الأربعاء ١٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم هيثم نافل والي

المخاض

جنَ الليل... وهل هناك أسمى وأروع من عدل الظلام وهو يطبق على الأرض وما تحمل على صدرها...؟ ليحولها إلى جسد واحد دونَ تفرقة وبلا امتياز أو شارة! لن تتعرف تحت جنح الظلام الدامس على الغرور أو التكبر ولا على الفقير والغني ولا على العاقل والمجنون... فتتساوى حظوظ الناس، ليصبح الجميع عبيد الله فقط! بعدَ أن تصطبغ الأشياء بلونٍ واحد... وليس هناك جبروت أو قوة على الأرض تستطيع زحزحته من مكانة... إلا واجده!

... ينظر ضابط الحراسات(النقيب لطفي) بعيون جاحظة مثل بوم عجوز، في تلك الليلة إلى شاشة التلفاز الصغيرة، وإذا به يصعق من المفاجأة... المنظر مؤلماً ومروعاً، شيء لا يصدقه العقل! خارق كالمعجزة... ينقلُ حياً على الهواء... بهتَ كالصنم بعدَ أن توسط غرفته بلا حراك، ترتجف أطرافه من الانفعال، وهو يغمغم:

نقودي... عشرة الآلف دولار خضراء بلون الشجر! ثمَ زمجر بصوت قوي كصوت البوق:
لتأخذني العفاريت... لقد فقدت ثروتي وإلى الأبد...

لم ينتصف الليل بعد... حتى علت موجة من الصرخات التي شقت الأفاق وفظة بكارة صمت الليل وسكونه! ثمَ أطبق الهدوء مجدداً وكأنَ شيئاً لم يكن! بعدها عادت الطلاقات التي تنبئ بقرب الولادة...

فلم تجد سوسن بد من الاتصال بزوجها الذي وقعت عليه الليلة نوبة الحراسة في معسكر الرشيد الذي يؤدي فيه خدمة العلم.

 الو... أرجوكم أنا زوجة الجندي المكلف سعيد فاضل، إني في حالة يرثى لها... صدقوني بينَ الحياة والموت، سأولد وأنا وحيدة هنا... ثمَ بدأت زفراتها تعلو لتنتحب وتشهق في بكاء موجع كزئير الرياح دونَ إرادة وهي تتلعثم بالكلمات، واستطردت بتأثر وهي ترتعش:

أتوسل إليكم، إنها الولادة الأولى بعدَ طول انتظار...أود أن أخبر زوجي فقط... إنني بحاجه ماسه إليه ... أرجوكم! ثمَ غرقت في موجة صراخ وهي تستغيث، ومن يراها في تلك اللحظة سيقول بأنها ستموت أبداً شاءت أم أبت...

 نعم، أنا سعيد، ما الذي يحصل...؟ ولم تجعله يسترسل في أسئلته، فقاطعته بحدة وهي تجهش في بكاء وعويل حاد يقطع أوصال قلب عدوها وطلبت منه الإسراع بالحضور لعله ينقذها أو ينقذ الجنين في أسوء الأحوال( حسب تصورها) وأنقطع الخط! فبقيت تجابه مصيرها وهي على حافة الموت الأكيد تتصارع معَ آلامها... وحيدة وكأنَ الجميع في تواطأ معَ القدر!

لم يكذب سعيد خبراً... تركَ سماعة الهاتف تهوي على الأرض كالحجر دونَ وعي وأندفعَ راكضاً كعادته، في سباق معَ الزمن! ليطرق باب غرفة ضابط الحراسات بقبضة يده بقوة، فكادت تتحطم تحت وطأة طرقاته التي تشبه ضربات مطرقة حداد!

وقفَ الضابط لطفي منتصباً ورأسه يهتز وجسمه يتمايل مثل أفعى ترقص! مرتبكاً وغاضباً والشرر يتطاير من عينية الجاحظتان التي لا لونَ مميز لها... شبيه بعيون قطة دنمركية مهجنة! وهو يزمجر كحيوان مثخن بالجراح! ويكيل الشتائم بكل وقاحة وكأنَ مساً من الجنون قد أصابه:
ما وراءك يا أبن ال...؟! كيفَ تجرؤ على اقتحام غرفتي هذه كالبربري! ثمَ أستطردَ باستهتار واضح وبحنق يكاد يحرقه:

هل نسيت نفسك يا عسكري؟! ستأخذ عقابك صارماً على فعلتك هذه... أوعدك بذلك!
 أنا أعتذر يا سيدي على دخولي غرفتكم بهذه الطريقة الهمجية، ولكن لي أسبابي... أجابه سعيد وهو يتلوى من القلق وكأنه يجاهر بمقت الإثم! وأشرع:

زوجتي تولد وهي وحيدة، ثمَ تعثر بالكلام... صمتَ برهة، ثمَ قالَ باستكانة:

قدر ظرفي يا سيدي فنحن ننتظر هذا المولود منذ خمسة سنوات وهي...

 قاطعه النقيب بحدة خادعة: أنا أعلم بأنك يا سعيد رجل غني ومتمكن وتعمل صائغ للمصوغات الذهبية وتمتلك أفضل المتاجر في قلب بغداد... ثمَ أردف بخبث الحاسد:
إذا قدرت ظروفك، منْ يقدر ظروفنا نحن، الذين يعيشون من رواتبهم فقط؟!
 لكَ ما تأمرني به يا سيدي!

 عشرة الآلف دولار! والآن( قالها وكأنه يحاول مساومته)

 نعم، لكم ما تريدون، ولكن من أين لي بالمال الآن؟! فأنا هنا أؤدي واجبي كما تعلمون يا سيدي.
 لم يصدق نفسه وكأنه يحلم! كشرَ وقطب حاجبيه وهو يبتسم وكأنه ينوي أن ينسى شروره ودمدم:

إذن أكتب لي ورقة على أنك استدنت مني هذا المبلغ لحاجتك الماسة له... ثمَ أشارَ وهو يودعه:

يمكنك الذهاب وإلى الشيطان...

لقد كانَ سعيد شاباً غير متعلم، أقصد ترك الدراسة وهو مازال في السنة الخامسة من الابتدائية، عندها توجه إلى العمل عند أحد الصاغة، تعلم المهنة التي أحبها جداً، بمهارة وبسرعة فائقة. ثمَ لعب الدينار في يده وأصبحَ من الأغنياء الذين يحسدون! لم يتجاوز الثلاثين من عمره. مكتنز اللحم، له شارب عريض قروي، لعيونه سحر عجيب لها لون العسل المصفى، شهم، عنيد في الحق كزنجي! لا يهاب أحداً كالدب،
ويحب الجميع وكأنَ الناس... كل الناس أهله.

لم يستطيع قيادة سيارته في تلك اللحظات الحاسمة الصعبة، خانته شجاعته، وطغى القلق عليه وشعرَ بالارتباك يطوقه كالمرض! فالضغط النفسي الذي تعرض له كادَ يؤدي بحياته... لذلك أتفق مع إحسان( عسكري صديق له) يقطن أحدى مدن الجنوب العراقي- يبيت في المعسكر لبعد سكن أقامته- بأن يأتي معه لقيادة السيارة، وافق الأخير عن طيب خاطر دونَ تردد، وانطلقا بسرعة كالريح...

أنتصف الليل، نامَ الجميع حتى الطرقات والمحال التجارية! كل شيء كانَ هادئاً في تلك الليلة...

الأجواء الربيعية الرائعة، كانت قد هلت على بغداد كالعيد! ساكنة، وادعة وخجولة. القمر يرسل على المدينة أضواء وأشعة ساحرة خلابة كشلالات من الفضة! لم يكن ما يزعج الهدوء وصمت الليل سوى صرخات سوسن التي باتت تعلن عنها كل خمسة دقائق...! وهي منهارة وكأنها ستفارق الحياة...

 سهرَ الضابط لطفي بقلب صافي وبذهن متفتح وبخيالات نرجسية رائعة وهو يضغط على الورقة التي أنتزعها من سعيد بدهاء وكأنه يمسك قلبه! انتشرت الطمأنينة في كل خلايا جسمه وسرت في دمه وخمنَ بأنه سيعيشُ هكذا دهراً... ثمَ دارت الأفكار في عقله كما تدور كؤوس الخمرِ في الرأس وقالَ مخاطباً نفسه بفرح غامر وبغبطة عامرة تملئها المسرات بشكل عجيب:

ماذا تنوي تفعل بهذا المبلغ يا صاح؟! وشرعَ بتفاؤل، أنه رقم خرافي، لم أتوقع بأن سعيد يحب زوجته لهذه الدرجة التي تجعل منه يقبل عرضي دونَ مساومة( وهو يرفع الورقة عالياً ويقبلها وكأنها أبنته الصغيرة) ثمَ يقهقه باستهتار هه... هه... هه... ويقول: يا له من مجنون، ثم علت ضحكاته التي تشبه صرير عجلات قطار يمر سريعاً! يدور حول نفسه حاله حال السكران وهو يغني... صاحبنا ليسَ مجنون فحسب، بل مجنون ليلى ها... ها... ها... ثمَ يلفت انتباهه الخبر المعروض على شاشة التلفاز الذي ينقل حياً على الهواء... ينظر إلى الشاشة بعيون جاحظة كعيون بوم عجوز! وإذا به يصعق من المفاجأة ... المنظر مؤلماً ومروعاً، شيء لا يصدقه العقل! خارق كالمعجزة... بهتَ كالصنم بعدَ أن توسط غرفته بلا حراك، ترتجف أطرافه من الانفعال، وهو يغمغم:

نقودي... عشرة الآلف دولار خضراء بلون الشجر! ثمَ زمجر بصوت قوي كصوت البوق وقال:
لتأخذني العفاريت... لقد فقدت ثروتي وإلى الأبد...

تنويه:

أسئلة كثيرة أتركها للقارئ هو الذي يجيب عليها، فقد عجزت عن إيجاد أجوبة تقنعني ومن خلالها أقول: نعم ، هذا الذي حدث!

 ما هو الحدث الذي شاهده الضابط لطفي على شاشة التلفاز وهو ينقل حياً؟

 ماذا حدثَ لإحسان صديق سعيد وهو يمد يد العون بدافع الخير؟

 هلَ مات سعيد أثناء رجوعه إلى داره؟! وماذا عن زوجته سوسن وجنينها الذي يمكن ولادته في أي لحظة؟

 ليبقى السؤال الذي يلح علي كذبابة وهي تطن في إذني! أتحرق لمعرفة أو إدراك جوابٌ شافي له يشبع فضولي: كيفَ عاشَ بعد ما رأى الضابط لطفي الحدث؟ وهل حاول استرداد ماله(حقه)؟! وإذا كانَ الأمر كذلك، يطالب من في هذه الحالة؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى