الجمعة ٣٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

لهذه سأرحل

أعتقد في الكثير من الأحيان أنّني رجل غير عادي. فأنا ألتقي برفاقي وأصحابي وزملائي في العمل، فيسألونني ما إذا تابعتُ البرنامج التلفزيوني كذا، والمقابلة السياسية كيدا، والمسلسل الدرامي التركي أو الكوري أو المكسيكي كادو؟ بل إنّ بعضهم سألني: «ما رأيك في مقدّمة برنامج الطبخ الأزلي كذات؟» وآخر استفسرني: «في برنامج الاتّجاه المعاكس، مع أيّ دكتور عبقري أنتَ؟» وسألتني طالبة:«هل صحيحٌ أنّ مسحوق الصابون (...) يقضي على الجراثيم بنسبة 99,99% ؟» وللمزيد من الإقلاق جاءني طالبٌ وطالبة؛ الأوّل بهذا السؤال:«هل أنتَ من مشجِّعي فريق البارصا الكروي أم مع فريق الرّيال؟» والثانية بهذا السؤال:«صادفتُ خطبة فضائية ليلة عاشوراء...هل الشيعة مسلمون؟» وللمزيد من الضغط الدموي المرتفع، سألني ابني: «هل الشيوعيون المغاربة مسلمون؟ أطرح عليك هذا السؤال لأنني رأيتُ زعيم حزبنا الإسلامي يعانق زعيم أقدم حزب شيوعي في المغرب ويقدّم له بعض الحقائب الوزارية في حكومته».

ورأيتُ وجهاً «سخافياً» نسوياً مبتذلا عتيقاً أُمِّياً عقيماً مُضرّاً «ينسِّطُ» برنامجاً رديئاً يُعنى بصحّة النساء وجمالهن، وممثّْلة أحفورية زوجة دينصور متأحفر في التلفزة المغربية لا تموت وتتبرّزُ على المشاهدين كما تريد ومن دون حسيب ولا رقيب، وضبُعاً من آكلات الجِيَف والقمامة متوهِّما أنّ فنَّ الإضحاك سهلٌ عليه، صعبٌ على نُقّاد السينما، ورجُلَ مسرح في صورة جرادة جائعة يدخّن لأجل الدّور سيجارا أكبر منه، وآخر في شكل قرد «يقرّدُ» القرود البشرية ويغتني من مهنة القِرادة هذه، وبطلات أفلام مستوردة عمياوات وعرجاوات وبكماوات ومُقمّلات يتحولن ـ بفعل السينما ـ إلى حسناوات خاليات من أيّ عيب؛ وذلك لإسعاد الفقيرات من المشاهِدات وبعولهن...

كما رأيتُ (في الفضائيات دوما) شياطين بلحى يفتون في جميع الأمور؛ من جواز التوضؤ بماء سقط فيه فأر غَلِف قادم من دار جار كافر، إلى وجوب التحلّي بالصبر والتقيّة عند ظلم الحكام. ورأيتُ دميةً مغنّيّةً راقصةً تحلُّ بمرّاكش وبأكادير، فتلهفُ الملايين من الدراهم لا لشيءٍ شوى أنّها زكزكتْ بمؤخِّرتِها الصغيرة وغنّتْ:«كِيدا ولاّ كيدا...» لعشرات الآلاف من الفقراء الذين لا يكسبون عشرة دراهم في اليوم.

لصحّة الشعب، يجب على وزارة الصحّة أن تمنع الشعبَ من مشاهدة التلفزيون؛ لأنّ التلفزيون يورث لمشاهديه العديد من الأمراض؛ومنها ارتفاع ضغط الدم، والأرق، والانهيار العصبي، والتخلُّف العقلي، وأمراض الخمول والكسل واستحلاء التفاهات، والاستلاب الفكري، والضمور العاطفي، والانتكاس الجنسي...

كيف لا نُصاب بهذه الأدواء وأكثر منها خطورة وقد رأينا في التلفزيونات الفضائية؛ بِغالا تغني بحناجر حديدية وجبهات من فولاذ، أساتذة فاشلين انتحلوا صفة التنشيط الفنّي وسقطوا في الرشوة المالية والجنسية، برلمانيين أمِّيين أحسن ما يعرفون فعلَه هو النوم على مقاعد البرلمان، مسابقات حِمارية تطرح على المشاهدين سؤال:«من هو الحيوان الذي يقول مْياوْ؟» لأجل سرقة أموالهم من خلال المهاتفة، رياضيين شباب ناجحين بصدقهم الرياضي ثم بعد الشهرة، يستحيلون إلى العجرفة فيصيرون من الخاسرين على الدوام...
أزف الرحيل، فإمّا أن ترحل الفضائيات العربية عنّي أو أرحل أنا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى