الجمعة ١٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
بقلم تامر عبد الحميد أنيس

خارج دائرة التاريخ

اندفع موظفو إدارة المشتريات بالشركة القومية المتحدة إلى خارج المبنى مع دقات الساعة الثانية، وكان محروس المصري لا يزال جالسا على مكتبه يتم عمله في بعض الأوراق، وبجواره زميله يستحثه على الانتهاء قائلا:
  يا أخي؛ اترك هذه الأوراق إلى الغد، فإن الدنيا لن تنهد.
نظر إليه محروس بشيء من الضيق وقال:
  غدًا الجمعة.
  وهل يطالبك أحد بهذه الأوراق غدًا؟
  لا .. ولكن ينبغي أن تكون جاهزة لأن المدير يريد تسلمها مني يوم السبت صباحًا.
  إذنْ فأكمل عملك صباح السبت، لن يستغرق عشر دقائق.
  ولماذا لا أتمه الآن؟ وهي نفس الدقائق العشر.
  سنتأخر، والمواصلات تزداد ازدحامًا.
  أمري إلى الله.
وطوى الملف المفتوح أمامه، ووضعه في درج المكتب، وأغلقه بالمفتاح الذي يحفظه معه في حاملة مفاتيحه. وخرج مع زميله متجهَين إلى محطة النقل العام.
كانت المحطة شديدة الازدحام، والشمس تبعث حرارتها كي تُنْسِيَ الناسَ الشتاء القريب الذي ولَّى مسرعًا، ووقف محروس وزميله بين عشرات المنتظرين. مضت خمس دقائق قبل أن تلوح أول حافلة، كان محروس يقف خلالها صامتا، ينظر في وجوه من حوله؛ كثير منهم زملاؤه في الشركة، وكثير منهم كذلك يراهم كل يوم ولا يعرف عنهم شيئا، وكثير منهم لم يرهم من قبل، كانت فكرة كثرة كل مجموعة تلح على ذهنه، برقت في خاطره فكرة: كيف يعيش الصينيون وعددهم يربو على المليار؟!
ومع اقتراب أول حافلة هجم عدد كبير نحوها ولم يتحرك محروس إلا حين سحبه زميله من يده صائحًا:
  ألا تريد أن تركب؟!
كان محروس يتأمل منظر الناس وهم يتدافعون لركوب الحافلة من البابين الأمامي والخلفي معًا، بينما بعض الركاب يحاول النزول من كلا البابين أيضًا مما سبب وقوع بعض كبار السن. وحين انطلقت الحافلة أدرك محروس أنه لم يركب، ونظر فإذا بزميله يضع إحدى رجليه على السلم الخلفي ويمسك بيده اليمنى قضيبا حديديًّا يَتَثَبَّتُ به في حين لا تجد قدمه الأخرى موطئًا لها، وهو يُلَوِّحُ لمحروس بيده. لم يشعر محروس المصري بضيق لعدم ركوبه لكنه شعر بالخوف على حياة صديقه، إنَّه لم يجرب من قبل هذه التجربة الجريئة، برغم أنه كثيرا ما ركب حافلات النقل العام.
ولم ينتبه محروس من أوهامه ومخاوفه إلا مع قدوم حافلة أخرى لم تكن متجهةً الوِجهةَ التي يريد، فتركها تمضي ناظرا في ساعته التي كانت تقترب من الثانية والنصف، قال لنفسه:
  إلى متى سنظل نحشر أجسادنا في هذه الحافلات؟!
ولم يفكر في الإجابة فقد كانت الحافلة الثالثة قد وصلت، فصعد وسط موجة من الناس ظلت تدفعه، حتى بلغ منتصف الممر بين المقاعد مع نداءات محصل التذاكر: ادخلوا .. ادخلوا .. ادخل يا أستاذ العربة خالية بالداخل.
ابتسم محروس ورجع بذاكرته إلى أول مرة سمع فيها هذه العبارة، كانت الحافلة ممتلئة عن آخرها، وكان المحصل يصرخ في الناس: ادخلوا العربة خالية بالداخل. ظن أن المحصل يسخر من الموقف، أو أنه يريد أن يخفف على الناس ضيق الزحام ببعض المزاح، لكنَّ استمرار صراخ المحصل الذي كاد يشتبك مع أحد الركاب في محاولة لتأكيد ما يقوله من خلو العربة – أكد له أنه جاد، ولما كان واثقا من أن العربة ليست خالية لم يجد بدا من أن يجزم بأن هذا المحصل مجنون.
وفي المرة الثانية لم تكن الحافلة أفرغ من سابقتها، وسمع المحصل يقول العبارة نفسها، تأمل في وجهه، فتعجب وسأل نفسه: هل هذا المرض منتشر بين المحصلين؟ وفي الخامسة تغيرت صيغة السؤال: هل كل المحصلين مجانين؟ ثم أصبحت عادة .. يسمع تلك العبارات ولا يتأثر بها، لكنه في الآونة الأخيرة يشعر بارتفاع في ضغط الدم عند سماعها.
شعر أن منزله قد اقترب، فبدأ رحلته الشاقة تجاه الباب الأمامي .. مع لكزة من هذا، وتأفُّفٍ من هذه، فلما وجد نفسه على الأرض أخذ يتحسس رأسه ليتأكد أنها معه، ثم سار في طريقه إلى البيت.
كانت زوجته في انتظاره، وعندما استقبلته سمعها تقول:
  كل سنة وأنت طيب.
رد عليها في حيرة:
  وأنت بالصحة والسلامة .. ولكن ما المناسبة؟
  أنسيت؟ العام الهجري الجديد.
صمت قليلا ليتذكر، ولكنه اكتشف أنه لم يكن يعلم لينسى، فقال لها متحرجا في ذهول:
  نعم .. نعم .. ولكن في أي عام هجري نحن؟
دهشت لذهوله عن معرف التاريخ الذي يعيش فيه، وقالت له محاولة جذبه من عالمه الذي يتيه فيه:
  أفق يا محروس! بعد غد أول محرم.
  وماذا في ذلك؟
  إنه إجازة.
  هذا أمر طيب، سأريح جسدي قليلا.
  ماذا تقول؟!
  لماذا تصرخين هكذا؟
  أنسيت وعدك لي بأن نخرج في أول إجازة لك؟!
  ومتى كان ذلك؟
  تتصنع النسيان؟
  لا .. حقيقة أنا لا أذكر.
  كان منذ ثلاثة أسابيع.
صمت قليلا، ثم غرق في الضحك؛ لأنه فتش في كل أنحاء ذاكرته فلم يجد شيئا عن ذلك الوعد، فقالت زوجته في حيرة:
  علامَ تضحك؟
  على نفسي.
  لمه؟
  لأني تذكرت.
  أرأيت؟
  أني لم أنسَ.
  كيف؟
  لأني لم أذكر أصلا.
أشاحت بيديها أمام وجهه في يأس، وتوجهت إلى المطبخ، في نفس اللحظة توقف محروس فجأة عن الضحك، وأعاد في ذهنه حواره مع زوجته، وتوقف عند قولها: «بعد غد أول محرم .. عطلة»، فقال لنفسه بصوت مسموع في قلق ظاهر: بعد غد السبت، الأوراق لم أنته منها بعد. ثم حاول أن يهون الأمر : لا بأس أتمها يوم الأحد صباحا.
***
في صباح الأحد اضطر محروس للتأخر نصف ساعة بسبب المواصلات، فما أن وصل مكتبه حتى وجد جميع زملائه يلومونه وينقلون إليه توعدات المدير، لأنه لم يحضر بالأمس ولم يجهز الأوراق المطلوبة برغم أهميتها الكبيرة، بل حبسها في درجه مانعا التصرف فيها.
صعق محروس مما واجهه، وحاول الدفاع عن نفسه ذاهلا:
  ألم يكن الأمس إجازة؟
  من قال هذا؟
  مطلع السنة الهجرية!
  كان يوم الجمعة.
  ماذا؟ لكنَّ زوجتي قالت إنه يوم السبت!
ضحك الجميع، ومد زميله الذي خرج معه يوم الخميس يده بجريدة الجمعة مشيرا إلى خبر صغير، فقرأ محروس:
«لا بديل ليوم إجازة رأس السنة الهجرية
أعلن المستشار ... وزير شئون مجلس الوزراء والمتابعة أنه لا بديل ليوم إجازة رأس السنة الهجرية في الوزارات والمصالح الحكومية إذا كان يوم الجمعة هو أول أيام شهر المحرم، ويعتبر يوم السبت إجازة إذا ثبت أنه أول الشهر الكريم».
بعد أن انتهى محروس المصري من قراءة الخبر رفع عينيه الذاهلتين فسقطتا على المدير الذي كان يقترب بوجه عابس، لكنه لم يتمالك نفسه من الضحك حين تأكد له أن كل ما حوله يدفعه خارج دائرة التاريخ.


مشاركة منتدى

  • إن هذه القصة ترصد واقعنا الأليم بما يحمله من زحام مبالغ فيه هو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم غثاء السيل ، واصطراع الهواجس النفسية بين الواجبات الاجتماعية والواجبات المهنية ومايعانيه الإنسان من عجز وتيهة في التوفيق بين هذه وتلك ، كما تعكس القصة العلاقة الطردية بين ماهو معقول وماهو غير معقول في إطار ساخر مضحك.

  • **صك الأضحية بين الاتباع والابتداع:
    من الاتباع لسنة حبيبنا محمد صل الله عليه وسلم أن يشهد صاحب الأضحية أضحيته ، وأن يذبحها بنفسه إن كان باستطاعته ذلك ، ويقول: اللهم إن هذا عني وعن أهل بيتي ، وأن تقسم الأضحية على النحو الآتي: ثلثها للأهل والأحباب والجيران وذوي الأرحام ، وثلثها الثاني : للفقراء والمساكين ، وثلثها الأخير لصاحب الأضحية وأهل بيته كما أن مشهد الذبح نفسه يفرح به الكبار والصغار ويشعرهم ببهجة العيد واحياء لسنة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام .
    أما ماأُ بتدع في أيامنا هذه وأجازه بعض العلماء وهو ( صك الأضحية ) بحجة التيسير على الناس ، فهذا إن جاز - وهذا رأيي- فإنما جوازه لمن يؤدي مناسك الحج تيسيرا عليه كي يتفرغ لأداء المناسك ، ولكن المقيم في بلده ما الداعي لشرائه الصك ، فهذا يتنافى مطلقا مع السنة لعدة أسباب:
    (١) إن صاحب الأضحية لا يشهد أضحيته .
    (٢) إن الأنصبة المقرر توزيعها على الأحبة والأقارب وذوي الأرحام ، والفقراء والمساكين لم يتحقق، لأن التوزيع سيتم من قبل المصرف المعني بهذا الأمر لا بمعرفة صاحب الأضحية ، وهذا يتنافى مع مبدأ التكافل الاجتماعي في الإسلام .
    (٣) تلك المؤسسات تنتفع ربحيا ، وهذا يتنافى مع الشرع ، فالأضحية لا يجوز المتاجرة ببعض منها ، أو الانتفاع بأي شئ منها إلا عن طريق التبرع وماشابه.
    لذا رأيت أن أوضح وجهة نظري في ذلك الأمر ، فإن كنت مصيبا في ذلك فأجري على الله ، وماتوفيقي إلا بالله، وإن كنت مخطئاً في ذلك فهذا من نفسي وأسأل الله أن يغفر لي ،، وكل عام أنتم جميعاً بخير.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى