الاثنين ١٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
ابتسامة وأحد عشر
بقلم خير الدين بن الطاهر جمعة

اعتذارا على ضريح آخر النبلاء

قتيل عمّي أنا.....قتلني عمي واستباح يُتْمي وجهلي...قتلني وأراد التخلص مني يوم دفعني وأنا طفل صغير إلى هوة بئر سحيقة وذلك بكل وحشية ودونما رحمة..... وستظل تلك الحادثة الأليمة نبضا لاهثا في شراييني ووشما سيعذّب روحي إلى الأبد...

لا تُخطئ...لا ترتعش....لا تعتذرْ...

هذا ما قاله لي عمي عند باب إدارة المدرسة، كنتُ قد هربتُ من المدرسة الإعدادية وقد حل الصيف وأنهينا الامتحانات ولكن إدارة المدرسة أرسلت كتابا عن طريق البريد تطالبني فيه بإحضار ولي الأمر وذلك لتخلُّفي عن حضور الدروس..كنتُ في الصف الثاني الإعدادي حين صرختْ أمي في وجهي ورمت الرسالة و قالت:

اذهب إلى عمك...!!

وكانت مقابلة عمي بالنسبة لي أعسر من يوم الحساب وأصعب من يوم الحشر.. ذهبتُ إليه عند الأصيل، كان في مكتبه.. مددتُ إليه الورقة بيد مرتعشة.. تناولها مني بهدوء قرأها ثم رفع رأسه وقال لي وهو ينظر إليّ من تحت نظاراته الطبية:

غدا صباحا سآخذك معي في السيارة.

ثم عاد إلى أوراقه يقرأها..خرجتُ من عنده غير مصدق أني نجوت....

صباح الغد كنت أجلس في المقعد الخلفي لسيارته المرسيدس الزرقاء و كان هو يجلس على اليمين و ابن عمي طارق هو الذي يقود...في الطريق لم يقل شيئا ولكنه سألني بهدوء دون أن يلتفت إليّ عن معدّلي العام، فأجبتُه بصوت مهتزّ:

اثنا عشر سِيدي اثنا عشر...

دخلنا إدارة المدرسة ووقفنا أمام القيم العام في مكتبه، كان بشعره المجعد وفمه الكبير مقرفا كعادته، فبدأ هذا الأخير بسرد مظاهر جُرمي وعمي يستمع بانتباه إلى أن نعَتَني القيم العام بأنني «غير مؤدب» عند ذلك احمرّ وجهه و استبد به الغضب وصرخ في وجهه:
«ألا تعرف أنك بهذا الكلام تسبني أنا....ألا تعرف أنني أنا الذي ربيتُه...احترم نفسك يا سيد..»

فما كان من القيم العام إلا أن اعتذر له في ارتباك وناولني بطاقة دخول إلى الصف في حين خرج عمي لا يلوي على شيء...عندما وصلت إلى الصف فوجئت أنني لم أجد طالبا واحدا هناك فعدتُ أجري لأحصّل عمي على أمل أن يعيدني إلى البيت لأن المدرسة بعيدة كيلومترين تقريبا عن القرية...ولكن ما إن رآني عمي قادما حتى لمحتُ نظرات الاستغراب في عينيه فقلتُ له بنفس متقطع:

 سيدي لا أحد في الصف "

فرد عليّ بحزم :

شنوّة؟؟!( ماذا )..

ونزل من السيارة عائدا في غضب إلى القيم العام و واقتربتُ أنا وطارق ابن عمي من مكتب الإدارة في شماتة نستمع إلى عمي يوبّخ القيم العام قائلا:

إن كان ليس لديكم عمل تقومون به هنا..فنحن ليس لدينا وقت نضيّعه....و لدينا أعمال نريد القيام بها....

ثم عدنا إلى السيارة و أمر عمي "طارقا " بالعودة إلى القرية و أنزلني أمام البيت و قبل أن أنزل قال لي عمي بلهجة صارمة دون أن يلتفت إليَّ :

سأنتظرك الليلة في البيت.

كانت تلك الجملة بالنسبة لي سكّينا يذبح...

صباح ثقيل ويوم قائظ ظللتُ أنتظر فيه ما يخفيه لي القدر..تصورتُ أنه ربما سيجلدني أو يضربني أو يعلّقني و لكنني فكرت جيدا فانتهيت إلى أنه كي أنقذ نفسي سأبادر من البداية بالاعتذار له..نعم أحسن حل هو الاعتذار..الاعتذار والاعتراف بالخطيئة سيرقّق قلبه سأبكي أمامه..و لكن...

عند الأصيل كنتُ أدخل بيت عمي الذي كان ملاصقا لمنزلنا..دخلتُ عليه كان جالسا كعادته عند المصطبة الاسمنتية الملاصقة للسور قريبا من باب مكتبه ذلك كان مكانه اليومي كل أصيل، يقرأ كعادته جريدة la presse، سلّمت عليه، نظر إليّ من تحت نظاراته الطبية، لم يُعرني اهتماما فدبّ الرعب في أوصالي و بعد بضع دقائق و أنا أغالب ارتعاد مفاصلي، قال لي:

اسمع يا بني سأطلب منك أمرا لا تنساه أبدا : لا تخطئ حتى لا تقف في موقف اعتذار أبدا و لذلك يجب عليك أن تملأ عقلك بالأفكار حتى لا ترتعش لأن المليء بالأفكار لا يرتعش أبدا.
هل فهمت؟؟؟ أعدْ ما قلتُه لك..

فأعدتُ عليه بصوت خافت:

المليء بالأفكار لا يرتعش أبدا.

كان قد قام من مكانه وقد وضع الجريدة جانبا و أخذ يتمشى متوجها نحو حديقته وأنا منقاد وراءه بلا إرادة و حين اقترب من البئر عند سور الحديقة نظر إليّ وقال:

أرأيت هذا البئر؟ إن ماءه يهب الحياة للأشجار لتكبر وتواجه الرياح والمحن...و الإنسان بحاجة إلى بئر مليء بالأفكار حتى يهبَه الحياة......فيكبر..... ويمتلئ.....فلا يخطئ...ولايرتعش.....ولا يعتذر....فدورك الآن أن تبحث عن هذا البئر...ما هو دورك الآن؟؟؟؟

فأجبته صاغرا:

أبحث عن بئر الأفكار...

ردّدتُ ما قاله دون فهم..كنتُ أريد أن أعتذر له ولكن كلامه جعلني أغص باعتذاري......الحقيقة أنني أحسستُ أن عمي قد حصل له شيء في عقله أو أنه قد طعن في السن لأني كنتُ أعلم أن الدراسة عنده شيء مقدس في الواقع لم أفهم لِمَ لم يعاقبني؟؟؟ ولم أفهم أيضا كيف يمكن للإنسان أن يمتلئ بالأفكار؟؟؟؟

ضجّ عقلي الصغير بالأسئلة عندما كان هو قد استدار ليدخل مكتبه أنا وقفتُ عند الباب حين كنت أهمّ بالانسحاب لمحتُ كتابا على مكتبه و قد انتبه هو إلى نظراتي و بعد خُطوتي الثانية منسحبا في هدوء ناداني و أخذ الكتاب من على الطاولة ثم ناولني إياه قائلا:

هذا سيملأ عقلك..خذه.

تناولت الكتاب و خرجت غير مصدق أن عمي لم يعاقبني على ما اقترفت و لكنني ظللت أفكر في مسألة الاعتذار...و ما كنتُ أدرك أن عمي يقودني إلى مصيدته و سأسقط في فخه مثل ضبع أعرج!!!...أدركت هذا بعد أسبوعين تقريبا عندما جلست بجانبه في الأصيل عند باب مكتبه وهو يترشف شايه الأخضر و سألني دون أن ينظر إليّ وهو يتأمل رفرفة الحمام في الحوش أمامه:

آه لقد نسيت ما عنوان الكتاب الذي أعطيتك إياه؟؟

فأجبتُه في ثقة :

عنوانه " جمال عبد الناصر من حصار الفالوجة إلى الاستقالة المستحيلة ".

ولكنه لم يكتف بذلك بل واصل مدعيا عدم المعرفة :

كاتبه تونسي أليس كذلك؟..لقد نسيت..

فأجبته بإصرار :

إنه مترجم يا عمي لقد ترجمه كمال جنبلاط زعيم الطائفة الدرزية اللبنانية أما الكاتبان فهما فرنسيان جاك دومال و ماري لوروا...

عند ذلك رأيت ابتسامته السمراء العاتية تغمر وجهه في هدوء ولكنه واصل بكل رصانة:
سآخذك لتتناول المثلجات لأنك قرأته بسرعة....

غمرتني السعادة لأن عمي بدأ يتسامح معي بعض الشيء....و حين كنتُ أهم بالذهاب ناداني،

طوى جريدته بحركات أرستقراطية و نهض بهدوء ثم توجه نحو غرفة مكتبه و أخذ كتابا و أعطانيه.كان كتابا ضخما ثقيلا مكتوبا باللغة الفرنسية و هو منقول عن اللغة العربية للكاتب المصري محمد حسنين هيكل وهو بعنوان " l’ automne de la colère " ( خريف الغضب ) تبادر إلى ذهني أن عمي يعاقبني بطريقة غريبة و لكن الشيء الوحيد الذي سيطر علي هو أن أسعى إلى ملء عقلي بالأفكار وعدم الاعتذار لأحد و خاصة له و لذلك أنفقت ذلك الصيف في قراءته وقد شعرت بالإنهاك و أنا أحاول فهمه عبثا، كان زاخرا بالأحداث التاريخية و المواقف السياسية المتشعبةولكن الإصرار على فهمه تملكني و استبد بي كعفريت أمرد على مدى سنوات.

البحث عن بئر الأفكار:

ظل عمي يدفعني لأتعرف على بئر الأفكار و استبد بي الضياع والحيرة وأصبح شعور الفشل يراودني من أن أعرف مكان هذا البئر و لم يتبادر إلى ذهني أن عمي سيدفعني إليه بلا رحمة..... ظللتُ خائفا أن أرتعش أو أعتذر. وبعد أسبوعين تقريبا كنت مع عمي في سيارته ذاهبا إلى المدينة لتناول المثلجات كان بمفرده هذه المرة و كانت " قابس" في ذلك الوقت مدينة من الروائح والسحر فعند مدخلها يتعانق أريج الحناء والرمان بمشهد خضرة النخيل والأواني الفخارية المصفوفة عند الباعة على جانبيْ الطريق إضافة إلى المظلات و القفاف المعمولة من السعف...ظل ذلك المشهد من ألوان الطفولة و أحلام الصغر و رائحة مطر الخريف...
لم تكن المرة الأولى التي يأخذني فيها معه إلى مدينة قابس ولذلك انتبهتُ إلى أنه أوقف سيارته بعيدا بعض الشيء عن مكتبه على غير عادته ثم ذهب واشترى لي " الكريمة " و أشار إلى مكان مكتبه بإصبعه إن احتجت شيئا، ترك السيارة مفتوحة و ذهب و هو يقول إنه لن يتأخر....تلك الكريمة المثلجة رغم طعمها الرائع لم يبق منها في ثنايا الذاكرة سوى رائحتها العجيبة...رائحة أشبه بالحلم و أقرب إلى طعم الطفولة و أشبه بمذاق الشمس... ولكن عمي تأخر وبدأ الملل يتخللني و انتبهت إلى المحل الذي كان يمين السيارة إنه مكتبة ضخمة و لا أدري كيف نزلت و دخلتها وشرعت أتفرج على تلك الكتب و البائع يتابع خطواتي بهدوء أليف، كانت أول مرة أدخل فيها مكتبة بذاك الحجم ثم أصبحتُ أمسك بعض الكتب و أقلّبها، وبعد مدة قليلة جذبتني على إحدى الكتب صورة لرجل يضع لباسا تقليديا لأهالي الجنوب الشرقي التونسي و يشبه كثيرا لباس جدي، كان عنوان الكتاب " الدغباجي بطل الثورة التونسية " وبينما كنت منغمسا في الكتاب رفعت رأسي و التفتُّ يسارا فرأيت عمي عند باب السيارة، أحسست أنه رآني ولكنني أسرعت بإرجاع الكتاب وبعد خطوات خاطفة رميت بنفسي على الكرسي الخلفي للسيارة و الاعتذار يسدّ حلقي فيكاد يقتلني.....خفت من ثورته و لكنني لم أتجرأ على الاعتذار..أما هو فقد تركني مرة أخرى بمفردي ونزل من السيارة بهدوء بالغ ثم دخل المكتبة، صافح البائع بحرارة بدا أنهما يعرفان بعضهما جيدا..كنتُ أتابع حركاته من وراء زجاج النافذة وكنتُ أشعر بنظراته تقتحم وحدتي وفي لحظة وجدته قد عاد...التفت إليّ وناولني الكتاب الذي كنت أقلبه " الدغباجي بطل الثورة التونسية"، فعل ذلك دون أن يقول كلمة.....

رحيل آخر النبلاء:

صندوقا من الأسراركان، و هدوءا يلامس شموخ الأرض فتروي هامته الفارعة خيوط الشمس و ظلال القمر....في كل خطوة يخطوها كان بحركاته الارستقراطية الوئيدة يسكب في السماء نظرات واثقة و دفقا من الكبرياء...هو رجل عركته الأيام فروّض الرياح و أنزل المطرْ....علمني عمي حب البساتين في الصباح و عشق البرية في الفجر..فأحببتُ بياض اللبن يشربه في الصباح و رائحة النعناع تراقص شايه الأخضر المر كل أصيل، وبرد الشتاء في رحلة صيد الحجل، و إصبعيه يداعبان المقود وهو يسوق سيارته....كان يبدو لي وكأنه قادم من عصر النبلاء..، كنتُ دائما ما أتساءل وأنا صغير لمَ لا يظهر على شاشة التلفازمثل الرؤساء والوزراء و نجوم السينما..... ذلك كان عمي..صندوقا من الأسرار...وشجرة ماتت واقفة وحين نضح الماء عنه واستبدت به الأفكار رحل عن الدنيا شامخا..........رحل عمي دون أن يرتعش أو يعتذر لأحد...لقد كانت أفكاره أثقل من التاريخ و أرقى من البشر، كانت بئره سيلا من الماء وغماما من الكبرياء...حين رحل فهمت لماذا قال لي " إن العظماء لا يرتعشون أبدا..."
أما أنا فقد ظللت أمتلئ خوفا من الارتعاش..في كل عام كان الاعتذار يستبد بي فأخنقه حتى يتبخر افكارا من أثير و كبرياء...و الآن وقد مرّ على رحيله أحد عشر اعتذارا و ابتسامة...أقف على ضريحه و أقول له ما ظل حبيسا في صدري مذ كنتُ طفلا أقول له بصوت مرتعش:
عمي...يا آخر النبلاء..سامحني لأني فهمتُ الدرس متأخرا..سامحني لأني أعتذر إليك الآن، فأنت الوحيد الجدير بالاعتذار في هذا العالم.....

ما لا أنساه هو يوم دخلتُ المكتبة وخالفتُ أوامره بأن خرجت من السيارة فبعد أن ناولني الكتاب ..سألني بصرامة خجلى :

لماذا خرجت من السيارة؟؟؟ وين كنت يا "سوفاج sauvage "؟!!!

لا أدري يومها كيف أسعفتني البديهة و تملكتني الشجاعة فأجبته بسرعة قائلا :

سِيدي ...كنت في " بِير الأفكار"...

في تلك اللحظة و أنا ممسك بكتابي الكنز الذي اشتراه لي بكل حرص،استغربتُ صمته الذي طال فرفعتُ نظري إلى المرآة الداخلية للسيارة عندها لمحتُ ابتسامته السمراء العاتية تملأ المكان....تلك الابتسامة التي تنضح فخرا و صخبا وامتلاء....تلك الابتسامة التي ستظل ماثلة أمامي كلما اشتريتُ كتابا.... أوهممتُ بأن أعتذر لأحد...أو أمسكتُ قلمي لأكتب.....


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى