السبت ١٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
بقلم محمود سعيد

شؤون وشجون موصليّة

كيف سيكون منظر مدينة تفارقها عدّة عقود؟

المدخل:

أجرت مجلّة العربي في السّتينات جولة مصوّرة «ريبورتاج» عن محلة الزهور في الموصل، وكانت تلك المرّة الأولى التي تصور حيّاً من أحيائها بصور ملوّنة، كنت آنذاك في المغرب «المحمديّة»، وجاء صديق بالعدد من الدّار البيضاء وسألني أمام مجموعة من الزّملاء: «لماذا تغادورن الفردوس؟» وحينما أرانا الصّور ذهل الجميع، مازلت أتذكر أحدهم يهتف بصوت عالٍ: هذه فلل المليونيرات في باريس، يعيش الباريسيون العاديّون في شقق بينما يقطن الأغنياء في فلل. هل عندكم كثير منهم؟ فأجاب آخر: بالتأكيد. العراق بلد نفطيّ. ضحكت: إنها بيوت عامة الناس، معلم، قصاب، ضابط، بزاز، موظف، كاسب، ليس فيهم مليونير واحد.

أتذكر تلك اللحظات دائماً بعد رجوعي من المغرب، آنذاك كانت الموصل تتطور ببطء، ولو قدّر لها أن تحظى بمدير بلدية ومحافظ يحباّنها لأصبحت إحدى أجمل مدن العالم.

آنذاك كانت مشكلة الموصل الرّئيسة هي المجاري والتّنظيف وأشياء أخرى تعدّ على الأصابع، ولو عولجت المشاكل بوقتها لأصبحت الموصل إحدى أجمل مدن العالم من دون مبالغة.

أرض الموصل صخريّة في الأعمّ، وهذا يعني أنّ مياه الصّرف لا تتسرّب كما في باقي مدن العراق كالبصرة والعمارة والنّاصرية وو، فيمتلئ خزان الفضلات بسرعة، ولا تتوافر البلدية على سيارات تنظيف كافية، ولا يمكن، لأنّها تكلّف كثيراً، لذا لجأت المدن في البلدان المتطورة إلى بناء مجارٍ تحت الأرض.

هناك مقاييس عالميّة لمستوى المدينة تفرض توافر المجاري كشرط أوّل للمدينة الحديثة فمهما تطوّرت المدينة تبقى قرية إن لا يوجد فيها مجاري.

التقيت في سنة 1980 في سجن الموصل مهندساً في البلدية، وكنت موقوفاً لأسباب سياسيّة، وجِيء به تعسّفا هو والمئات من أمثاله لأنّ سيّارته فقدت إحدى رقميها، قال لي بعد أن انتقدتُ بلديّة الموصل ومحافظتها لأغفالهم المجاري، قال لي بالحرف الواحد: فاتح المحافظ صدام حسين ستّ مرات حول المجاري، وكان صدّام يردّه كلّ مرّة: الموصل لا تحتاج مجارٍ، طبعاً صدام حسين على حقّ كأي ديكتاتور بليد لا ينطق عن الهوى، فما بال أبطال الحرية، بيادق الديمقراطية الأمريكان؟

الموصل الآن:

قبل أن أصل الموصل كان عندي انطباع أنّ الموصل كانت وستبقى جميلة رغم كلّ شيء، لكن ماذا رأيت؟

ما إن انتهت حدود أربيل، وبدأت أصقاع الموصل حتى انقبض قلبي. ما أراه الآن أمامي طريق يؤدي إلى قرية في الكونغو أو موزمبيق، أو طريق يقود إلى آثار قرية كانت موجودة قبل التّاريخ ثم دمرتها الحروب وتحتاج إلى تنقيب.

الأوساخ على جانبي الطريق، الصخور، الحجارة، كوم الّتراب، الأشواك، أكياس النّايلون، ركام البلاستيك المعطوب مسلوقاً بأشعة الشمس، الكونكريت المكسر مع حديده، بقايا أبنية قديمة، أنقاض دور طالها الخراب، أيّ بداية تخزق العين وتقبض القلب وتُعطِب النّفْس وتقطع النّفَس؟ لا أشجار، لا نبات، لا خضرة، لا زهور، لا شيء يجعلك تحسّ أنّك وما حولك موجود في القرن الواحد والعشرين، كلّ شيئ يرجعك مرغماً إلى ما قبل مئات السّنين. أهذه هي بداية المدينة التي أشاد بها مصور مجلّة العربي؟ أهذه هي إحدى أقدم وأهمّ مدن العالم القديم التي مازالت مأهولة؟

كيف يحترم زائر، سائح، مستثمر مدينة تستقبله بطريق قذر، وتراب يهبّ عند كل قبضة ريح، وأنقاض مسخّمة، وزبالة وأقذار تبدأ ولا تنتهي! بينما خلّف وراءه بضعة شوارع نظيفة مرّ بها حين غادر أربيل؟ لماذا انقلبت الآية؟ لماذا أصبح الجميل قبيحاً، والمتخلّف مقبولاً؟ لماذا يتقبّل أهل الموصل القبح والقذارة والانحطاط؟ ألا يوجد من يتكلّم وينتقد؟

ثمّ ما قصّة السّيطرات المتعاقبة، فما تنتهِ من سيطرة وقحة حتى تصفعك من دون حياء أختها بوقاحة أشدّ منها؟ وما أن تخلف ملامح عبوسة متجهّمة يقطر منها الغضب والسّخط واللؤم والحقد حتى يتناولك ألأم وأعدى وأكثر تجبراً وانحطاطاً! وما قصة التّحقيقات العدوانية المتعسّفة السّاخطة التي تجريها القوات التابعة للقيادة الكردية قبل حدود الموصل، والتي تذكّرني مرغماً بتحقيقات البعث المقبور، وإن كانت تلك على قذارتها أسلس وأهون وأسلم؟ ولماذا تصرّ مفارز القيادة الكرديّة باستجواب ما أنزل الله به من سلطان، تصرّ أن لا تسمع منك حين تضغط عليك أن لا تتكلّم إلا بالكرديّة أو الإنكليزيّة؟ أهناك بلد يميّز بين لغات سكانه؟ أهناك بلد يهين لغة الأكثريّة ويفضّل لغة إحتلال مقزّز بغيض؟ في أيّ مستنقع قذارة أسقطنا أنفسنا فيه؟ أيعلم المسؤولون الكرام أن التّمييز جريمة تعاقب عليها قوانين الأمم المتحدة! وأن لا سلطة أو شبه سلطة يحقّ لها ممارسة التّمييز علانيّة؟ إن أصرّوا على التّمييز، فلماذا يحقّقون مع المواطنين العرب وحدهم، ولماذا لا يسري التّحقيق على جميع الدّاخلين إلى الموصل؟ وما غاية الإجراءات المتعسّفة والتّأخير المتعمّد؟ ولماذا الحقد؟ أهناك دولتان؟ متى يدرك هذا النّفر المتغطرس أن عمله لاإنساني وغير حضاري وبعيد عن مبادئ الحرية والعدالة! متى يتخلّى عن تكبّره الزّائف وتباهيه المتدني واستفزازه الحاقد؟

إن الجنديّ الذي حقّق معنا قبل دخول الموصل ليس جنديّاً عاديّاً، إنّه فيلد مارشال أسقطته ذاكرتنا، هو البطل العظيم الذي فكّ الحصار عن ستالينكراد، إنّه آيزنهاور، القائد الأعلى للحلفاء في الحرب العالمية الثانية، الذي قاد الحلفاء إلى النّصر في معركة دانكرد، هو الماريشال واشنطن الذي حرّر الولايات المتحدة، هو منتجمري الذي دحر قوات المحور وهزم جيش رومل في شمال إفريقيا، إنّه الشاذلي العظيم الذي حقّق عبور القناة في حرب 1973، لا بل أنّه صدام حسين عاد إلى الحياة.

نظرات هذا الماريشال حادّة، حاقدة. وجهه عبوس متجهّم. تقاطيعه غاضبة معادية.
لماذا هذا الإذلال؟ وهل هذا وحده؟ لا، تتعاقب السّيطرات على الطّريق كما تعاقبت من قبل هجمات التّحالف على العراق، سيطرة تعقب أخرى، ولعنة تتلوها لعنة، وتفتيش مهين يقود إلى آخر؟ المفتشون كلّم سواء أكانوا أكراداً أم عرباً، لكنّ الفرق بين العربيّ والكرديّ شيء واحد وهو أن العربيّ يسمع العربيّة ولا يتقزّز. وتلك نعمة غير محسوبة.

تسير السيّارة في أربيل على حريّتها لا يوقفها أحد، تسير كما تسير في أيّ مدينة أخرى في العالم، لكنّها هنا تتلكّأ منبوذة كأنّها سيّارة مجرمين؟ ألا يوجد من يدافع عن كرامة سكان الموصل؟ عن كرامة هذه المدينة؟ أين محافظها؟ أين مجلسها البلدي؟ ماذا يفعل 34 نائباً موصليّاً؟ أين السّنتهم؟ أين ضمائرهم؟ أين إنسانيتهم؟ ما واجبهم؟ كيف أسرعوا لنجدة شيعة البحرين وأهدوها خمسة ملايين دولار، وتركوا مدينتهم بين فكي ضباع شرسة وكلاب مسعورة وحيوانات مفترسة؟ قليل من الحياء، لا بل قليل من الوطنية.

الموصل العتيقة:

طيلة عقود الغربة كنت أحلم أن أسير في دروب "عوجات" المدينة العتيقة، باب جديد، الثلمي، شيخ محمد، شارع الفاروق، الدواسة، باب الطوب، الميدان، الخ. وهكذا بكّرت في أول صباح لي في الموصل، رغم الحرّ، نزلت إلى سوق العتمي، وقيسرية السّبع أبواب، وباب الطوب، وتجوّلت في الدّواسة، وباب الجديد، وذهبت إلى زقاق "عوجة" بيتنا، ودققت الباب، وكان في نيتي أن أرى الحوش من الدّاخل، وكنت حفرت كلمة بخطّ الرّقعة على الرّخام الأبيض، وحلمت بأن أراها، لكن لم يوجد أحد في البيت. ذهبت إلى البيت الآخر الذي سكناه قبل هذا، فلم يرضّ قاطنه أن أدخل وأراه. وكان هناك ضجة كبيرة في الدّاخل، أطفال ونساء وأصوات شباب. عذرتهم.

حمام باب جديد مازال في مكانه، وما تغير فيه سوى الكرخان "المشعل" فقط. لم أجد عزيز ماكر، كان مكلّفاً بإشعال النّار في الفحم. كان مجنوناً، يتكلّم مع نفسه طوال الوقت، تاركاً شعر رأسه ولحيته ينمو من دون تشذيب. قدّرت أنّه لابدّ انتقل إلى رحمة الله، فلو كان عائشاً لبلغ التّسعين أو المئة.

باب جديد أصبح باب الخراب والدّمار، لم أستطع أن أنظر إلى مقهاه الرائعة التي لم يبقِ منها سوى أنقاض، كتبت قصّة عنها، نشرتها في الخارج، وربما أعود لنشرها في العراق إن سمح لي بالنّشر في وطني، هنا كان الحاج طه ملك يبيع البقلاوة في رمضان، وتلك دكان حمو البقال الذي نشتري منه اللبن والقيمر والطّحينية للرّيوق صباحاً. أمكنة عزيزة تدهورت وفقدت أهلها، يا للبؤس! هذا هو جامع الشّيخ محمد، لم ندخله، يفتح وقت الصّلاة فقط. كانت الجوامع قبل نصف قرن مفتوحة طيلة اليوم. فما بالها تغلق الآن؟ كانت بؤر السّلام، وفقدت المدينة السّلام فانغلقت على نفسها مع جوامعها.

ذهبت إلى عوجة بيت الرّضواني، وجامع الرّضواني ومشيت حتى قنطرة شهرسوق، كنت أود أن أعبرها، حتى هي وصلتها يد الخراب، هي الآن مليئة بالأسلاك الشائكة والنّفايات والجيفة. حذروني من الاقتراب منها: إن كلاباً ضالّة اعتادت أن تأوي إليها. قلت لهم إنّ الكلاب المسعورة تحتلّ الموصل كلّها فلا بأس بكلب ضال غير مسعور. اقتربت من القنطرة، لم أرَ أيّ كلب. حدّقت ببيت الحسو. رأيته مهدوماً يعصر القلب، رأيت ملابس منشورة في الجزء المهدوم منه، علمت أنه مازال مسكوناً.

الكهرباء:

مأساة الكهرباء في الموصل تجلّل وتغطي الرؤوس كلّها فقيرها وغنيها، مسؤولها ومواطنها، مأساة قذرة منحطّة لا أخلاقية. سمعت رئيس الوزراء في مقابلة تلفزيونية وهو يحاول أن يشعر المشاهد أنّ مشكلة الكهرباء أزليّة، لا حلّ لها في الأمد المنظور، لكنّه لم يدرِ أنّ من سمعه يعرف أنّه لم يقل الحقيقة ادّعى أنّ الكهرباء انقطعت في المنطقة الخضراء حينما كان يقابل السّفير الأمريكي.

كيف يستسيغ رئيس وزراء الاحتلال اللعب والكذب والخداع واحتقار عقول النّاس ويستصغرهم ببساطة متناهية؟ أأراد أن يقول إنّه والسّفير الأمريكي عانيا من الحرّ والعرق والرّطوبة فلماذا لا يعاني الإنسان العاديّ؟ أيّ تهافت سوقيّ؟

مدن العراق كلّها تعاني من انقطاع التّيار الكهربي، ليست الموصل وحدها، لكن المشكلة في الموصل هي الأرض الصّخرية التي تعكس أشعة الشّمس فتحيل الحرارة إلى لهيب، وتجعل سكان هذه المدينة ضحايا أبديين لمشكلة يمكن حلّها ببساطة لو كان هناك من يحبّ ويخلص ويضحّي في سبيل مدينته.

هناك مولّدات صغيرة تمدّ الطّاقة لعشرات البيوت، وهناك مولّدات أخرى تمدّها لآلاف، وهناك ثالثة تزوّد مئات آلاف البيوت. لا تحتاج الموصل سوى عشرين مولّدة كبيرة مثل الأخيرة، فلماذا سمحت الدّولة باستيراد المولّدات الصّغيرة وغضت الطّرف عن المولّدات الكبيرة؟

كان بإمكان الحكومة أن تستورد مولّدات تسدّ حاجة العراق خلال سنة واحدة لا أكثر، بمبلغ يقلّ عن 1% من المبلغ الذي وضعه خلسة في جيبه كل من "السّيد" عبد الرحيم السّوداني؟ أو "السّيّد" عادل عبد المهدي؟

هناك قصة سمعتها في السّجن سنة 1980 أيضاً: "تعلن بلدية تكريت مناقصة تبليط شارع معيّن كلّ سنة، لكنّ التّبليط يتآكل بعد بضعة شهور، وتبدأ الحفر والنّقرات و"الطّسات" و"العطسات"، فتقوم البلديّة بإعلان مناقصة التّبليط مرّة أخرى، وثالثة إلى ما لا نهاية، يبلّط الشّارع، ويتآكل، ويبلّط من جديد، لكنّه يثير سؤالاً لم يجب عليه أحد: لماذا ترسو المقاولة على المقاول نفسه في كلّ سنة؟"

قصة الكهرباء قصة ذلك الشّارع، يأتي الوزير المقرّب من الاحتلال وبيادقه، يقدم عطاءً باستيراد مولدات يكلّف الشعب العراقي مليارات، يضع المليارات في جيبه، يختفي، تختفي المليارات معه، وتختفي معها المولّدات، لينبثق بعد اختفاء الكل عطاء جديد.

في هذا الحالة تقع مهمّة مدّ التّيار الكهربائي كما كان على عاتق نوّاب الموصل في البرلمان، وعليهم أن يتعبوا أنفسهم ليكتشفوا أيّ زمرة ثعابين قذرة مستفيدة من انقطاع الكهرباء، وليكتشفوا أنّ العراق مهما تغيّرت قيادته فهو يراوح في مكانه وأن ما يسمى بالدّيمقراطية ليس سوى وهم وخداع وضحك على الذّقون، فحسام الدين أتعس من أخيه.

الاجتثاث والزّرع:

احتثّ برايمر ومن تعاون معه المسؤولين الأمنيّين في أجهزة الشّرطة والأمن ومعظم ضباط الجيش في الموصل كما فعلوا في جميع أنحاء العراق، لكن ماحدث في كثير من مدن العراق وأصقاعه اختلف عما حدث في الموصل، فهناك أُرجع المجتثّون، وزُرعوا مرة أخرى في وظائفهم الأمنيّة بعد أن أقسموا يمين ولاء ثانٍ للسّادة الجدد (من محتلّين وعملائهم)، وأخلصوا لهم، فعلوا ذلك ببساطة، غيروا سادتهم كما يغيّرون أحذيتهم، أما في الموصل فقد زرع في الدّوائر الأمنيّة من اختير بعناية تحت شروط عدّة منها: 1-أن يكون حاقداً على المدينة، وأهلها، وتراثها، وكل شيء فيها. 2- أن لا يكون من أهلها فقد يرقّ على أهلها. 3- أن يكون مخلصاً لديدان الاسكارس الطّفيلية، التي عينها الاحتلال والتي تمصّ دماء العراقيين،

ثلة الاسكارس والثعابين سامت الموصل سوء العذاب، اضطهدت سكانها، تعسّفت في الاعتداء عليهم وعلى أموالهم وأعراضهم. حصرتهم في زاوية حرجة لا نجاة منها إلا بالتّمرّد والانتحار على قاعدة شمشون الجبار: "عليّ وعلى أعدائي يا ربّ" فسرت سنّة تبنّاها المظلومون المعتدى عليهم وعلى أهلهم في الموصل أن لا وسيلة للدّفاع عن النّفس والعرض والمال إلا بالفداء، ولا فداء أشدّ من تفجير النّفس لقتل المعتدي حتى لو اقتضى الأمر بالتّضحية بالنّفس.

عندئذ انبرت أبواق الدعاية السّوداء تبث للإعلام الخارجي والدّاخليّ إشاعة مفادها أنّ الإرهاب والعنف هما الوجه الآخر للموصل، وأنّهما متأصّلان فيها. فارتفع عدد المعدومين، والمعذبين حتى الموت، والمعتقلين والمسجونين، والمضطهدين، فنكب معظم سكان الموصل إن لم يكن أجمعهم.

لست أدري لماذا لا يبادر المثقفون برفع عريضة إلى الأمم المتحدة لتشرف على إحصاء يكشف الاضطهاد والتّمييز والعسف؟ إن قدّر لمثل هذا الإحصاء أن يتمّ فسيكشف أنّ عائلات الموصل كلّها منكوبة بقتيل أو أكثر، وسجين أو أكثر، أو مضطهد أو أكثر. سيثبت للعالم أن الموصل أكبر وأتعس مدينة مضطهدة في العالم، أكثر من حماة، أكثر من غزة، أكثر من أي مدينة صومالية!
الموصل هي المدينة الوحيدة في العالم التي يحقد عليها حكّامها وجيشها وشرطتها وبعض أجهزتها الأمنية وينتقمون منها. إن السّيد برايمر يجلس الآن في الولايات المتحدة سعيداً مرتاحاً مطمئناً، فقد اجتث مئات ألوف العراقيين الأبرياء من دون محاكمة أو تحقيق، وقضى على مدن كاملة، وأباد هو وحكومته وزمرة الثعابين السّامة المتعاونة معه مئات الألوف، وشرّد وأذل ملايين أخرى. أما أهم شيء فعله أنه خلق في بضعة مدن بيئة للتّطرف والإرهاب لم تكن بالحسبان.

العقوبات:

انهالت العقوبات على المدينة من حيث تحتسب ولا تحتسب، فمن يدخل المدينة يراها مستعمرة بجيش احتلال حاقد ناقم متغطرس. ولعل المدينة الوحيدة التي تشبهها في العالم مدينة غزّة تحت جيش الاحتلال الإسرائيلي فقط. لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تسير السيّارة كيلومتر واحد في الموصل من دون حاجز كونكريتي وسيطرة وتوجيه كاشف للمتفجرات وبهذا تمتاز عنها غزّة نحو الأفضل.

لا يمكن أن تقطع في الموصل زقاقين إلا وبينهما حاجز يفصلهما، وهناك حواجز لا تستطيع فتحها أو الدوران حولها، وعليك أن تلتف لتصل إلى مدركك بعد مسيرة تتجاوز كيلومتر في حرّ يذيب الحديد، بينما هدفك بضعة أمتار. وتختلف الحواجز عن بعضها كما تختلف مصائب الله، ولعناته العظمى والحقرى، فهناك مصيبة تذهب بالمال وحده، وهناك أخرى تطيح بالولد فقط، وثالثة تقضي على الزّرع والنّسل، وكلّ هذا غير موجود في غزّة.

حواجز الموصل متنوّعة تشبه المصائب، فهناك حاجز كونكريتي، وهناك حاجز كونكريتي آخر لكن مع أسلاك شائكة، وهناك حاجز كونكريتي ثالث مع سيّارة مسلحة بأسم سيّء الصّيت شكلاً وفعلا، سيّء إلى درجة القرف، اسم يثير الرّعب والألم كملك الموت. هل أتاك حديث سيّارة "الهمر"؟ وما أدراك ما الهمر؟ إنها تقتل الأبرياء وتدمّر كلّ شيء ولا تذر، تفتك بالنّاس بمثل لمح البصر! هناك حاجز كونكريتيّ رابع مع مفرزة توقف وتدقّق، وتهين وتحقق، لأن الموصلي غريب في مدينته، ولأنّ كلّ موصليّ خائن لأنّه يزور تل أبيب يومياً ويجب أن يعاقب.

على أن أقسى ما يقتحم النّظر من نشاز وتخلّف وانحطاط هو استهتار قسم من الجنود المسيطرين على الحواجز. كنتُ في الموصل في رمضان الحالي، تحت سياط نيران جهنّم المعذبّة في حرارة نحو خمسين درجة مئويّة، والصّائم تحت هذه الحرارة لا يبقى متماسكاً، بل هيكلاً ذائباً، مشلول التّفكير والسّيطرة والحركة، وعندما استقللت سيّارة غير مبرّدة من الجسر الحديدي نحو الزّهور كاد يغمى عليّ بعد ثلاث نقاط تفتيش استغرقت نحو عشرين دقيقة، ثم توقّف السّير قرابة عشرين أخرى، فأصبح رتل السّيارات يمتدّ إلى مئات وربما وصل الألف. لا أدري. لو كان الجوّ طيباً لعددت السّيارات. لكن الحرّ جمّدني. وحينما فرجها الله وبدأت السّيارات تتحرّك واقتربنا من نقطة التّفتيش عرفنا سبب تأخرنا. فقد اختار الجنديّ الباسل في تلك السّاعة اللعب بهاتفه النّقال لعبة إلكترونيّة.

ما الغرابة في ذلك؟ الهاتف هاتفه، ومن حقّه الاستمتاع بما يملك. قضينا على الدّيكتاتورية البغيضة وأصبح شعبنا حرّاً، يفعل ما يشاء.

لم أرَ مثل هذه المشاكل في البصرة أو في بغداد، حلّت السّلطات المشكلة الأمنية في جميع أنحاء العراق إلا في مدن قلّة كالموصل.

هل هناك حلّ للمشكلة الأمنيّة الآن في الموصل؟

كلّ من قابلته من المثقّفين يجيب: نعم، إن شكّل سكان الموصل هيئة أمنيّة منهم. لكنّهم يضيفون: إنّ السّلطة في بغداد لا توافق على ذلك. لأنّها تريد تدمير المدينة واضطهاد وإبادة أهلها، ودليلهم على ذلك أنّ الاغتيالات بكاتم الصّوت الذي لا يمتلكه غير أجهزة الدولة اغتال من أبناء الموصل عشرة أضعاف ما اغتيل في كلّ العراق، والمأساة الكبرى أنّ هؤلاء الضحايا كفاءات مهمّة يحتاجها البلد أمسّ الحاجة لأنّها أطباء ومدرسون وأساتذة جامعيّون ومحامون، وضباط، ومختصّون الخ.

في الموصل يقوم الجيش بتفتيش دوريّ للبيوت، ويختار أوقات بعد منتصف اللّيل دائماً. وحسبما سمعت من غير واحد أن الأبواب الحديد تدّق بقوّة هائلة تفزّز النّيام، وتّرعب الأطفال، وتسحق الأعصاب. إن كان المفتّش حاقداً فلا يكتفي بالتّفتيش العاديّ بل يقلب عالي البيت سافله، وأحيانا يسكب الطّحين والرّز والحبوب على الأرض، وفي أحيان سابقة كانت هناك مليشيات معيّنة ترافق الجيش، تجبر السّكان على ترك بيوتهم والوقوف في العطفات، ليكون لها اليد الحرّة في الانتقام والسطو والسرقة باسم تفتيش ينقلب إلى تخريب متعمّد لما في البيت من أجهزة كهربيّة وتلفزيونات وراديوات وكوؤس وزجاج، وفي أوقات تعد على الأصابع تُرك النّاس في البرد الزّمهرير بضع ساعات بلا بطانيات، ومنعت الأمّهات من جلب حليب لأطفالهن، وكانت النّتيجة وفاة بعض المرضى والأطفال، وسرقة مقتنيات الدّور من ذهب مصاغ ونقود سواء أكانت محليّة أو عملة صعبة "دولارات"، ومن اعترض اعتدي عليه بوحشيّة أمام أهله، وسيق إلى المعتقلات ليتعفّن هناك حتى نُسي أمره، واختفت آثاره. مثل هذه الممارسة الوحشيّة اللاإنسانيّة لا يقوم بها إلا جيش احتلال كالجيش النّازيّ، أو الجيش الإسرائيليّ، والجيش الإيرانيّ بعد الاعتراض على انتخابات أحمدي نجاد في منطقة عربستان وبلوشستان لكنّه توقّف بعد احتجاجات عالميّة.

في الأسبوع الماضي طالب محافظ الموصل بالتّحقيق في مقتل شابين اعتقلا وماتا تحت التّعذيب خلال يومين اثنين فقط. هناك آلاف من سكان الموصل معتقلون، لا يعرف أهاليهم متى يطلق سراحهم، وهناك آلاف أخرى هاربون لأنّ أسماءهم وردت في تحقيقات جائرة مفتعلة وفضلوا العيش بعيداً عن أهاليهم على الموت في مسالخ المليشيات والجيش.
موت مدينة.

يتّهم أبناء الموصل السّيد رئيس الوزراء نوري المالكي بأنّه يعمل على قتل مدينتهم، ويشيرون إلى ما يأتي:

1- حسب النّسبة العدديّة لسكّان الموصل يجب أن تحصل على 11% من الميزانية، لكنّها لا تحصل إلا على 2%. إذاً فكيف تبني مدينة نفسها وقد خرّبها الاحتلال والمليشيات وشوّه شوارعها ونسف أبنيتها واضطهد أهلها؟ حجب المخصصات التي تستحقها محافظة الموصل عنها لا يعني سوى موتها، لأنّه يقيم حاجزاً يعيق تطويرها ووضعها في المكان الصّحيح، فالموصل بحاجة إلى تبليط شوارع، وأرصفة، ومراكز تسويقية، ودار نشر فاعلة، ومراكز دراسات جامعية، وهي بحاجة أيضاً إلى توسيع كلّياتها، وإنشاء جامعات وكلّيات أخرى، أما أولّ شيء تحتاجه الموصل فهو شبكة مجار كاملة تكلّف عشرات المليارات.

2- فرض جيش المالكي على السّيارات في الموصل أن تتزوّد من محطتي وقود فقط، انظروا إلى هذا التّعسف. محطتا وقود لمدينة يسكنها ثلاثة ملايين ونصف؟ في شيكاغو التي يسكنها مليونان ونصف فقط أكثر من عشرين ألف محطة تعبئة! أيعقل هذا؟ أين نحن؟ هل ينتقل النّاس في الموصل على الدّواب؟

محطتا وقود الموصل في موقعين، كلّ محطة في جانب من جانبي دجلة. لذا ترى في الموصل وحدها لا في البصرة ولا في بغداد ولا في أيّ مدينة في العالم، ترى رتل السّيارات بطول عدّة كيلومترات تنتظر لتتزوّد بـ 40 لتراً من الوقود فقط، فكيف يعيل سائق تاكسي عائلته إن اشتغل ثلاثة أيام لبضع ساعات فقط؟ وكيف يصل الموظّف إلى دائرته يوميّاً وهي على بعد بضع كيلومترات؟ وماذا عن الكاسب؟ ولماذا هذا الاضطهاد الإجراميّ اللاإنسانيّ الوحشيّ؟

3- يلعب الجيش بأمر السّيد المالكيّ لا غيره لعبة قذرة في الموصل، بفرضه إجراءات ما أنزل الله بها من سلطان، فعلى سبيل المثال منع الآليات الثّقيلة من شاحنات كبيرة وشفلات وقلّابات الخ من دخول المدينة إلا بعد الثّانية عشرة، فكيف يبني المواطن بيته، وكيف يبلّط المقاول طريقاً، أو يحفر قناة أو أو؟

4- تعرقل الجهات المركزية الرسميّة المفروضة من قبل السّيد المالكي طلبات الاستثمار في الموصل من دون وجه حق.

5- جرت محاولات عدة من قبل الجهات المركزية الرسميّة "السّيد المالكي" لوأد الاستمرار بالعمل في مطار الموصل، فترى من يريد الوصول إلى الموصل يستعمل مطاري أربيل وبغداد، لماذا؟ لا أحد يدري!

6- تعرقل السّلطات المركزية "السّيد المالكي" أي تطوير في القطاع الصّحي، فهناك نقص حادّ في اسرّة المستشفيات بعد الاحتلال فقد حدثت سرقات أسطورية للأجهزة الطّبية بعد الاحتلال أفقرت مستشفيات المدينة، وحدثت إغتيالات لا عدد لها بكاتم الصوت حيث صفيّ عدد كبير من الأطباء، وأرغم البعض منهم على العمل في شمال العراق، ومن يتتبع ما حدث للموصل من عسف لا يدركه إلا من خلال إحصاءات رسمية ستكون في المستقبل وسيلة لإثبات أنّ الحرب انتهت في العراق كلّه إلا في الموصل.

ليس هذا حسب بل طوّرت السّلطات المركزية سنة طائفيّة سنّها الملا خضير الخزاعي مبدؤها الوحيد إعاقة كلّ ما يفيد طائفة معيّنة، فتبناها زبانية السيد المالكي ليعيقوا البعثات التي يستحقها طلاب وطالبات الموصل، وهذا أمر معيب، غير حضاريّ ، وغير إنسانيّ.
وشملت إجراءت السيد المالكي "عليه السّلام" حجب الصّرفيات عن القطاع الزّراعي، وتنمية الغابات، ومحاربة التّصحر التي أصبحت همّاً عالمياً.

7- إنّ مدينة لها 34 نائباً يجب أن تكون مركز قرار سياسيّ ونقطة جذب وتأثير فعّال، لكن السّيد المالكي وجيشه المتعسّف واقفين للموصل بالمرصاد، وما دعوة نائب من قائمة ائتلاف القانون إلى إقامة محافظة مسيحيّة إلا محاولة لتفتيت قوّة هذه المدينة وتدميرها، فقد بقيت شرائح الموصل القوميّة من عرب وآثوريّين ويزيديّة وتركمان وأكراد متآخية منذ إسقاط الدّولة الآثوريّة قبل الميلاد حتى الآن، لكن إئتلاف السيد المالكي يريد الآن تفتيت هذه القوة وتفريقها.

الغريب أنني وجدت بالرغم من ركام المآسي والاضطهاد والضّغط، بوادر مضيئة خلال زيارتي، سمعت أنّ جامعة الموصل بدأت بالتّنقيب عن الآثار في تلال نينوى، لأنهم اكتشفوا أنّ كلّ التّنقيبات حدثت في تلّين فقط، بينما يوجد بضعة عشر تلّاً لم يمسسه التّنقيب،إن هذا الخبر الذي لا يؤثر في تغيير المعادلات الصّعبة التي فرضها بحقد السيد المالكي، لكنّه يؤشر إلى اتجاه معيّن، يعني أنّ الموصليّ أقوى من الموت، وأنّه بالرغم من تعسف لا حدّ له لسلطة جائرة حاقدة شريرة عميلة إلا أن الموصليّ يبحث نحو الأحسن والأفضل.

قضيت عشرين يوماً أسير في العوجات والشّوارع وأتجوّل في مناطق الموصل وأحيائها أعاين الدّمار والخراب والبلى، وقلبي يعتصر، وسؤال وحيد ينتصب أمام ناظريّ: متى ينهض المواصلة؟ متى يفتحون أعينهم؟ متى ينتبهون إلى واقعهم؟ متى ينتفضون ضدّ من أذلهم؟ متى يدركون أن الشّكوى سلاح الضّعيف في وضع همجيّ لاإنسانيّ كوضع العراق تحت سلطة احتلال غاشم، وأحزاب طائفية شرسة، ورئيس أميّ حاقد، وأن لا سبيل سوى النّهوض والمبادرة الشّجاعة والنّضال العقلاني الدّائب لتّحقيق الذّات لسحب البساط من تحت أقدام المتطرفين الجهلاء؟

ويبدو أنّني سأنتظر طويلاً لأسمع الجواب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى