الجمعة ١ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم رامز محيي الدين علي

ضحية الغباء

ما أكثر الضحايا في مجتمعاتنا العربية التي ترزح تحت نير الجهل والخوف والرعب، هذه المجتمعات التي سلط الله عليها طغمة من الظالمين والفاسدين الذين قتلوا فيها روح العفاف والطهر، ونشروا فيها الفساد والعهر، وسطوا على الفكر والعقل، وصادروا كل كلمة حرة ونزيهة..

وها هي فاطمة فتاة بسيطة طيبة من أسرة فقيرة، كانت ضحية بيئة متخلفة وفساد مستشر في مجتمع لا يقيم وزنا للضعفاء والمستضعفين والبسطاء والطيبين، تسود فيه شريعة الغاب، رجال الأمن ذئاب من الطراز الذي لم يعرف التاريخ شاكلتهم.. لصوص ومصاصو دماء..

نشأت فاطمة في أسرة فقيرة، لم تتلق إلا التعليم الابتدائي، وعندما شبت، عشقت عيناها الطبيعة والجمال، لكنها وقعت ضحية شاب قذر، فعشقته ووثقت به، لكنه استغل طيبتها، ودفعه خبثه إلى استهداف شرفها وكرامتها.. فما كان من هذه الفتاة الطيبة إلا أن تنقلب إلى ثورة على هذا الوغد، فنبذته وبصقت في وجهه، وانتفضت كالبركان عليه وصفعته صفعة أنسته حليب أمه.. وعلمته درسا بأن الحب ليس شهوة، وإنما الحب قبس إلهي يرقق النفوس ويسمو بها إلى غاية الشرف والكرامة والإنسانية..

وفي هذه المأساة النفسية تقدم ابن عمها لخطبتها بحكم العادات والتقاليد، فأبت الزواج منه، وضغط عليها ذووها للقبول بابن عمها، فازداد إصرارها على الرفض.. وطلبت من أهلها مغادرة القرية إلى بعض أقربائها في قرية أخرى.. فلبى والدها رغبتها، واصطحبها إلى منزل أقربائها في تلك القرية.. نزلت الفتاة في بيت ابن عمتها محمد الذي يتميز بالشجاعة والشرف والكرامة، وأكرمها وعاملها معاملة بناته وأبنائه، وكان عنده شبان في عمر الزهور، لم ينظر إليها واحد منهم إلا نظرة الأخوة والمحبة والعطف..

وذات يوم جاء أحمد شقيق محمد وابن خال الفتاة إلى بيت أخيه، وطلب منه استضافة الصبية الجميلة عنده.. وكان المذكور متزوجا وعنده أولاد وبنات، لكنه معروف بأنه معتوه، وقليل الأخلاق والضمير.. شكله الخارجي يدعو إلى الاشمئزاز.. وسيرته تدفعك إلى البصق على وجهه كلما لمحته..

استضاف المعتوه ابنة عمته أياما.. وذات ليلة ثارت غرائزه، فترك سرير زوجته الغارقة في النوم، واندس في غرفة الضيفة البريئة التي تحلم بالنجوم، وتقدم إليها بأسلوب العطف والحنان، وحاول التقرب منها يتلمس شعرها ويترقق إليها بأطيب الكلمات، لعلها تضمه إلى صدرها، وجلس إلى جانبها على السرير.. وراح يطارحها همومه وأحاسيسه وغرامه.. مد يده إلى أماكن إثارتها.. فأعطته لطمة وصرخت بأعلى صوتها.. فخرج الذئب من غرفتها مذعورا.. وذهب إلى سرير زوجته، ونام كالثعلب حين ينام إلى جوار خم الدجاج..

أما الفتاة فلم تعرف عيناه طعما للنوم.. وقضت ليلتها مكسورة الخاطر والوجدان.. حتى بزغت خيوط الفجر.. حملت أمتعتها، ونزلت في بيت ابن عمتها محمد الذي حاول معرفة ما جرى لها.. وبعد إصرار شديد، أدرك محمد ما حدث، وأمسك فأسا واندفع لينتقم لضيفته من أخيه الثعلب.. لكن زوجته وأبناءه منعوه، وذكروه بالفضيحة التي يمكن أن تنزل بالفتاة إذا علم أهل القرية بالخبر، فهؤلاء يصنعون من الكلمة قصة ومن القصة رواية ومن الرواية ملحمة، شأنهم شأن كل القرى التي تريد أن تتسلى بالقصص والأساطير..

وظلت القصة طي الكتمان، وجاء الثعلب في اليوم نفسه إلى بيت أخيه وراح يعتذر إلى الفتاة وإلى أخيه لاعنا نفسه والشيطان الذي دفعه إلى غلطته.. ومرت الأمور بسلام.. وبعد شهر من الحادثة الدنيئة، غرر الثعلب بالضحية، فاصطحبها معه إلى مخفر الشرطة، ليسلمها إلى الأيدي الأمينة التي تسهر لياليها حفاظا على الأمن، وتصطاد الضحايا في كل ركن وزاوية لتقتنص الرشاوى وتستقوي على العباد باسم القانون.. لكنهم لم

يستلموا الفتاة منه.. لأن قضيتها لا تملأ جيوبهم.. وربما خافوا من الفضيحة.. ولم يخافوا ربهم.. لأن هؤلاء لا رب لهم ولا دين و لا أخلاق..

ولو كان في نفوسفهم ذرة من أخلاق أو ضمير أو إنسانية، لألقوا القبض على هذا الثعلب، وأرسلوا دورية لمعرفة ما وراء هذه الفتاة من محنة وكارثة.. لكنها لا تعنيهم طالما أن قصتها لا تدر على جيوبهم قطعة من أم الخمسمئة أو صندوقين من التفاح الجبلي.. وفي هذه الحالة إذا كان القانون لا يخولهم باستلامها، أليس بإمكانهم اصطحابها مع المجرم والقيام بشيء من التحقيق، أو إعلام القضاء بأمرها!!

عاد الثعلب بالفتاة مشيا على الأقدام وفي الطريق العام التقى به رجل مسيحي صاحب مقهى للخمر والدعارة، وكان بينهما معرفة سابقة، فتصافحا ودار بينهما بعض الحديث ..

 صاحب الخمارة: ابنتك ؟ ما شاء الله!

 المعتوه: ليست ابنتي! بل ابنة خالي..

 صاحب الخمارة: ما قصتها؟ أمريضة؟

 المعتوه: ليست مريضة، بل لها قصة لا أستطيع الآن إخبارك بها!

 صاحب الخمارة: لا يا أحمد أنت صديقي.. أخبرني بقصتها, وأنا أساعدك في حل مشكلتها.
المعتوه: حاولوا الاعتداء على شرفها، فقررت تسليمها لشرطة المخفر، لكنهم لم يستلموها مني.

أدرك هذا الذئب غباء صاحبه، ورأى جمال الفتاة وبساطتها، فجاءت الطريدة إلى الصياد دون بحث أو عناء.. فراح يراوغ ويناور كي يحصل على طريدته دون شبهات..
 صاحب الخمارة: أهذه مشكلة يا أحمد! أعطني الفتاة وأنا أعرف كيف يستلمها مني أوباش المخفر.. لكنني أريد منك خدمة.. أرجو ألا تخذلني !

 المعتوه: اطلب ما شئت باستثناء الفلوس..

 صاحب الخمارة: لا يا أحمد.. أنا آخذ منك فلوسا.. معاذ الله! هل هذه صداقتنا ومعرفتنا؟ سامحك الله!

 المعتوه: ما طلبك إذن يا صديقي؟

 صاحب الخمارة: أريد منك أن تحضر لي بعض الطيانين ( المليسين ) من قريتكم أو من القرى المجاورة

( ودفع إلى جيبه بعض الفلوس )..

 المعتوه: أهذا طلب بمسيحك؟ غدا سيكونون عندك صباحا..

 صاحب الخمارة: والله إنك خير الأصدقاء! وأنت لا تقلق على الفتاة..غدا سترى كيف تحل جميع مشاكلها!

وعاد المعتوه إلى قرية مجاورة يبحث بالفعل عن طيانين، ولم يدرك أن هذا الطلب مناورة لكسب الوقت حتى يحقق المجرم هدفه في استغلال الفتاة والمتاجرة بشرفها، يستمتع بها ثم يعطيها صفقة لرجال شبيحة الأمن، فيحقق من ورائها كسبا ورضا عليه..

وفي صباح اليوم الثاني جاء المعتوه إلى المخفر ليرى الفتاة في رعاية رجال الأمن والأمان.. لكنه فوجئ أن صاحبه لم يسلمها إليهم.. بل سلمها لمن هم أشد حرصا على شرف الوطن والمواطنين..

عندما وصل الخبر إلى القرية جن جنون الشرفاء.. فهبوا للبحث عن صاحب المقهى الذي أخبرهم بأن الفتاة صارت في المنطقة (م.....) فذهبوا للبحث عنها و أخبروا مدير المنطقة بالموضوع.. وتم العثور على الفتاة مغشيا عليها في أحد الأزقة، وقد انتهك شرفها وعرضها..
وانتهت القصة، كما انتهى غيرها من القصص بهذه النهاية في بلاد قمعستان العربية التي تنتهك فيها الأعراض من قبل رجال القمع والإرهاب تحت يافطة حماية أمن الوطن وسلامة المواطن..!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى