السبت ١٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
بقلم محمود محمد أسد

اغتـيـال مُتـَقاعِـد

الأستاذ نبيل تبلَّغَ دعوةَ نقابته لحضور حفل تكريم المتقاعدين بالتأكيد هو واحدٌ من المكرَّمين … قال في نفسه:

خدمتُ لثلاثين عاماً في سلكٍ يصعب على المرء أن يستمرَّ فيه… كنْتُ أعيش بسبع أرواح … قبلْتُ التحدِّي مع الكثيرين …بالفعل حدَّثَ نفسَهُ بعد انقطاعٍ عن العالمِ و انزواءٍ. حرّكتْهُ هذه الدعوة … أعدَّ عدَّتهُ، بحثَ عن أحدثِ الثيابِ التي مرَّ عليها عقدٌ من الزمن … اشتراها بمناسبة زواج ابنه البكر و كرّر ارتداءَها يومَ زواج ابنته ليلى … و هاهو يقول من جديد:

(( المهمُّ رتابةُ الروحِ و نظافةُ اليدِ و حسنُ الختام … و أخذ نظرةً من مرآةٍ مغبَّرةٍ متشظّية و قال في نفسِهِ: الحمد لله …الحمد لله … هناك بقيَّة من صحة و نضارة …

جرى الاحتفالُ الذي أشْعلَ ذكرياتِهِ و أعادَه لسنوات خَلَتْ …كان احتفالاً أنيقاً جمع مسؤولي البلد. استمع إلى كلمات التمجيد التي لم تشأْ ذكرَ فضلِهِ على الموجودين. قُدِّمَتِ الهدايا للمكرَّمين … كان وحيداً … لا زوجةً معه.. لا أولادَ يباركون له.. جرَّ قدميه و هو يحمل شهادة التكريم و بطاقةَ دعوة لشخصين في مطعم مشهور …

منذ البداية شعر بالفرحِ و السرور، و لكن سرعان ما عادَ إلى التفكير و الاستسلام لتداعي الأفكار و لنشاط الذاكرة التي كانت خامدة …

نظر إلى شهادة التكريم و عادَ إلى الوراء … إلى ذلك اليومِ المغروس في ذاكرته منذ ثلاثين عاماً … فيه تسلَّمَ قرار التعيين بفرح غامرٍ و إرادةٍ متوقّدة.. و بعد فترةٍ استسلمَ للتفكير حينها، و صحبه فتورٌ عجيب … لا يريد تفسيراً لفرحِهِ و لا يحاول معرفة سبب فتوره عندها قال:
((المرءُ أقدرُ على قراءة نفسه و تحليلها …)) و هي العبارة التي اصطادَها من مدّرس علم النفس التربوي … حقَّقَ أمنيّة طالما سعى إليها و تمنَّاها … كان يتابع أستاذَ التاريخ بأناقته و ثقته … أعطاهُ كثيراً من الاعتبار.. كان يقرأ التاريخ بحياديّة و عقليّة متفتّحة … و هذا أمرٌ هامٌ بالنسبة له … عاش نبيل طفلاً عاديّاً تحيطُ به أسرة أمِّيّةٌ لا تعرف القراءة و لا تقدِّرُ العلمَ و المتعلّمين و مرَّة شكا أمرَه لأستاذِهِ فقال له: (يا نبيل ! المرءُ عدوُّ ما يجهل …) تذكَّرَ قَلقَهُ و هو متوجِّهٌ إلى تلك القرية النائية سيـبتعد عن والديه و أختِهِ العانسِ… إنه أمامَ تجربة جديدةٍ بعيداً عن محيطه …

ركب حينها سيارة أكل عليها الدهر و شربَ … كانوا يسمّونها ( البوسطة ) تَنْهَبُ الطريق على دفعات و محطّاتٍ كثيرةٍ ينظر إلى الركاب و يقرأ معالمَ الوجوهِ … ثم يرمي نظرةً إلى الأراضي الجرداء … و هو الوحيد الذي لا يتكلّم باستثناءِ قراءته لصحيفة بين يديه … يقطعُ عليه صمتَهُ صوتُ بعضِ الحيوانات التي حظيت بشرف مصاحبته …

يتذكر من جديدٍ، و ينتقل إلى مرحلةٍ أخرى … تتوقّفُ السيَّارة ثم يتابع السيرَ على قدميه … إلى أين؟! إلى قرية تُدْعى ((المهدومة )) تناثرت بيوتها هنا و هناك … و عندها تذكَّرَ معلقة امرئ القيس الذي بكى و أبكى و اشتكى … خالطَهُ شيْءٌ من الرهبة …

كيف أعيش هنا؟.. كيف سأمضي الوقت؟ و لأجلِ مَنْ جئْتُ؟..

تناثرت نظراتُهُ و تتشتَّتُ هنا و هناك … القرية خاوية سوى بعض البيوت … نظر من جديدٍ حوله … و جاءتْ نظرتُهُ وليدةَ خيبة … فقد كان يتوقَّعُ التفافَ الأولادِ و أهلِ القرية حوله … تصوَّرهم يسرعون مبتهجين و مرحِّبين … أبدى تضايقه … تذمَّر … سأل عن بيت المختار … و كانت أمامه خيبة أخرى.. القرية لا يوجد فيها مختار … و لا حاجة للمختار بعد سوء معاملة المختار السابق … و عندما ماتَ فَرِحَ الجميعُ و لكنهم كتموا فرحَهُمْ في أعماقهم … سأل عن المدرسة … جاءَتهُ الإشارةُ مصحوبةً بنـزقٍ و جفوةٍ: -.. هناك عند الأغنام ِ و الأبقارِ … انظر … على سطحها دجاجةٌ و ديك …

ذهب وحيداً يجرُّ الحَيْرةَ و سأل نفسهُ:

أين الشّجَرُ؟ أينَ العطاءُ؟ أينَ الخضار؟ أينَ الأولادُ؟ و أخيراً قال: أين أنا؟..

لم يجد سوى شجيرات طاعناتٍ رماهنَّ الفقرُ و الجفاف.. إحدى الشجيرات تمازُحها نعجة و حولها أطفالٌ يُقَطِّعون أغصانها … تقرَّبَ أحدهم قائلاً:

خذ يا أستاذ – إنَّهُ قضيبٌ سيلزمك كثيراً …

قال له الأستاذ: - لن تحتاجوا إليه إن شاء الله … و تابع الطفلُ من جديد: - سيلزمك لتبعد عنك الذباب و الحشرات … بعد أيَّام تحبُّ القرية و تحبُّك … و أمضى سنوات سعيدةً رائعة الخضرة …

ها هو نبيل في طريقه إلى بيته وحيداً، يحمل قرار التقاعد، و شهادة التكريم و بطاقة الدعوة، و هو يفتِّش عن شخصِ ثانٍ يصطحبه للمطعم … بيده عصا يتكئ عليها … طريقهُ مزدحمةٌ … الأرصفة مكتظةٌ بالسيَّارات و الأبنية و الناس …

كان التفكير جيشاً من الوساوس و كتيبة من التساؤلات يحاول أن يربط بين سنواتٍ مضَتْ و أيَّامٍ تبقَّتْ … قطع عليه تفكيرَهُ سهمٌ جارِحٌ من سائقٍ أرعن … (يضربك العمى) …أين عيناك ………
هزَّ نبيلٌ رأسَهُ و قال لهُ: أنتَ لم تمرَّ على أستاذٍ في حياتك يا ولدي …


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى