الأربعاء ٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
بقلم فاتحة درابني

كتاب العجيب

" أبي, أبي هل أستطيع أن أ تفحص كتبك الكبيرة؟ إنها تبدو ضخمة جدا، أتعلم يا أبي أني أحيانا أغير من هذه الكتب

كيف ذلك يا بني؟

إنها تأخذ منك كل الوقت

 نعم يا بني فهذه الكتب رفيقتي منذ الصغر

 عندما كنت في سنك كنت أقرا كثيرا، فكان الكتاب صديقي الوفي، وأنت يا بني إن أردت أن تصادق أحدا فعليك بالكتاب، فهو أفضل جليس في كل زمان و مكان.

لكنني لا أحب هذه الكتب، ثم بدأ يتصفح أوراقها مقطب الحاجبين وهو يقول:

 سطور ضيقة، أورق كثيرة، ليست بها ألوان و لا حتى صور، لست أفهم كيف تصادقها....

 أنت محق، الكتب تختلف، لكن الألوان والصور نصنعها نحن مثلما نصنع أحلامنا،أم أنك لا تحلم؟

 بلا يا أبي أحلم بأشياء كثيرة ومختلفة...، وأنت يا أبي آلا تحلم؟

 بالطبع يا بني أحلم كثيرا، أحلم بطيور الحرية قد حلقت فوق أشجار الزيتون، بالعودة إلى أرض أبائي و أجدادي، لكن لست أدري هل سأعود يوما أم سيدركني الموت هنا.

 أنا أيضا يا أبي أحلم بالعودة إلى غزة، فأرسم صورا جميلة في بيت جدي، أزور صديقتي رندا... هناك أشياء كثيرة أريد القيام بها.

 أرأيت يا بني كيف نحلم...

نظر سامي إلى والده الذي انشغل عنه بصفحات كتابه وهو يقول:

 أبي دعني أتصفح كتابك القديم انه يشبه في تجاعيده باب بيت جدي ، أنا أشتاق إليه كثيرا متى سنعود يا أبي؟؟

 صمت الأب وهو يفكر دون أن ينبش ببنت شفة، ثم خرج وكأنه أصابه خطب ما، بينما كان سامي يقلب في الصفحات باحثا عن الصور الجميلة، فأصابه الملل فرمى بالكتاب وهو يقول:

 أنا لا أحب هذه الكتب، لا أحبها سأذهب لألعب مع مروان، لكنه فجأة سمع صوتا غريب وهو ينوح في صمت، فالتفت يمينا وشمال دون أن يجد أحدا وقد غمرت وجهه دهشة غريبة بعدما وقعت عيناه على الكتاب وقد أفلتت أوراقه متناثرة...

 عجبا...، أ تبكي؟

 نعم، ولما لا أبكي! رميتني مثل كومة قش، ألا تعلم تاريخي العظيم أيها الولد الصغير؟
تعجب سامي وقد قطب حاجبيه في استغراب:

 تاريخك، أخبرني عنه ولو كان عظيما كما تقول، فسأصلح غلافك وأورقك ولن أهين كتابا بعد اليوم.

 أيها الطفل الصغير، أنا جرح كبير ابتدأ مند سنة 1948، حيث قامت العصابات الصهيونية بتدمير العديد من المكتبات التي كانت بالمدن ،فتشردت عن عائلتي و أصدقائي، انتقلت من مسكني الفسيح إلى مسكن ضيق بإحدى المكاتب الصغيرة، وقد شهدت ما شهدت من اغتيال جماعي للكتب .

أتعرف يا سامي لقد شهدت أوراق أمي وهي تبعثر أمامي، بينما أبي يساق ظلما للمحارق الصهيونية، شهدت كثير من الكتب وهي تمزق وتحرق، كانت صورا مؤلمة لم أستطيع أن أمحوها من ذاكراتي، أفلتت من كل ذلك، التقيت ببعض كتب، حكيت لها حكايتي، فبكت... حتى الباب سمعت صوته وهو ينوح بصمت، كانت أحداث مفزعة ما تزال محفورة بذاكراتي كلما أخذني حنين العودة إلى مسقط رأسي .

صمت قليلا ثم أثم قائلا:

 أمضيت في المكتبة الجديدة بضع سنوات قبل أن يهديني صاحبها إلى والدك، الذي لو كان يعلم أنك ستهينني لفكرا كثيرا قبل أن يهديه الكتاب.

بكى سامي وقد حمل الكتاب بين يديه وهو يجمع أورقه ويقول:

 إني اعتذر منك وهذه يدي لتصافحك، فأنت منذ اليوم صديقي، أعدك أنني لن أهين كتابا بعد اليوم،

 قبلت صداقتك أيها الولد المشاكس، فلنكن أصدقاء لكن...، صمت الكتاب وهو يحدق في سامي الذي أطرق قائلا:

لكن ماذا...؟

الحقيقة أن لا أحد يعلم بسري وأرجو أن تكتم الحديث الذي دار بيننا
أتعني آلا أخبر أحدا...

 نعم، فالصدمة التي تعرضت لها عائلتي جعلتني أتكلم، وأخاف أن يكتشف أحدهم هذه الحقيقة...

فهمت...، بدأ يقلب في صفحاته وهو يقول :

 عجيب...

ما هو العجيب؟

أمرك أيها الكتاب...، أتعني أن الكتب تتعرض مثلنا لصدمات، أتذكر أن جداتي أمضت سنوات لا تتكلم، سمعت أبي يقول لعمتي إنها مصابة بصدمة

أ كانت جدتك صامتة طوال الوقت؟

 نعم لقد ظلت لا تتكلم ولا تتحرك لشهور طويلة، انه لا أمر عجيب، انك تتكلم بسبب الصدمة وجداتي لا تتكلم بسبب الصدمة أيضا

دخل والد سامي فوجد ابنه يمسك الكتاب بلطف وهو يدير صفحاته، ابتسم وهو يقول:

 أحب هذا الكتاب وكنت أعلم انك ستحبه أيضا، أ ليس كذلك؟

فأجاب سامي:

 لقد أحببته كثيرا ولو أنه بدون صور و لا ألوان، " قالها وقد تلعثم لسانه"

أراد سامي إخبار والده بالسر فتذكر الوعد الذي قطعه، فقال في نفسه:

" لن أخبرك يا أبي لقد وعدته "

ابتسم الأب وهو يقول:

ممتاز...

 نعم، تعلمت من هذا الكتاب أشياء كثيرة جعلتني أقدر قيمة الكتب وأصادقها، بل وأقدر قيمة الأشياء من حولنا.

ضحك الأب متعجبا من أمر ابنه، وسعد بتلك الصداقة التي بدت وكأنها بداية جميلة لتغرغر سامي لعالم الكتاب وازداد سروره مع الأيام عندما شاهد اهتمامه بالمكتبة وحرصه الدائم على قراءة الكتب والاعتناء بها، كما لاحظ أثار الكتاب على سلوكه دون أن يفطن إلى السر وراء ذلك التغير .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى