في مكان من النهر الذي يصطاد منه والدك عمر الأسماك... وفعلا كان لنا ذلك وكلما ألقى والدك عمر صنارته في النهر إلاّ وطلعت عليه. للأسف البليغ كان يظن أنه سيئ الحظ. فيخبط ضفى \ الضفدعة بقوة على سطح النهر. كان عليها أن تتحمل ذلك. وكلما سحب صنارته ووجدها إلاّ وحسب أنه اُصطاد ضفدعة أخرى، فيزداد غضبه وتجهمه، وأخيرا ألقى بضفى جانب النهر وهذا ما كنا نريدن. فقد كن نتوخين أن يفكرعمر في الضفدعة عندما تدعوه الحاجة لذلك.

بقيت ضفى تصُارع الموت كضفدعة من ضفادع العامة وتتفادى ألاّ تدوسها أقدام دوابهم وكنتُ أزورها خفية وأضمد جروحها وأقدم لها الدعم النفسي المسكينة لقد تحملت الكثير من العذاب.( تنهدت) وكل هذا لنجعل الأمور تظهر عادية ومألوفة. وعندما ألقت أمك رقية بضفى \ الضفدعة أمام الأفعى وهي لا تعلم شيئا عن هذه الأحداث. حاولت ضفى أن تزيل التعويذة النانوية من تحت أنفك، غير أنها لم تستطع، فقد كانت الأفعى إلى جانبها تكش استعدادا للانقضاض عليها. وكان النمرود يتابع العملية بحاسوبه السحري. وكنت أنا قريبة من ضفى وقد مارست تعويذة الخروج عن المكان وكنت أستعد أن أمارسها عليها متى رأيت أن حياتها في خطر. كانت يدي على الزناد فأي خطأ قد يجعل ضفى مضغة في فم الأفعى. فشلنا في إزالة التعويذة من أنفك فقد كانت ملامح النمرود (حيث كانت جماعتنا بدورها تراقبه بواسطة الإنترنيت السحرية وكنا ننسق فيما بيننا نحن معشر جماعة الساحرات الشقيات). تبين أنه شك في أمر الضفدعة. وكان والدك قد تأخر قليلا في إحضار ضفى \الضفدعة. كان علينا أن نجعل الأمور تبدو طبيعية. لذلك فقد تحملت ضفى محنة أخرى فقد بقيت قرب أحد المروج حتى اصطادها نسر من نسور العامة.وحلق بها بعيدا حتى وصل فوق النهر فمارستُ علية تعويذة جعلته يُسْقِطُ ضفى في النهر كل ذلك لئلا نثير انتباه النمرود وجواسيسه. وفي تلك الأيام فقدنا الأمل في إخراج لعنة النانو من أنفك. فأردنا أن نستبق الأحداث.وبدأت أخرج من المكان وأسافر إلى مملكة النمرود حتى أدنوا منه ومن محيطه. كانت الحواجز قوية ولولا هذه التعويذة ما كنت أستطيع اختراقها. وعندما أدنوا منهم أرتدي قبعة إخفاء فأتجسس عليهم. كان سلاحي الوحيد إدا اقتربوا من اكتشافي هو الخروج عن المكان. اكتشفت أن سحرة النمرود كانوا يحضرون " فيروس الشوغو إنترنيتو".واستعطت سرقة التقنية فهيأنا مصلا مضادا للفيروس، وبقي لنا كيف نلقحك به، من أجل ذلك مارستُ عليك تعويذة الخروج عن المكان، وأدخلتك عالم الضفادع. الساحرة ضفى تُعرف على أنها امرأة مجنونة تتجه عند كل من رأته وتعانقه وتقول له بأنها أمه وأحيانا تعانق الخواء. وهذا ما لاحظه جنود النمرود في حالتك فقد كانت ضفى تظهر لهم كأنها تعانق الفراغ. لأنني كنت قد مارست عليك تعويذة الخروج عن المكان ولم يكن الاتصال بينك وبينها إلاّ بواسطة تعاويذ أخرى. أما أنا ففاعلة جمعوية أدخل عالم الضفادع لأغراض اجتماعية.أعطيت لضفى حقنة التلقيح وهي تمسكت بك ولقحتك. دون أن تشعرك بذلك، وإخفاءً لنقطة التلقيح فوق جسمك خَمَّشتْكَ بتلك الخدوش التي بقيت كالبرص».
سكتت الأستاذة ضفدوعة قليلا ثم تابعت كلامها:« لقد لعب الجسيم دورا مزدوجا لإحاشتك إلى كمين النمرود. فبالإضافة إلى ما ذكرته أمام هيئة المحكمة هنالك أشياء أخرى لم أشأ التصريح بها،لأنني لو فعلتها لشككوا في مدى حسن نيتي وسيقودهم ذلك إلى التعرف عن هويتي.. لقد كان الجسيم يهدف إلى إنزالك لإحدى الحفر حيث المخلوقات الحفرية عفاريت مشاكسة تؤدي كل من يقترب منها. فأنزلوا الكتاب للحفرة إذ كانوا يتحكمون فيه بواسطة الإنترنيت السحرية. وتبعته أنتَ حيث كان الجسيم قد هوّل عليك عقوبة الخزانة. وبعد ذلك شرعتَ في المسايفة مع العفاريت الحفرية. الأستاذ صنوع كان بمنزله يتابع الأمور بحاسوبه السحري. استطاع في الوقت المناسب أن يبذل، بواسطة حاسوبه، سيفَ أحد العفاريت ويضع له بيده سيفا مسموما بفيروس "الشوغو إنترنيتو". الذي كان قد توصل به من النمرود شرار. من الأكيد أن علامات الفيروس تظهر على المصاب في الحال تبين للنمرود الذي كان يشرف على العملية بنفسه وبواسطة حاسوبه السحري الخاص، تبين له أنك لم تصب بالفيروس فطلب من صنوع أن يحفظ السيف ويرسله له.

كان النمرود يرغب في الحصول على عينة من دمك، ليصنع فيروسا موجها وهو أكثر تعقيدا من الشوغو العادي، غير أنني غسلت السيف جيداً من دمك ووضعت عليه دما آخر.وكان عليّ أن أفعل هذا كله دون أن أثير انتباه صنوع أو النمرود وأعوانه الذين كانوا يتابعون كل صغيرة وكبيرة. وفي نفس الوقت كان عليّ أن أخرجكَ من الحفرة دون أن أشعركَ بذلك.حيث كنتَ تفكر كيف تخرج من الحفرة فأعددتُ لك الطريقة في إحدى صفحات الكتاب.وأرشدتك لها بالرغم من أن الكتاب لم يكن يحتوي على أية فكرة في الموضوع، الخروج من الحفر أمر في غاية التعقيد والاستعصاء، والمرة الوحيدة التي كان فيها الجسيم صادقا معك هي عندما قال لك:« إن الخروج.. يكلف فطاحل السحر أكثر من أسبوع «. وهكذا استطعنا وقايتك من الفيروس الذي أعده لك النمرود، فقد كانت الشرارة التي تعرضت لها في المهرجان تحمل فيروسا موجها.إلاّ أنني استبقت الأحداث بمسح السيف من دمك، وطليه بدمٍ آخر.

ود بوجا أن يبكي وينتفض غير أن صوته ظل هادئا كأنه لا يتحكم فيه وهو يقول:« من أنتِ؟. ولماذا تعذبين نفسك من أجلي هكذا؟... دعيني أموت أريد أن أموت» وارتفع صوته حتى صار كالصرخة... سكتَتْ الأستاذة لهنيهة ثم ردت برصانة:« لا لا...لا يمكن أن يقع هذا ما دمت حية.. أنا أمك أنا أمك أنا شامة التي كلمك عنها جنوت».

ازداد غضبه وشرع يتكلم بصوت هستيري:« لا لا يمكن لن أصدق هذا ولا أريدُ أن أصدقهُ «. نحنحت الأستاذة وتابعت برباطة جأش:« الحقيقة مرة لكن علينا أن نتقبلها... كان النمرود شرار يطارد عائلتنا، اختفى جدك في البداية وحسبنا أن الأمر يتعلق بحادثة مجهولة الأسباب، ثم اختفت جدتك ووالدك... وبقيت وحدي انتظر ساعة اختطافي. في تلك الأيام كنت حبلى بك وكنت أبحث عن ملاذ آمن أضعك فيه. لم يكن لدي حل آخر سوى أن أضعك عند امرأة من نساء العامة، بطريقة لا تجعلها تدرك ذلك. وفي تلك الأيام كانت نساء كثيرات من العامة حوامل، غير أنني كنت أبحث عن المرأة التي ستضع مولودها في الوقت الذي سأضعك فيه، سألت أحد المتنبئين، فدلَّني إلى عشرة نساء كلهن سيضعن مواليدهن في الوقت الذي سأضعك فيه.فبدأت أبحث في سيرهن لأنتقي أفضلهن فكرتُ أن لا امرأة ستعتني بمولودها أكثر من واحدة اجترعت مرارة العقم لسنوات طوال، كان الأمر يتعلق بأمك بالتربية رقية. كنت سأضعك إلى جانب مولودها بطريقة تعتقد معها أنها أنجبت تؤمان، إلاّ أنها وضعت مولودا ميتاً. فوضعتك مكانه وأخذته هو ودفنته، كانت جدتك بالتربية (قابلة) وكانت تملك حدسا سحريا، ربما وقع لديها شك في هذه العملية لذلك ظلت تكرهك وتهددك. وربما اعتقدت أن رقية وضعت مولودا حياً وأخذته منها أنا وقتلته فقط لأجعلها تعتني بابني. وكنتُ أخشى أن تفشي بشكوكها إلى ولدها عمر وزوجته رقية فيناقشون ذلك علانيةً، فيسمعهم جواسيس النمرود الذين كانوا موزعين في كل مكان».

بقي الولد صامتا لبرهة من الزمن، وتساءل بصوت بدا معه أنه تقبل الحقيقة:« والجني جنوت ما محله من الإعراب؟».

ـ جنوت خادم عريق ووفي لعائلتنا كان يعمل رئيسا للخدام بمنزلنا، وعندما استبد بنا العدو وضاقت بنا الضائقة، وطفق النمرود يطاردنا. بحث لنفسه عن عمل بمنزل ملاك. ورغم ذلك فقد ظل مخلصا لي وقدم لي خدمات جليلة، إذ كان يحرسك في الأوقات التي أكون فيها منشغلةً. لقد عمل كذلك على إقناع أبوي ملاك بأن يتركون بنتهم تدلي بشهادتها. أما عن قضية الصور فقد جعلنا منها امتحانا نختبرك من خلاله. وددنا أن نعرفا إلى أيِّ حد يمكنك أن تؤتمن على الأسرار.إذ لو كنتَ قد خنتَ العهد الذي ضربته مع جنوت ما كنتُ الآن لأخبرك بهذه الحقيقة. فلا أحد هنا غير جنوت يعرف أن الأستاذة ضفدوعة هي شامة، حتى الساحرات الشقيات لا يعرفن هذه الحقيقة. أنا هنا أحمل صفة أستاذة عملاقة كانت قد لقيت حتفها».
ـ أماه أنتِ عظيمة.

ـ العَظمة بنتُ الممارسة والمعاناة.

سكت قليلا وهو يحاول أن يهضم هذه الحقائق ويتقبلها.لاشك أن أمه شامة عانت كثيراً وذاقت جميع أنواع العذاب.ثم كيف خرجت من عالم الضفادع وكيف استطاعت أن تلتحق بالقلعة منتحلة صفة الأستاذة ضفدوعة... ومن جهة أخرى فهو فخور أن يكون ابن هذه الساحرة التي لا يشق لها غبار. سواء كانت أمه شامة هي التي صنعت المجد والقوة والحكمة التي اشتهرت بها ضفدوعة.وسواء كانت أمه قد استطاعت أن تقلد امرأة عظيمة وتسير على دربها دون أن يكتشفها أحد، هو دائما سيبقى فخورا بوالدته. وهو كذلك فخور لأنه ابن عائلة سليلة في السحر هذا ما كان قد قال له أحد الأساتذة في بداية السنة، كان آنذاك يكره ذلك. آما الآن فهو فخور بهذا، فقد ظلت شيطا طيلة السنة تنعته بالعامي. اشتدت رغبته في أن يكون عظيما مثل أمه.. عملاقا كأمه. أراد أن يسألها فيما عن كان من السهل عليه أن يتعلم تعويذة الخروج عن المكان.غير أن هنالك ما كان يشغله فتساءل بتؤدة:« وأبي.. أين أبي؟». تظاهرت الأستاذة بأنها لم تسمعه ثم أجابت بصوتٍ أكثر استياء:«لو تعلمتَ تعويذة الخروج عن المكان لكان ذلك كافياً لأطمئن على حياتك، للأسف التعويذة تحتاج تمارين كثيرة تحتاج صوم ورياضة... وأكثر من ذلك فالحراسة بالقلعة مشددة وليس لدي مكان أعلمك فيه. كما يستحيل أن تتعلم التعويذة ونحن خارجين عن المكان».

ـ حسبتُني سألتك عن أبي؟ أين أبي؟.

اختفى كل شيء بسرعة البرق ووجد نفسه بالغرفة، أمام شبح الجدة الذي يبدو أنه سمع كل شيء اقترب منه الشبح وشرع يتكلم بصوت مرتفع:« إذن فقد فَعَلَتْهَا قتلتْ حفيدي الحقيقي ووضعتكَ مكانه أي أنانية هذه..لتحمي ابنها تقتل أبناء الناس؟ ثم تُراه أي دم وضعت على السيف؟ هل قتَلت طفلا آخر داخل القلعة. الشريرة هي بلا ضمير، أكثر حتى من هذا النمرود تراها قتلت حتى الأستاذة ضفدوعة شفورة وانتحلت صفتها ياللدّنس. يا ليتني عُدت للحياة لأخبر ولدي بأنه يحتضن ابن ساحرة وليس ابنه... أخبرته أنه يحتضن ابن قاتلة ولده..نعم سمعت كل شيء نحن الأشباح نتنصت حتى علام يحدثُ خارجَ المكان».

وضع بوجا إصبعيه في أدنيه فهو لا يريد أن يسمع هذا الكلام، ثم ماذا عليه أن يفعل فالشبح قد يفشي جميع الأسرار. فكر أن يعطل كاميرات الحجرة وأن يمارس تعاويذ الصد. (هي تعاويذ تجعل الغرفة بمنأى من أن يتجسس عليها أحد بواسطة الإنترنيت السحرية.) غير أنه وجد أن هنالك من فعل ذلك قبله. استمر الشبح يعيد نفس الكلام، وكل مرة يرتفع صوته أكثر. قفز بوجا بمكانه فقد مرت بجانبه تعاويذ كالشهب، متجهة صوب الشبح الذي صعق على إثرها. ولم تبق سوى بعض الدرات من الغبار.

أمضى بوجا ليلة قاسية بقي معها ممدداً تحت غطائه دون أن يغمض له جفن. حيث طفق يتخبط فيما سمعه من الشبح حول أمه شامة( الأستاذة ضفدوعة). وهل،حقا، ارتكبت تلك الجرائم التي اُتهمَهَا بها الشبح؟. وهل هي من صعق هذا الأخير؟. ثم كيف سيقفل ذهنه حتى لا يخترقه أحد ويكتشف من خلاله هذه الأسرار؟.تساؤلات كثيرة باتت تجول بخاطره.
أغلق،هذا الصباح، باب حجرته وسار عبر الدرج الحجري كان صباحا منعشا مليئا بتغريد العصافير ورائحة الزهور. وفي السماء كانت الطيور تتجه هنا وهنالك راسمة أشكالا هندسية متنوعة.وصل ساحة المدرسة فوجدها على غير عادتها إذ امتلأت بالكراسي. وفي الواجهة الأمامية بدت هنالك منصة أُسدِل عليها ستار أسود. كان نصف الكراسي قد شغل بالتلاميذ وبعض دويهم. جلس بمقعد من المقاعد وشرع يفكر في شيء يجعله يبتعد عن تذكر أحداث البارحة. حتى لا يكتشفها أحد السحرة من خلال اختراق عقله. لم تمر سوى بضع دقائق حتى ظهرت شيطا وهي تحمل ثعبانا صغيرا تديره حول عنقها وفي يمناها كتاب بعنوان" القصة رديئة وصاحبها يعتقد أنه صنع المعجزة". لم تكد شيطا تجلس حتى تكلمت بلا سؤال:« كل تلاميذ قسمنا نجحوا إلاّ خنفوش..(ثم تابعت) إنه حفل لتكريم التلاميذ الموهوبين والأساتذة المتميزين. مع أنني لا أومن بحفل بلا أطعمة ندخلها في وجوهنا!.. على الأقل الحلوى والشاي». ثم دخلت ملاك وهي تحمل أخاها الصغير(آدم) في ذراعها الأيسر وتضحكه برسوم وصور تظهرها له في الهواء. قبلت ملاك شيطا وإن كانت تبدو ممتعضة من ذلك وجلست بجانبها. ولكزت شيطا آدم بيدها وهي تخاطبه: « كيف حالك أيها الخنفساء أنا أكرهك».

وشرع التلاميذ يتوافدون ويجلسون بمقاعدهم حتى بدا من الصعب على بوجا متابعة ما يدور بين شيطا وملاك. ثم أقبل عاشور وإلى جانبه جهبور وهو يوجه كيْلا من السِّباب إلى مسئولي المدرسة، وأدوات الزراعة تتحرك فوق صدره محدثة صريرا يثير الانتباه:« لم يجدوا أين ينظمون هذا الشيء الذي يسمونه حفل. سيدوسون كل الفسائل الصغيرة. اللعنة على أبناء السفلة «. وكان عاشور يربت على كتفه ويطلب من الهدوء.

جلسا إلى جانب بوجا وهما يتنافسان على المقعد المحاذي لمقعده.فتحت شيطا حقيبتها وهي تضحك:« هذه مفاجأتي».وأخرجت من الحقيبة نكث كثيرة.انتشرت هذه النكث على مسامع الحاضرين حتى اغرورقت أعينهم بدموع الضحك. ونثر جهبور مجموعة من أغصان الزيتون وفسائله. فبدأت تلك الفسائل تسري فوق رؤوس الحاضرين.ثم صفق عاشور راحتيه ليظهر سرب من الحمام، حطت كل حمامة فوق غصن زيتون وبقي الحاضرون يراقبون المشهد وهم منبهرين. كانت بعض الأغصان تنحدر وهي تسري حتى تقترب من رؤوس السحرة. وبدا أن الطفل آدم وحده الذي كان يرغب في الإمساك بالحمامة وغصنها.

أُسدل الستار عن المنصة فظهر مدير المدرسة وإلى جانبه بعض الشخصيات النافدة وبدأ المنادي بأسماء الأساتذة تقدم الأستاذ عبقور وهو يسري باتزان، سلم له أحد الأطر جائزة الأستاذ النموذجي، ابتسم ابتسامته المعهودة وهو يغادر المنصة.ثم بدأت النداءات تلوى الأخرى تقدم كل الأساتذة الذين يهمهم الأمر إلاّ الأستاذة (ضفدوعة) التي لم تكن حاضرة وقد تسلمت جائزتها إحدى صديقاتها نيابة عنها. وقد خلف غيابها في ذهن الولد ألف علامة استفهام سمع التلاميذ الثلاثة أحد السحرة يتكلم وراءهم بخفوت:« أشك أنهم يشكون في أني أشكُّ أنهم لا يشكِّكُون في قدراتي.لذلك أشك أنهم لا يشكون في أنني لا أشك في استحقاقي لأحدى الجوائز». فهم الثلاثة أن الأمر يتعلق بأستاذ" مادة سحر الشك"وشرعوا يقهقهون. وختم جهبور ذلك بقوله:« أسُكُّ أن الشتائل لا تسك بأنني أسكُّ أني أغرسها».

ثم بدأت المناداة عن التلاميذ الذين حصدوا نقطا عالية. لم يكن بوجا واحداً منهم فرغم أن نقطه كانت مهمة إلاّ أنها لم تكن بتلك الدرجة التي تجعله من الأوائل على صعيد المؤسسة. ربما كان ينقصه التركيز وصفاء الذهن وخلوه من المشاكل. تقدم بعض التلاميذ لنيل جوائزهم وسط تصفيقات الحاضرين. ووسط هذه الجلبة ظهر تلك المرأة التي لفيها بوجا في الجلسة الأخيرة من محاكمته. والأمر يتعلق بالساحرة التي ترأس جمعية:« لا الإرهاب لا تلمس قلعتي». كانت تلك المرأة تركض بين الصفوف متجهة صوبه. وما فتئت تقترب منه حتى شرعت تعاتبه:« أين أنت َ لقدَ ظللتُ أبحث عنك وأرسلت إليك رسائل كثيرة لا تقل إنك لم تتوصل ولو بواحدة...». تلعثم بوجا في الإجابة غير أن الساحرة قاطعته:« تعال معي قريبا سينادونك لتتسلم جائزة المُسايف المثالي.فلم يبق هناك سبب لحرمانك منها «. لم يكد يضع قدميه فوق المنصة حتى بدأ يسمع النشيد الوطني، بدأ فؤاده يخفق بقوة وتحركت لواعج الحنين إلى القرية بداخله، حقا هذا ما كان قد تمناه في المهرجان.فرح جهبور وعاشور وظلا يطلقان المزيد من الحمام والأغصان. وعلت هتافات الحاضرين وتشجيعا تهم.. همست ملاك في أذن شيطا:« يا ليتني أخذت صورة بجانب هذا الولد». ردت شيطا بنزق:« كنتُ سأفعل ذلك لو لم يكن عاميا.. لا أظن أن لديه موهبة سوى أن الحظ بجانبه فهو دائما منطوي على نفسه «. تقدم أحد الأطر وهو يحمل الجائزة بين يديه ويبتسم:« أعتذر إليك أصالة مني ونيابة عن أطر القلعة. فقد أسأنا إليك كثير أتمنى ألاّ يتكرر هذا في السنة القادمة، أُنعمت صيفاً «.

وفي المساء كانت ملاك قد أقنعت والدها أن يأمر سائقه الخاص بإيصال بوجا إلى قريته عند العامة، سُرّ بوجا كثيرا لركوبه على متن الثيرودكثيل، رغم أن البرد كان يطبق أدنيه مع جلدة رأسه. لكن كان هنالك شيء يحز في نفسه أكثر هو ماذا سيقول لأبويه بالتربية؟ وكيف سيمضي الصيف؟ وأين هو والده؟ ولماذا يطاردهُ النمرود؟ ولماذا لم تحضر الأستاذة ضفدوعة ( أي أمه الحقيقية شامة) للحفل الأخير؟ ما مدى صحة الاتهامات التي اتهمها بها الشبح؟.. أسئلة كثيرة عليه الإجابة عنها...(انتهى والحياة لا تنتهي)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى