الثلاثاء ٢٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١

ساعة في حضرة طبيب السعادة

حسن سليفاني

«يا للسعادة..ادخل ودع القلق..سأمنحك السعادة.»

في باب العمارة الرئيسي قرأت هذه الكلمات داخل قطعة بلاستيكية مضاءة بنيون ابيض.

منذ زمن بعيد كنت افكر ان ازور هذا الطبيب النفساني الذي يدّعي بأنه يخلق السعادة لزواره..هل يصدق احدكم هذا الكلام؟ هل رأى احدكم هذا الطبيب النفساني؟ ومن يقول انه عالم؟ ترى لماذا اشك في امور كثيرة؟؟..

صعدت الى الاعلى اثنتي عشرة درجة، حينما استدرت الى اليمين، وجهاً لوجه صرت قبالة صالة صغيرة، بكنبة خشبية صغيرة قديمة، وخمس كراسي يملؤها الغبار المتراكم، ومنضدة مهترئة عليها بعض المجلات الاجنبية..

اكاد اجزم بان هذا الطبيب النفساني قد اشترى أثاثه البالية هذه من سوق الهرج في باب الطوب، قلب المدينة الآمنة النائمة على ضفتي دجلة الخير بهدوء.. تاملت الغرفة والجدران المشعبة برائحة عفنة كجلد كلب قد مات قبل ايام..في الجدار المقابل لي رأيت لوحة تخطيطية لكلب يداعب قطة بمرح جارف.. أأسأله ماذا تعني هذه اللوحة اول ما ادخل عليه؟ ام تراه سيغضب؟؟

ولكن يقولون، ان العلماء النفسانيين لا يغضبون بسرعة، وان غضبوا القوا بأنفسهم من الطابق العلوي.. أني أخشى أن يرمي صاحبي هذا بنفسه من شباك عيادته ليتكوم حول نفسه جثة هامدة على رصيف الشارع لتخرج صحف الصباح التالي، وتعلن عن موت عالم عبقري في ظروف غامضة، وليطلب أساتذة القانون بحوثاً مفصلة من طلبتهم حول هذه الحادثة المأساوية، وارائهم لخاصة بها..وانا حتما ساكون ضيف التحقيق والمحاكم لعدة شهور لمجرد اني كنت الوحيد الذي راجع عيادته هذا اليوم..اوووه...أرجوك أيها الطبيب النفساني، كن طيباً ولا ترم نفسك من الشباك قبل أن تلقاني..

نفضت الغبار عن الكرسي، وما ان جلست عليه حتى سقطنا سوية وأحدثنا صوتاً مزعجا، ورددت الصالة الصغيرة ذلك الصخب..فتح الباب الذي أمامي على الفور، خرج منه رجل يرتدي بنطالاً ازرق وقميصا وردياً، في يده اليمنى مسطرة بلاستيكية بيضاء، كالشعر الذي يغطي فوديه:

ألا تنتبه قبل أن تجلس؟! الم تلاحظ إن الكرسي بثلاث أرجل فقط؟

كان في كلامه معي، كمن يخاطب طفلاً في العاشرة من عمره، علما أن شاربي يسودان المساحة الممتدة من أسفل انفي حتى الطرف العلوي من شفتي السفلى..كان غريب النظرات، يطبق عينيه ويفتحهما بين لحظة واخرى..حقا كانت مضحكة جدا ربطة عنقه، خضراء بلون الشجر وعليها رسوم كارتونية، كالتي على قمصان المراهقين..

ارجو المعذرة ان كنت قد ازعجتك..صدقني لم الاحظ ارجل الكرسي..بهدوء وخشوع مصطنع قلت للرجل الذي امامي..

نفضت الكرسي الثاني بمنديلي الذي لم يغتسل قبل اكثر من اسبوع..جلست وكان هو يرمقني بنظراته المتفحصة:

لديك مشكلة؟ اليس كذلك؟

"ان لم تكن لي مشكلة، هل كنت احضر الى هنا؟".

نعم واريد مواجهة الطبيب النفساني ان امكن..

حتى ابتسامته لم تكن ابتسامة، بل ظلاً لضحكة:

تفضل ادخل، انا هو بعينه..

كنت اعتقد ان هذا الذي امامي هو احد مساعديه، او سكرتير مكتبه..جلس الرجل على كرسيه الدوار الانيق، كنت احسب ان المدراء والمسؤولين الكبار فقط يجلسون على الكراسي الدوارة، لم يكن يخطر ببالي ان يكون لطبيب السعادة هذا كرسي دوار.كتب متفرقة كانت على منضدته بشكل عشوائي.. فوق راسه كانت صورة ملونة لطفل عار تماماً، كما انا او انت او هو حينما كنا في مثل سنه..كان يبتسم للاشيء، او ربما لجملة اشياء نجهلها ولا نراها نحن..ليتني عدت طفلاً، آه لحياة الطفولة الحالمة على ضفاف الخابور، بلا تفكير..ما اروع الطفولة!!

خطَّ خطين غير متساويين على الدفتر الصغير الذي امامه.. رفع المسطرة في وجهي، فاجأني بقسوة وصوت خشن، ذكرني بمعلم الحساب الذي كان يرتدي الجبة والعمامة ويصرخ في وجوهنا بانفعال لا مبرر له، حينما كنا نخطئ في حل مسالة حسابية و ما كان يمل قط من ضربنا بالخيزران الذي لم يكن يفارقه كعمامته، كانت اثار ضربه واضحة في ايدينا، وكثيراً ما كنا نبكي..نعم كنا نبكي.. كنا صغاراً وبرد الجبل ما كان يعرف معنى الطفولة..

اسمك..سنك..عملك؟؟

"الهي ما هذا هل نحن في محكمة.. هل اقترفت جرما لا ادركه؟ هل هناك داع لطرح الاسئلة بهذا الشكل الاستفزازي الغريب؟ اشد ما اخشاه ان يكون طبيبي هذا مجنوناً.. الهي الهمني الصبر"..

عفواً..هل هناك ضرورة لمعرفة الاسم والسن والمهنة؟ ارى ان اطرح عليك مشكلتي اولاً..
مد اهامه الى جوف انفه، سحب شعيرتين من داخلها، مسح ابهامه بالورقة التي امامه.
انتابني موجة من الضحك، بصعوبة بالغة استطعت التغلب عليها وخنقها في بلعومي..من لا يقول،، انه كان سيقذفني بتلك المنفضة الزجاجية، التي ليس فيها أي اثر لعقب سيكارة او عود ثقاب، لو ان ضحكتي انطلقت حينها.. قال الرجل الذي امامي:

 نعم..نعم يا صغيري، هذه الامور مهمة للطبيب النفسي، لتساعده اكثر على معالجة مريضه، هذا شيء من اختصاصنا نحن الاطباء، حتى معارضي بافلوف يحبذون هذا..

لا اعلم من اين خطر ببالي في ذات اللحظة اسماء:

كاربوف، عرب شاميلوف، هل اساله عن سبب خسارة كاربوف لبطولة العالم في الشطرنج؟ ولكن لم؟ طالما اني اعرف جيداً ان لا احد يظل في موقعه طول العمر، فهذه هي احدى بديهيات الحياة..لماذا يجذبني اسلوب عرب شَمّو الرصين في ملحمة قلعة دمدم ولماذا يتجسد امامي بكل هذا الوضوح صورة بطله التاريخي"خاني ذو الكف الذهبي"؟ ليتني اعلم سر مخاطبته لي احياناً.. هل يدري هذا الطبيب.. ما سر مخاطبته لي حينما يخرج الحوت من الماء ويطير الى السماء..!!

كردو شمدين كريم

ماذا كردون؟

كردو..كردو...كاف، واو، راء، دال، واو، كردو..

الا يبدوا اسمك غريباً..أ..اقصد ثقيلاً بعض الشيء؟

لا انه سهل وبسيط جداً.. فقط قل معي كردو وسترى كم هو سهل التلفظ.
كالآن اتذكر جيداً ذلك اليوم الذي سالني فيه معاون الاعداية بنوع من التشنج:
ماذا يعني كردو..ياكو..ردو؟!

ابتسمت في وجهه بنشوة وقلت له بأدب جم:

مثلما سيكون جوابك لو سالك احد ما، ماذا يعني يعرب يا استاذي...

كان استاذي هذا يكره في مناقشاتي واسئلتي التى لا تنتهي علما اني اكنت متفوقا في مادته، واظن ان هذا كان يقلقه كثيراً...

لم يبد طيب السعاد ارتياحاً لكلامي، مثل استاذ الاعدادية.

وعمرك؟

ثلاث وثلاثون سنة وخمسة اشهر وبضعة ايام حسب ما مدون في بطاقة الاحوال المدينة ان كانت صحيحة..((هل تعلم اني مصاب بمرض الشك في صحة الاشياء؟!)) كان الطبيب يدون هذه المعلومات على تلك الورقة الصغيرة امامه...

اين تسكن حالياً؟

حي القر..!!

" هل اقول له حي القرج؟ هذا هو الاسم الذي اسمعه منذ ان وطأت قدماي ارض هذه المدينة، وهكذا يسميها الناس، محلة القرج.. نعم يسكن فيها بعض القرج، وهو يشحذون ويمارسون الكدية علنا، وان بعض نسائهم يمارسن البغي تحت ضوء الشمس وهذا يحدث ايضاً في بعض الاحياء التى يسميها اناس حينا، بـ الأحياء الراقية... وان اطفالهم يشتغلون بمهنة صبغ الاحذية. احذية الكبار الذين يجلسون خلف مناضد كبيرة مرئية وغرف نوم مريحة، مكيفة، ولا يتوانون عن سرقة اموال الدولة في اللحظة الناسبة وحين يفتضح امرهم، يلصقون التهمة بمن هم ادنى منهم في السلم الوظيفي، اليس هؤلاء قرجاً؟؟... في السنين الاخيرة بدأنا نسمع بأسم جديد لحينا "حي الجزائر" صيدلة الجزائر... افران الجزائر... الجزائر... الجزائر... من اين جاءت التسمية؟

من اطلقها؟ أجاءت اعتزازاً بدولة الجزائر العزيزة وشهدائها المليون في سبيل الاستقلال؟!! ام هناك سبب اخر؟

مابك؟ لم تجب..

عفواً حي الجزائر.

"هل تعلم ايها الطبيب النفسي، ان حيُنا يفيضُ اذا استمر هطول المطر لثلاث ساعات متتالية، وان اطفال حيّنا يجدون متعة في السباحة في المياه التى تملأ كل ازقة الحي، مثل متعة اطفال الأحياء الراقية بمسابحهم الكونكريتية الزدانة بالاضواء الباهرة، والمحاطة بانواع الزهور والرياحين واثيل الاخضر... هل تعلم ان اطفال حينا يشتمون امهاتهم ويسبونهم اشد المسبات، وانهم يتبادلون الادوار، انها فرصة طيبة لتعرض المراهقات سيقانهن وسط الماء... لقد وعد رجل البلدية الاهالي خيراً وربما يتحسن الشارع الرئيسي وتختفي اكوام النفايات من الحي".

 ها...ها... حي الجزائر اعرفه جيد اً، ان الخادمة التى تشتغل عندنا في البيت من هذا الحي ..

البيت الثالث على اليمين، قرب مستوصف الصحة المدرسية، اسمها زينب... على الرغم من أنها امية الا انها ذكية، هل تعرفها؟

لا...

وعملك يا كردو؟

مساعد امين مكتبة...

اخرج الة تسجيل متوسطة الحجم من درج مكتبة، تاكد من ربط السلك الموصل للتيار الكهربائي، ثم وضع شريطا في جوفها، ضغط على زرين معاً، رفع عينيه المخبئتين خلف نظارته السميكة وقال:

لكي اتمكن من علاجك بدقة، عليك ان تكون صريحاً وصادقاً وأن تقول كل ما لديك بمنتهى الحرية... ها مم تشكو؟

" ان تقول كل ما لديك بمنتهى الحرية، ياللحرية... اذكر جيداً، اني صفقت من الاعماق لابن ادم التونسي حينما قال في بداية قصائده القصيرة " لأن الحرية متوفرة بكثرة في بلداننا، سنقوم بتصديرها الى دول العالم الاخرى".

احسست بشي من الراحة حينما اعتدلت في جلستي : منذ اكثر من سنتين بدأت تراودني احلام مزعجة، تقلقني، لدرجة انني وانا نائم، انهض دون وعي واقوم با عمال لا ارادية، كوابيس لعينة تسكن جسدي تسير في كل انحائي كالدم، تسلبني ارادتي، تسيرني حسب ما تريد... تصور يا طبيب السعادة ان زوجتي التى احبها اشد الحب، اردت ان اخنقها وانا نائم... نعم نائم يا حضرة الطبيب.... اردت ان اكذبها، لكن والدتي اكدت لي وقالت لو لا وصولي في الوقت المناسب بعد صرختها المدوية

لكانت جثة بلا روح... وتقول امي انك غالبا ما تخرج بعد منتصف الليل وحين نريد ان نمنعك تصير عيناك جمرتي نار، ويتقلص وجهك وتغدو وحشا بريا شرسا، نخاف منك، نبتعد عنك، وأحيانا تعود مع آذن الفجر الى البيت وتنام لتستيقظ وتتناول فطورك وكأن شيئا لم يحدث البتة...

واني لأتذكر جيدا يا طبيب السعادة، ذات ليلة رأيت حوتا كبيرا يخرج من النهر، ويحدق في وجهي ثم يطير الى السماء ويقترب من الغيوم.

يجتازها... يطير ببطء الى القمر المتلألئ... يقترب منه... يفتح فمه الواسع كالكهف ويبتلع القمر... يختفي ذلك الضياء الجميل الجذاب ويحل الظلام في الارض والسماء... ويهبط ثانية الى النهر... احمل محراث جدي واتجه الى النهر لاقتل الحوت واستعيد منه القمر، ارى فجأة قطيعا من الذئاب الظامئه للدماء البشرية تظهر امامي وتلاحقني، أتراجع قليلاً، يصرخ في "خاني ذو الكف الذهبي ".

لاتتراجع يا كردو...سأساعدك.. وينطق كبير الذئاب، كالبشر :

طرى لحمك يا فتى

تهاجمني،وانا اتسمر في مكاني، يبهت لوني، تموت الكلمات في حلقي ويقبل "ميرزا محمد" بحصانه الاشهب ويرفعني عن الارض ويضعني خلفه ويعود بي الى حيث اسكن... واستفيق...لا خاني.. لا ميرزا محمد.. ولا حصانه.. عواء الذئاب يملأ اذني.. اخرج من الفراش تحس بي زوجتي، تتوسل الى:

ارجوك ان لا تخرج.

ما ذنب هذه المرأة لتتحمل كل هذا العذاب.. صدقني يا طبيب السعادة لا احس بنفسي حينما احرق البطانيات واضرب صغاري، واصرخ على هواي في كل ارجاء البيت، واطرق ابواب الجيران..احدهم يقول:

دعوه لقد جن.

وآخر يقول:

 لم لا ندخله مستشفى المجانين..

وعجوز مقوس الظهر يقول: دعوه لحال سبيله، انه طيب..

وانت ماذا تقول يا طبيب السعادة؟

هز الطبيب رأسه عدة مرات، رمى نظارته على المنضدة، ما ان تحركت شفتاه، حتى ملأ رنين الهاتف ارجاء الغرفة التي تحتوينا.. اوقف آلة التسجيل، رفع سماعة الهاتف وبصورة ميكانيكة قال:

نعم..نعم، انا، انا عيفان راضي.

.....

يا الهي ماذا تقول، في المستشفى العام!! أنا آتٍ..

ارتبك كثيراً، تناول سترته ونظارته، قال لي وهو يترك الغرفة:

تعال بعد اسبوع..ولدي في حالة خطرة، حادث سيارة...

خرجت خلفه مباشرة لم يكن في الصالة احد غير شاب بجلباب طويل واكمام عريضة وهو يكنس ارضية الصالة المتربة.

اشتريت من الصيدلية الكبيرة، علبة حبوب كالتي معي واتجهت الى موقف الباص وانا اقول لنفسي "هل حقاً انا مجنون.. ام في عالم مجنون؟؟" وضحكتُ..

إنتبه بعض المارة لذلك فخجلت بحق.. آثرت السير على الاقدام، طالما ان المساء كان هادئاَ..
اتصدقون؟؟..

حسن سليفاني

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى