الأحد ١٧ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم رافي مصالحة

في الانتظار

سئمت الانتظار، ولم يأتوا بعد .... !!

مضت أسابيعٌ وأنا أحلمُ بزيارة الأبناء كي تنطويَ صفحةُ الحسرةِ في وحدتي القابعة بين جدران بيتي الصارخة بالتعاسة. ولم يأتوا بعد....!!

ُتقتُ لِملْءِ فضائي بلحظات فرحٍ مسروقةٍ أملأ بها قلبي وجيوبي وأدراج ثلاجتي، عندما أداعبُ الأحفاد وأغرقهم بأكاذيبي الرقيقة وحكاياتي التي ينقصها أي رابط مع الواقع. تشوّقت إلى بسمات أبنائي المصطنعة إزاء وجوه متجهمة من زوجات يجتهدن في خلق الذرائع للفرار من زيارتي المقيتة... لكنهم لم يأتوا بعد.... !!

كانت تمضي اللحظة تلو الأخرى، وأنا متكئ على مقعدي البائس أبوح إلى اشباح العدم بلواعجي وآلامي وحفنة من أوهامي الذابلة، ولا يزال قلبي يتعلق بأهداب اللقاء دون ان يكترث بالزمان أو المكان....

كانت نسائم الخريف تداعب أعماقي وتمس شغاف القلب بلمسة رمادية محببة، وتبث الحياة في ذكريات هجعت منذ دهور. لا زلت أذكر طفولة كل واحد منهم. وأذكر أيضاً يوم فارقتني "حمامتي الرائعه". هكذا اعتدت أن أناديها. حشدت كل عزيمة كي أتناسى مأساتي، وفشلت. كل ركن في المنزل يسرد حكاية فراشتي الوادعة التي جعلت من كل فصولي ربيعا يتلوه ربيع، ونثرت على الأسرة عبق الأمومة الحانية. ما انفكت آذاني تتلمس نغمات همساتها تنبعث من جنبات مهجعي فتطربني وتحييني.

لا أدري كيف تحيا ذاكرة راكدة اجتهدت أن أفقدها في مهب كل ريح خريفية تائهة, فتتعرى أمام ناظريّ حقائقُ اصطنعتُ نسيانها فما تفتأ تنهمر كعبرات دافئة من أحداق هتون، تمسح غبار السنين عن همومٍ موؤودةٍ باتت طيّ النسيان، فتستفيق على إثرها جذوات من الشجن ثم تذروها معاول الزمن الحجري في فضاءات الغيب بعيدا بعيدا، وفي الهزيع الأخير من العتمة القاتمة تهدأ الأوجاع كي يجلو للعين غيضٌ من العزاء المُترعِ السّواد. عزاءٌ أجوف في جناحِي الذي انكسر فما عدتُ من ساعتها أقوى على التّحليق في فضاءاتي الرّحيبة.

شرع الوقتُ يتثاءب والساعة المنسية المصلوبة الى الحائط الجازع تدقّ إيقاع معول حفار القبور العاكف على دفن النهار في لحد الزمان المحتضر. ولم يأتوا بعد...

كانت كتائب الصّمتِ تغزو الليلَ فتلجأ العصافيرُ عند الغروبِ لتحتميَ في ثنايا الأفق بين شظايا الشّمس الدامية، وغيماتٌ قانية الحمرة تتناثر كالقش على بيادر من الأحلام الأرجُوانية.

أيقنتُ أنّ الانتظار غير ذي جدوىً. لجأتُ إلى فراشي بعد أن تبخّر الأملُ بقدومهم, وجيوبي فارغة من الفرح ومن ضحكاتِ أحفادي اللذين لم يأتوا. وفي ليلي المؤرّق، لم يفتح النعاسُ توابيتهُ ولا أقام طقوس جنائزِهِ المستحيلة في عينيّ المنهكتين الفائضتين بالتعاسة.

جَنّ اللّيلُ, فرضختُ للظلمةِ, وبكيتُ بصمتٍ، كالأطفال...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى