الثلاثاء ٥ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم ماماس

قراءة في قصة «غرفة»

كلُّ إنسانٍ يحملُ في داخله غرفة. هذه الحقيقة يستطيعُ المرءُ التأكدَ منها عندَ إصاخته السَّمعَ. فعندما يسيرُ أحدهم بسرعةٍ ويُصيخُ السمعَ بدقةٍ، في الليلِ مثلاً، عندما يكونُ كلُّ شيءٍ حولنا صامتاً، فإنَّ المرءَ سيسمعُ مثلاً، خشخشةَ مِرآةِ حائطٍ ليست مُثبتةً بشكلٍ جيد

كافكا

وأنت تمارس أحلامك

ستراهم

يحملون مصابح الغاز والمعاول

ويلهون داخلك كقاطعي طريق

ستكون الغرفة مرتبكة

من ضوء مصباحها الفقير

الذي سيحيلها إلى لوحة مرة

جرجس شكري

هذه المقدمة تقودنا إلى شيء من هذه المعاناة، ملمح مرتبك يولده الإقصاء ويحيله إلى وجع داخلي يتفتت بعوامل الرطوبة المفرطة والمكان كدلالة فنية يجسد هذا الشحوب الذي تترجمه ملامح الإغتراب

أول شيء يواجه القارئ في أي عمل أدبي هو العنوان بدلالته السميائية، فالهدف الإبداعي للعنوان يكون ركنا من أركان العمل الأدبي، وفي قصة غرفة للكاتب والشاعر محمد اللغافي نجد العنوان غير معرف (نكرة)وهنا نقف عند دلالة لغوية تؤثث للنص كهدف للفكرة الرئيسية، و تأتي إشارة كافكا وجرجس بليغة فكل إنسان يحمل في داخله غرفة شاحبة بلا ضوء كدلالة موحشة للإغتراب الإنساني، تجسيدا للزمن وتعبيرا عن ملامحه الداخلية المنهارة..

الزمن جوهر المعاناة الإنسانية و مأساته المتكررة، الزمن الذي يأكل أبناءه دون أن يستخلص الأبناء حكمة أبيهم من هذه النهاية المأساوية، و دون أن يمنحهم الإجابة الخالصة لمعاناتهم الوجودية لحضورهم وغيابهم ضمن هذه الجملة المعقدة من الكون، فالمكان والإنسان ما هم إلاّ تفسيرات جسدية للزمن، الزمن كإله قاهر يلتهم الأحلام والإنسان في دائرة مفرغة، ليزج بالروح في انفعالات وشرور تزداد ضراوة كلما اشتد الحصار، لتأخذ الصورة تشكيلها الحاد لعدم الجدوى عبر التاريخ الوجودي لنستشف الحقيقة الوحيدة هي أننا نأتي بألم ونحيا بألم ثم نرحل بألم أيضا دون أن نحظى بالإجابة الشافية لجدوى الألم، وهذه إدانة ظهرت جليا في كل الإبداعات العميقة.

في قصة غرفة للكاتب والشاعر المغربي محمد اللغافي ، تأتي الإدانة واضحة للزمن من خلال غرفة نكرة، الغرفة كدلالة لغوية هي الحلم بصيغة غير معرفة لتجمع بين دلالات رمزية ومكانية وزمانية، فهي الفضاء الذي يقاسمنا جرحنا و الزمن المهترئ فينا كجزء من هذه الدلالة، يسكن داخلنا يأكلنا وينتهك ملامحنا ويستنزف بريق صورتنا المبنية على فعل منسي ومتراكم داخل وجع وجودي، تتفاقم فيه الآلام والعناء ، فمن خلال عنوان القصة نستشف ملمحا لسلطة المكان كجسد زمني يظهر من خلاله القهر والتجاهل والخيبة التي تنامت داخل نفسية البطل، والبطل هنا يمثل شريحة كبيرة من المهمشين الذين عاشوا على قوت أحلامهم ليفيقوا في النهاية على واقع مرير وباهت وموات أكل أيامهم وأحلامهم البسيطة بلا رحمة.

القصة تتحدث عن بطل من خلال بعد وجودي والحدث عبارة عن لحظة من لحظات تأملاته من خلال حالة من الإحباط، حينما يكتشف ملامح حياته الهزيلة ومن خلال الغرفة يؤثت السارد كصوت وضمير لمعاناة هذا البطل بلغة سلسة وبسيطة لكنها بليغة بلاغة الجرح.

شخصية من زمن منهك وحاضر قاتم وبالنهاية يكون المستقبل قد رسم نفسه وغرفة شاحبة من خلالها كبعد حاد نستشف مأساة الكائن وملامح منكسرة داخلها بطل من هذا العصر يعيش لحظات موته المعلن مسبقا، وأزمته التي تأسست منذ بدأ الاغتراب الإنساني يؤسس رموزه ويعلن موت العلاقة بين الروح والجسد، بطل تصبح أحلامه مجرد غرفة ينهشها الاغتراب والنسيان، غرفة تتناثرت فيها تفاصيل الأمنيات التي رحلت في غفلة منه دون أن تلمس وجهها الذي كان يتدفق حرارة وحيوية، حيث أن الأزمة أزمة إنسانية و الصورة الفنية توظف هذا لإيصال المعاناة البطل.

"ما دخن مند أن استيقظ

تقريبا اثنا عشر عقبا في خلال نصف ساعة فقط. لم ينتبه إلى جمرة استغفلته.

وسقطت على المخدة التي كان يتوسدها،لقد أحدثت ثقبا ..وتركت رائحة لم تبرح المكان "

الرائحة هنا لحظات جرح لا تبرح ليأكد لنا السارد مدى الأزمة الحقيقية للبطل، كفعل يعزز حجم هذا الشرود والإنهيار ومن أهم الطقوس التي تحاول أن تعبر كرمز لمدى الحرقة التي تعصف بالبطل.وعلى لسان السارد نجد البطل يحدد ألمه الوجودي في هذا المقطع:

"كل شيء بالنسبة إليه يسير وفق مخطط يعاكس أمنياته

في وقت ما كان نظيفا ..هو ما زال كذالك داخليا ..أعني قلبه..رغم أن معطفه البني

أصبح داكنا كفراشه الذي لا يهتم به أحد.

هو غير نادم على عزلته الاختيارية واغترابه الإجباري..، بوضوح تام..كل أحلامه

تبخرت ..لم يعد يهتم بالأيام ..وتخامره فقط بعض أسئلة استفزازية..لماذا هو كائن ؟؟؟

وما دور كينونته في الحياة؟؟."
و كما نرى المعاناة الوجودية بأسئلتها التي لا تقدم تبريرا منطقيا في الغالب، فهي نتيجة طبيعية لزمن مغرور يأتي بأبنائه ليلتهمهم ويرميهم منهكين مستسلمين، وهذه نهاية ميتافيزقية لا تقدم جوابا للعقل لكنها حتمية ضرورية يتعامل معها الكاتب بحذر شديد من خلال إيحاءات لغوية.

ثم ينقلنا السارد للجو المحيط والذي يشكل اللبنة الأساسية في إيصال هذا القهر من خلال الوصف لفضاء الغرفة الذي يعبر عن الإقصاء والتهميش.

"لأن النافذتين مغلقتين ..رغم اهترائهما فلا تستطيعان إدخال الهواء

،..حتى الصورة المعلقة بينهما اختفت ملامحها في غبار السنين التي مرت عليها. لم تعد تشبهه الصورة رغم تنظيفها،..الصورة وسيمة ببسمة الشباب المرسومة على محياها ..وأناقة معطفها وربطة العنق ..لم يعد يلتفت إليها مند زمن بعيد..لأن وجهه تآكل وغادرته البشاشة،
ملامح نتلمس بشفافية من خلالها معاناة البطل و بعض ملامح المكان كجزء من زمن يقتل ببشاعة كل شيء جميل، والمكان هنا جزء من الحدث الذي يؤطر للجانب الحاد والقاتم للشخصية كبعد إنساني واجتماعي مهمش، حيث يأتي وصفا قاتما بقتامة الواقع وهنا الواقع الاقتصادي جزء كبير من المعاناة في غياب العدالة الإجتماعية، حيث أن الأدوات التي تحوي عليها الغرفة تؤكد لنا هذا الواقع وتؤكد مدى الانكسار الذي وصل إليه البطل لعدة أسباب تحول دون تحقيق مطمح الحياة الكريمة ومنها الإنسانية والاجتماعية التي تمنح الفرد بعده الإنساني والوجودي.

انحنى ليفتح قفل الباب ، ..فوقعت من جيب معطفه محفظة وثائقه الصغيرة

ليس فيها شيئا مهما..فقط .. بطاقة تعريف وطنية استوفت أجلها مند خمسة عشر سنة

مرقون عليها ..

الإسم العائلي.. بشوش

الإسم الشخصي .. سعيد

المهنة.. أستاذ)

في النهاية ما نفع بطاقة الهوية التي تدرج اسمه في قائمة المواطنين، وهو المنسي رغم دوره العظيم في المجتمع كأستاذ ومربي ، ثم إذا كان مربيا ما نفع ذلك وهو المتراكم في غرفة قذرة يملؤها الغبار والنسيان، وهذه إحالة إيحائية لتصوير مدى التهميش الذي يطال بطل قصتنا و يظهر من خلال اسم البطل ومهنته، إن الصورة الحقيقية للمواطن شيء يبعث على الألم، والسارد في هذه يختار شخصية تربوية دورها حساس في المجتمع وتعيش في ظل هذا الإحباط الكبير وهي شخصية معنية أيضا ببناء الأجيال وبدورها الإنساني والاجتماعي والتربوي، ثم والحالة هذه كيف لنا أن نصف أثر هذه الشخصية على المسار المنوط بها، وهذا الجانب مهم في تكوين شخصية المواطن النفسية فالأستاذ المحبط أكيد سيؤثر ذلك على رسالته كتربوي، فإذا أي نتيجة يؤشر لها الكاتب بطريقة رمزية تقودنا لهذه المكونات التي ينتجها مثل هكذا واقع؟ في زمن يدعي حقوق الإنسان ويؤشر على مدى الوعي السياسي بدور الفرد في بناء مجتمعه كي لا يقع المواطن فريسة إحباطات تنقع طموحه في ركن النسيان ؟

"صوت ما هذه المرة يتوغل بين أذنيه..الصوت ليس غريبا ..يبدو مألوفا ..ولكن ليس الآن..

هذا الصوت غاب عنه مند عشرين سنة تقريبا..الصوت قادم من الخارج رفقة معية مجهولة..

فاهتزت فرائصه وتسارعت دقات قلبه مع دقات الباب .

هرول جهة الصوت..انحنى..فتح القفل ..سحب الباب وراء ..

لم يكن هناك صوت

ولا يد تدق.."

هنا يضعنا الكاتب ضمن التفاصيل الصغيرة التي تحيك الدلالات العميقة لمعاناة البطل، فالبطل يعيش حالة من الإقصاء الكبير تحتد كلما تفاقم زمن الوحدة بين جسد هذا المكان العفن، هنا نقف منحازين تعاطفا مع هذا الألم العميق الذي حاول الكاتب إيصاله لنا في صورة فنية وإنسانية لمعاناة البطل ، هذا عناء آخر أن يجد البطل نفسه فريسة الوحدة والتهميش، فالشحوب الداخلي وغرفة شاحبة ونكرة أيضا في زمن هش، هذا يؤكد أن الإنسان هو الزمن نفسه فالغرفة والإنسان هذه الثنائية للزمن الغائب يتحول إلى غول يلتهم خلاياه وهي حالة من حالات التدمير و الصراع الداخلي للوجود، وللخروج من هذه العزلة ينهي الكاتب قصته بالطرق على الباب كهدف إيجابي، إن الفرد والوعي العام هما الوسيلة الوحيدة للخروج من الإقصاء، والخروج من أزمة الفرد لأزمة الجماعة، فالاستسلام ما هو إلا إشارة سلبية في هذا النص، بهذه الإشارة ينتهي المتن رغم الشحوب الذي جاء به من خلال الدلالات اللغوية والسيميائية ليقدم لنا هدفا إبداعيا يقدم فيه الكاتب رؤيته للإقصاء الذي يدمر أفراد المجتمع دون أن يقدم الدعم الإنساني لأفراده، وهنا نجد أن الفعل يكون في متناول أفراده هم الوسيلة الوحيدة لخروج من أزمة الفرد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى