الخميس ٣٠ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم ميمون حرش

الأمــيــر الصغـيـــر

زكرياء شاب في ربيعه العشرين، أحب الشعر كثيرا، وآمن بالكلمة التي تهز الشعور بعد أن تفيض بها النفس، فتطرب القلب، وتطهر الروح، ولأكثر من سبب عشق شعر أحمد شوقي عشقا لا يعرف كيف يفسره سوى أنه الشاعر الذي قرأ له كثيرا، وكان خلانه، بسبب هذا الوله، يشيرون إليه كلما التقوا به:

• هو ذا الأمير الصغير قادم، فرحبا بدنيا الشعر.

وزكرياء، حين كان يسمع منهم ذلك، يشعر بانتشاء، ويحس بأنه محبوب، وممدوح، ويُسر لأن إطراء اُصيحابه، حتى ولو انطوى على بعض المبالغة، يثلج صدره، ويملأ نفسه حبورا يمده بزهوٍ هو بحاجة إليه.

مرات عدة، كان يقف زكرياء بكبرياء أمام إصرار أصدقائه، ويرفع يديه بطريقة فيلمية، ثم يُسمع أصحابه بعض ما يحفظه من أبيات شعرية بصوت رقيق يجتهد في أن يجعله مؤثرا، حتى يلهب الأكف بالتصفيق، أما الألسن فتردد دفعة واحدة:

• "أعــــد.. أعــــد.. زكريا، زكريا..أوه، أوه،أوه.."

حينئذ يتمتم ويقول لهم ببراءة:

• ما أجمل أن يكون الإنسان شاعرا يا أولاد..

في البيت- حين تصفو نفسه- يحكي لأمه كيف يحتفي به زملاؤه، لا يذكر لها التفاصيل، لكنه يركز على ترديد الأبيات ذاتها التي أثرت فيهم، وأمه التي تكره اللغة العربية بسبب الإملاء الذي كانت تحصد فيه، وهي طفلة، علامة سيئة تتفهم اندفاعه الشبابي، بيد أن ما يقلقها هو ارتباط الولد المرضي بشاعر بعينه دون غيره.

في غرفته مثلا لا يعلق مثل أقرانه صورا لأبطال رياضة القدم، ولا يتحمس كثيرا لها، وحضوره المحتشم لبعض المباريات في الثانوية حيث يدرس ُيدفع إلى تتبعها دفعا، لا يختلف إلى المقاهي أبدا رغم إغراء أصحابه، يعتبرها أمكنة موبوءة تستقطب مشجعين مهووسين بكرة القدم مشاهدةً لا ممارسة.. هؤلاء بالنسبة له فريقان: الأول يشجع ريال مدريد،والثاني بارشلوني الهوى.. ويوم تنقل شاشات التلفزة هذه المباراة في بث مباشر تعيش المقاهي كرنفالا حقيقيا، ويسهر الشباب الليل كله على إيقاع ضربات كرة القدم تحولهم إلى حيوانات تلفزيونية بامتياز يصرخون، ويصفقون، ويتندر بعضهم على بعض كلما سجل الفريق المحظي لأحدهم هدفا في شباك الخصم، خصمٍ ليس وراء البحار إنما يجلس قبالة أحدهم في ذات المقهى.. مساكين، هم مثل من يشرع مظلته هنا حيث يرتشف شايه الحافي ليقي مطرا يسقط في شبه الجزيرة الأيبيرية.

زكرياء غير مكترث أيضا بنجوم الهيب هوب، ولا بنجوم السينما، ولا بالمسلسلات التركية.. كيف يشرح لهم بأنه ليس من هذا النوع، و بأن نفسه تتوق لرياضة نفسية من نوع آخر لا يعرف كيف يسميها، لكن تنال من شغاف قلبه حين يمارسها بعشق، صحوا كان أو مطرا.

إنه هاوٍ، وعاشق لكن من طينة أخرى، عقد العزم مع كلمات أثيرية تغدو بساطا يركب فوقه في رحلة سماوية تهبه التصالح مع الريح، والموج، والنبتة الخضراء حين يحط على الأرض..

جدران غرفته ملأى بصور أحمد شوقي بشاربه، وبذلته الأميرية، محاطة بأبيات شعرية، بعضها يكتبها بخط يده، وأخرى منتقاة من طابعة حاسوبه الشخصي..كلما جلس أمام شاشته ينقر في محرك "جوجول" عن اسم أحمد شوقي فتنداح أمام عينيه صفحات شتى عن شاعره المفضل فيضيع في منديات شعرية، وحين يسمح لنفسه أن يتيه، كشارد،في غرف الدردشة يختار الولوج في "النت" بلقب الأمير الصغير، ولا يكشف عن اسمه أبدا.. وآخر دردشة في الشات جمعته الصدفة بفتاة اسمها أميرة،أو هكذا قالت له، كانت قد اختارت الحديث معه لمجرد أن اسمه الأمير..

قالت له:

• أنت أمير حقا!؟

• لك أن تجزمي بذلك ما دمت أنت أميرة...

• نحن أبناء عمومة إذن...

(بدأت المراوغة... قال في نفسه).

• إذا كنتِ تحبين الشعر، فنحن كذلك...

• الشعر؟ وما علاقته بالقرابة..؟

( كيف أسمي هذا؟ جهل أم تلكؤ، أم استغباء؟.. )

• الشعر عالم آخر، الكلمات، المعاني.. كلها أمور تغنينا، وتقربنا حتى لو كنا غرباء..

• لا أعرف من الشعر غير ما يغنيه كاظم الساهر و أصالة، وقبلهما عبد الحليم ونجاة الصغيرة...
• وماذا تحفظين مثلا من كل هذا؟..

• أوه..لا تجعلني أشعر أني في مدرسة، اللعنة على الشعــر...

حاول أن يرد لكنها كانت قد غادرت صالة الشات دون سابق إنذار، لو رد لقال لها( بل اللعنة على من لا يعشق الشعر).. وضع يده على صدغه كما في إحدى صور أحمد شوقي( وضعه المفضل للتفكير)، ثم كلم نفسه:

"مسكينة، ما الذي أغضبها؟ ألم يكن من الأريحية أن تودعني قبل أن تغادر،ثم أنا لم أخطيء في حقها، بل هي من أساءت إلي بتصرفها الفج.. واضح أنه لا ذوق لها البتة...، أحدثها عن الشعر و تلعنه كساحرة، ثم هل كفرت حين طلبت منها بعض الأبيات، وهل هناك من لا يحفظ بعضا منها.. لا بد أنها كانت آخر تلميذة في صفها،...بل أنا آخر من يفهم الآن.. كيف أهتم بحوار تافه، ومع فتاة لا أكاد أعرفها..."

لم يوقظه من هواجسه غير رنين هتافه النقال، اشتعلت شاشته الصغيرة، وقرأ الرسالة التالية:

<< لا تتأخر، في انتظارك… >>

الرقم خاص بأخته زكية و الرسالة منها، كان عليه أن يلتقيها قرب المصحة حيث تشتغل ممرضة ليصحبها كما العادة إلى البيت كل مساء، كانت تلك أوامر الأب التي لا تُرفض.. ولكن أميرة في "الشات" أخذت منه كل وقته، ومع ذلك تركته، ولم ينتبه للوقت الذي مر سريعا، ولما حسَب الشقة التي تفصل المصحة عن البيت تأكد بأنه لن يتمكن من تدارك تأخره إلا إذا أخذ سيارة أبيه،ودون حتى أن يغير أن منامته،خرج كسهم..

كان الوقت ليلا، وكان يقود بسرعة ؛ داخل سيارته يبدو من بعيد مثل شبح، رأسه تتمايل مع موسيقى منبعثة من راديو السيارة، و حين غير فجأة تردد موجة الأثير،انداح صوت نجاة الصغيرة المخملي يصدح: " أيظن أني لعبة بيديه؟"..زاد من صوت المذياع، وتذكر أميرة،وحين صفق الجمهور لقفلة نجاة الأخيرة " ما أحلى الرجوع إليه" تذكر أصحابه وهم يصفقون له..( ليس سهلا أن يصفق الناس لأحد.. هذا ما قاله أبوه يوما ).. تنهد من الأعماق، وزاد من زوادة السرعة حتى أنه تجاوز المصحة، ولم يتنبه لأخته وهي تلوح له،تركها كغريبة كما لم يكن هدف خروجه أصلا من أجلها،ولما انتبه للطريق، كان عليه أن يقفل عائدا من طريق أخرى، وهذا ما أخره أكثر..، لم يصل للمشفى إلا بعد أن ضاقت زكية ذرعا من تصرفاته.. توقف عندها أخيرا، فتح الباب، ركبت الأخت، قالت له وقد تقلصت ملامحها دون أن يعرف هل تعاتبه أم تمازحه:

• شاعر بيتنا الصغير، يهيم عشقا بما لست أدري، ويتجاهلني في الطريق وحيدة، وأنا التي انتظرتك منذ مدة..

أضافت بحدة:
• سأخبر بابا..

( كانت تعرف أنها مدللة أبيها، وزكرياء يعرف جيدا، فوق ذلك، أن والده مهيب الجانب، يتحول إلى شخص آخر متى غضب،يتلبسه عفريت الفلسفة فجأة، حتى أن كل النظريات القديمة والمعاصرة، باعتباره مدرس فلسفة،تكون حاضرة لتشهد على الموقف الجلل..)

اعتذر منها،وليصالحها اقترح أن تقود بدلا عنه، وقبل أن يعرف رأيها نط من السيارة بطريقة الممثل أنور وجدي،انحنى على نافذتها، فتح الباب، وانتظر أن تخرج وتغير المقعد، لكنها رفضت بأدب، وتعللت بأنها متعبة، حينها عاد، واضطجع في كرسي السيارة،أمسك بالمقود وهو يمثل دور المخذول، صفق باب السيارة دلالة غضب، وقال محاولا أن يسترق ابتسامة منها:

• حتى ملائكة الرحمة يتعبن، عجيب..

• شاعـر ومشاكس..(ردت وهي تبتسم عنوة).

كان الوقت قد تأخر فعلا،في البيت كان الأب كعادته رفقة زوجه جالسا حول مائدة أنيقة، فوقها صحن أنيق من الفستق، في مواجهة تلفزة من نوع البلازما، العيون محدقة، والآذان مُصغية لأخبار نارية حول ثورة الربيع العربي في قناة الجزيرة..

ألقت زكية التحية، ثم انسحبت من الصالة في وهن واضح، في حين ارتمى زكرياء على كرسي وثير وهو يرمق أمه وأباه عله يقرأ أفكارهما، بادره أبوه بالقول بملامح صلبة:

• أدخلت السيارة في المرآب.؟!

• طبعا بابا..

والأم التي لاحظت امتقاع لون البنت، لم تتبعها إلى غرفتها كما يحصل في الأفلام، كانت تعاني من روماتيزم في قدميها، لذلك اكتفت بأن نادت عليها لتسألها عن حالها، وسبب تعبها البادي..

والأب رغم اندماجه في تفاصيل الأخبار عن الثورة اليمنية، كان منتبها لخطوات زكية ملبية دعوة الأم، يصيخ السمع لتفسير ابنته، وهو لم يكن ليغفل عن تأخر الولدين، وحين نادت الأم عن زكية فهم الإشارة جيدا، قال لها:

• استبد بنا القلق.. هل السبب من القوة بحيث يبرر لكما هذا التأخر..

شرحت البنت بأن مرد ذلك لمريض جديد نزل بالمصحة أمسِ،وهو الذي أخرها اليوم لأن الطبيب المشرف على عيادته اختارها أن ترافقه في مراحل التطبيب الأولى وهو أمر يحتاج لتتبع ومراقبة، والذي لم يكن في الحسبان هو أن المريض سبب في هستيريا في المصحة انتهت بضحك مستمر طوال هذا اليوم..

ثم رشقت زكية شقيقها زكرياء بنظرة فاحصة،وقالت بلا صوت : "هذا فضلا عن تصرف ابنك الأرعن.."

الأب معلقا:

• لم أفهم.. مرض وهستيريا، وضحك.. ما معنى ذلك..

زكية كانت تعني ما تقول تماما، المريض المعني، بالنهار، لا ينبس ببنت شفة غير آهات مترعة من حين لأخر، لكنه بالليل يتحول إلى شخص آخر.. يصرخ دون توقف...

يتساءل الأب:
• كيف؟
• إنه يظل الليل بأكمله يتحدث مع نفسه لغة عربية فصحى، ولا يرد علينا إلا بها،وحين استفسرنا أهله قالوا لنا إنه شاعــــر..

نط زكرياء من مكانه كما لو لدغته كوبرا، وقال:

• شاعر؟..أوه...وفي مصحتكم، ماهي علته زكية؟

تدخلت الأم قائلة:

• بل السؤال هو فيم يزعج المرضى الآخرين إذا كان شاعرا أولا؟

• إنه يصرخ يا ماما وهو يتحدث لغة عربية فصحى..

يكرر الأب السؤال الذي طرحه زكرياء:

• وما هي علته؟

• أكدت التحاليل أنه الزهايمر، بابا.

حين يلتقي مريض الزهايمر بهوس الشعر، تتعقد الأمور، تصبح القضية أشبه بمن يُلقى به في اليم مكتوفا.
زكرياء لم ينم ليله، ظل ساهرا، سادرا ليس في المريض تحديدا، لكن في شاعره المفضل أحمد شوقي، وفي الغد عقد العزم على زيارة المريض في المصحة.

من أجل شاعر مريض، ومن أجل شعره، ولغته حرص الأمير الصغير على رؤيته في اليوم الموالي.. كان لا بد من زيارته والأمر بالنسبة إليه يستحق.( شاعـر يلتقي شاعرا..).

في المصحة، مساء، سأل عن أخته،ليس أمرها ما كان يشغله ما دامت خاصمته، إنما الشاعر الذي يرقد وحيدا، ويتحدث لغة عربية، أخته سمحت له أن يزوره، وبمجرد أن اقترب منه زكرياء و بادره بالقول:

• أهلا عمي، سلامتك..

حتى انطلق المريض في حديث عربي، لكن غير منسجم، حاول أن يفهم منه شيئا دون جدوى،

قال لأخته:

• إنه يهذي..

• بل يقول شعرا..( قالت زكية)..

صراخ المريض الشاعر لم يمهل زكرياء أن يسأله ما يريد، وكل ما فعله أنه رازه بعينين تائهتين، ولما زاد صراخه لم يتحمل، أحس برغبة في القيء.. ثم خرج من المصحة مسرعا وهو يقول: "يا إلهي، أتكون هذه نهاية كل الشعراء؟"

وظل بقية اليوم قلقا فعلا، لم يتوقف عن طرح الأسئلة على أمه،ولم يسعفه أحد غير أبيه حين هدأ من روعه، وإن كان شغله بكلام فلسفي كبير يتخطى عمره ربما حين قال له:

• الشعر، يا ولدي، انطلاق في الصفاء، وهذيان في النهايات..

لم يفهم شيئا، وكان عليه أن يفهم معنى هذا الصفاء، وهذا الهذيان، وأهم من هذا كان لا بد من الجواب عن سؤال أرقه هو " هل كان شوقي يهذي شعرا.. وكيف كانت نهايته..

كان حاسوبه منقذه في مثل حالته، تجاهل الشات تلك الليلة، ونقر في" جوجول" وظل جزء من الليل يبحث عن الصفاء، والهذيان في شعر أحمد شوقي...

أحس بيده تتنمل، والكلمات تتراقص أمام عينيه،غلبه النعاس،ثم غرق في نوم عميق، لكنه ظل بقية الليل يهذي..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى