السبت ٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٢
بقلم جميل حمداوي

النقــــد الثقافي بين المطرقة والسندان

يعد النقد الثقافي من أهم الظواهر الأدبية التي رافقت مابعد الحداثة في مجال الأدب والنقد، وقد جاء كرد فعل على البنيوية اللسانية، والسيميائيات، والنظرية الجمالية (الإستيتيقية)، التي تعنى بالأدب باعتباره ظاهرة لسانية شكلية من جهة، أو ظاهرة فنية وجمالية وبويطيقية (شعرية) من جهة أخرى. ومن ثم، فقد استهدف النقد الثقافي تقويض البلاغة والنقد معا، بغية بناء بديل منهجي جديد يتمثل في المنهج الثقافي الذي يهتم باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة، ودراستها في سياقها الثقافي والاجتماعي والسياسي والتاريخي والمؤسساتي فهما وتفسيرا. وقد تأثر المنهج الثقافي بمنهجية جاك دريريدا التفكيكية القائمة على التقويض والتشتيت والتشريح، ولكن ليس من أجل إبراز التضاد والمتناقض، و تبيان المختلف إضاءة وهدما وتأجيلا، بل من أجل استخراج الأنساق الثقافية عبر النصوص والخطابات سواء أكانت تلك الأنساق الثقافية مهيمنة أو مهمشة، وموضعتها في سياقها المرجعي الخارجي، متأثرة في ذلك بالماركسية الجديدة، والتاريخانية الجديدة، والمادية الثقافية، والنقد الكولونيالي(الاستعماري)، والنقد النسوي الذي يدافع ثقافيا عن كينونة التأنيث في مواجهة سلطة التذكير.إذاً، ماهو النقد الثقافي؟ وماهو تطوره التاريخي؟ وماهي مرتكزاته المنهجية؟ وماهي سلبياته وإيجابياته؟ تلكم هي مجمل القضايا التي سوف نحاول رصدها قدر الإمكان في موضوعنا هذا، والذي يندرج ضمن ما يسمى اليوم بنقد النقد.

1- مفهـــــوم النقد الثقافي:

من المعلوم أن مصطلح الثقافة عام وعائم وفضفاض في دلالاته اللغوية والاصطلاحية، ويختلف من حقل معرفي إلى آخر، وهو من المفاهيم الغامضة في الثقافتين: الغربية والعربية على حد سواء. فالثقافة بطابعها المعنوي والروحاني تختلف مدلولاتها من البنيوية إلى الأنتروبولوجيا وما بعد البنيوية. وتندرج الثقافة مجاليا ضمن الحضارة التي تنقسم إلى شقين: الشق المادي والتقني، ويسمى بالتكنولوجيا، والشق المعنوي والأخلاقي والإبداعي، ويسمى بالثقافة(Culture).

ومن ثم، يمكن الحديث عن نوعين من الدراسات التي تنتمي إلى النقد الحضاري، الدراسات الثقافية التي تهتم بكل ما يتعلق بالنشاط الثقافي الإنساني، وهو الأقدم ظهورا، والنقد الثقافي الذي يحلل النصوص والخطابات الأدبية والفنية والجمالية في ضوء معايير ثقافية وسياسية واجتماعية وأخلاقية، بعيدا عن المعايير الجمالية والفنية والبويطيقية، وهو الأحدث ظهورا بالمقارنة مع النوع الأول. وبالتالي، يعنى النقد الثقافي بالمؤلف، والسياق، والمقصدية، والقارىء، والناقد. ومن ثم، فالنقد الثقافي نقد إيديولوجي وفكري وعقائدي. وهكذا، فقد رفض المثقفون الأمريكيون القاطنون بمدينة نيويورك منح جائزة بولنجتون في عام 1949 م للشاعر عزرا باوند؛ لأنه كان مؤيدا لموسوليني وهتلر في الحرب العالمية الثانية. ويعني هذا أن هؤلاء المثقفين كانوا ينطلقون من مسلمات ثقافية وسياسية وأخلاقية، أكثر من انطلاقهم من مرتكز النص أو الخطاب، وذلك باعتباره علامة ثقافية وسياقية، تحمل مقاصد مباشرة وغير مباشرة، قبل أن يكون علامة جمالية أو فنية أو شكلية. ومن ثم، يهدف النقد الثقافي إلى كشف العيوب النسقية التي توجد في الثقافة والسلوك، بعيدا عن الخصائص الجمالية والفنية. ويعني هذا أن النقد الثقافي هو:" فعل الكشف عن الأنساق،وتعرية الخطابات المؤسساتية، والتعرف على أساليبها في ترسيخ هيمنتها، وفرض شروطها على الذائقة الحضارية للأمة."#

هذا، ويرى مجموعة من النقاد الثقافيين كفانسان ليتش، وعبد الله محمد الغذامي، وغيرهما... بأنه آن الآوان للاهتمام بالنقد الثقافي باعتباره بديلا للنقد الأدبي، بعد أن وصل هذا النقد – حسب عبد الله محمد الغذامي- إلى سن اليأس، ووصلت البلاغة العربية بعلومها الثلاثة(البيان، والمعاني، والبديع) إلى مرحلة العجز والموت، حيث يقول الغذامي:" مازلنا ندرس طلابنا في المدارس والجامعات مادة البلاغة بعلومها الثلاثة، ولانعي أن ماندرسه لهم هو علم لم يعد يصلح لشيء، فلا هو أداة نقدية صالحة للتوظيف، ولا هو أساس لمعرفة ذوقية أو تبصر جمالي، وإن كانت قديما كذلك إلا أنها لم تعد أساسا لتصور ولا لتذوق. ومن ذا يحتاج إلى رصد الكنايات والجناسات والطبقات في أي نص، ومن ذا يحتاج إليها لتذوق أي نص أو تعرف صيغه ودلالاته، ونحن في الجامعات ندرس طلابنا وطالباتنا كل ماهو نقيض لهذه البلاغة ومتجاوز لها، ولكننا لانجرؤ على إلغاء مقررات البلاغة، وقد نظن أن إلغاءها سيكون بمثابة الانتحار المعرفي، أو التآمر ضد التراث، وضد ذائقة الأمة. تتصنم العلوم مثلما يتصنم الأشخاص حتى لتبلغ حد القداسة، وأنا أرى أن النقد الأدبي كما نعهده، وبمدارسه القديمة والحديثة قد بلغ حد النضج، أو سن اليأس حتى لم يعد بقادر على تحقيق متطلبات المتغير المعرفي والثقافي الضخم الذي نشهده الآن عالميا، وعربيا، بما أننا جزء من العالم متأثرون به ومنفعلون بمتغيراته. ولسوف أشرح أسباب هذه النظرة عندي فيما يلي من ورقات، وأبدأ بما صار يأتيني من أسئلة حول مشروعي في (النقد الثقافي)، وعن كونه بديلا عن النقد الأدبي وعن إعلان موت النقد الأدبي."#

وعليه، فالنقد الثقافي هو الذي يدرس الأدب الفني والجمالي باعتباره ظاهرة ثقافية مضمرة. وبتعبير آخر، هو ربط الأدب بسياقه الثقافي غير المعلن. ومن ثم، لايتعامل النقد الثقافي مع النصوص والخطابات الجمالية والفنية على أنها رموز جمالية ومجازات شكلية موحية، بل على أنها أنساق ثقافية مضمرة تعكس مجموعة من السياقات الثقافية التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والقيم الحضارية والإنسانية. ومن هنا، يتعامل النقد الثقافي مع الأدب الجمالي ليس باعتباره نصا، بل بمثابة نسق ثقافي يؤدي وظيفة نسقية ثقافية تضمر أكثر مما تعلن.

زد على ذلك، علينا ألا نخلط النقد الثقافي بنقد الثقافة أو الدراسات الثقافية العامة، فالنقد الثقافي هو الذي يتعامل مع النصوص والخطابات الأدبية والجمالية والفنية، فيحاول استكشاف أنساقها الثقافية المضمرة غير الواعية، وينتمي هذا النقد الثقافي إلى ما يسمى بنظرية الأدب على سبيل التدقيق. في حين، تنتمي الدراسات الثقافية إلى الأنتروبولوجيا والإتنولوجيا وعلم الاجتماع والفلسفة والإعلام وغيرها من الحقول المعرفية الأخرى. وفي هذا السياق، يقول عبد الله الغذامي:" ونميز هنا بين (نقد الثقافة) و(النقد الثقافي)، حيث تكثر المشاريع البحثية في ثقافتنا العربية، من تلك التي عرضت وتعرض قضايا الفكر والمجتمع والسياسة والثقافة بعامة، وهي مشاريع لها إسهاماتها المهمة والقوية، وهذا كله يأتي تحت مسمى (نقد الثقافة)، كما لابد من التمييز بين الدراسات الثقافية من جهة والنقد الثقافي من جهة ثانية، وهذا تمييز ضروري التبس على كثير من الناس حيث خلطوا بين (نقد الثقافة) وكتابات (الدراسات الثقافية)، وما نحن بصدده من (نقد ثقافي)، ونحن نسعى في مشروعنا إلى تخصيص مصطلح (النقد الثقافي) ليكون مصطلحا قائما على منهجية أدواتية وإجرائية تخصه، أولا، ثم هي تأخذ على عاتقها أسئلة تتعلق بآليات استقبال النص الجمالي، من حيث إنه المضمر النسقي لايتبدى على سطح اللغة، ولكنه نسق مضمر تمكن مع الزمن من الاختباء، وتمكن من اصطناع الحيل في التخفي، حتى ليخفى على كتاب النصوص من كبار المبدعين والتجديديين، وسيبدو الحداثي رجعيا، بسبب سلطة النسق المضمر عليه."#

وعليه، فالنقد الثقافي عبارة عن مقاربة متعددة الاختصاصات، تنبني على التاريخ، وتستكشف الأنساق والأنظمة الثقافية، وتجعل النص أو الخطاب وسيلة أو أداة لفهم المكونات الثقافية المضمرة في اللاوعي اللغوي والأدبي والجمالي. أما الدراسات الثقافية، فتهتم بعمليات إنتاج الثقافة وتوزيعها واستهلاكها، وقد توسعت لتشمل دراسة التاريخ، وأدب المهاجرين، والعرق، والكتابة النسائية، والجنس، والعرق، والشذوذ، والدلالة، والإمتاع... وكل ذلك من أجل كشف نظرية الهيمنة وأساليبها.

2- تطـــور النقـــد الثقافـــي:

من المعلوم أن الدراسات الثقافية قد ظهرت منذ القرن التاسع عشرأو ربما قبل هذه الفترة بكثير، في ظل العلوم الإنسانية( علم الاجتماع، والأنتروبولوجيا، والإثنولوجيا، وعلم النفس، وعلم التاريخ، والفلسفة...)، وذلك مع انبثاق الثورة الصناعية. هذا، وقد انتشرت الدراسات الثقافية بشكل متميز في الغرب منذ سنة 1964م، وذلك مع تأسيس مركز بريمنغهام للدراسات الثقافية المعاصرة، وبروز مدرسة فرانكفورت في الأبحاث الثقافية ذات الطابع النقدي والسوسيولوجي، لتنتشر الدراسات الثقافية بشكل موسع في سنوات التسعين في مجالات عدة، بعد أن استفادت من البنيوية ومابعد البنيوية. وتشكلت على هداها نظريات ومذاهب وتيارات ومدارس واتجاهات ومناهج نقدية وأدبية وظهرت في الغرب مجموعة من الدراسات الثقافية لدى رولان بارت، وميشيل فوكو، وبيير بورديو صاحب المادية الثقافية، وإدوارد سعيد، وهومي بابا، وجي سي سبيفاك، وجان بودريار، وجان فرانسوا لوتار...

ويعني هذا أن مدرسة بريمنغهام الإنجليزية ومدرسة فرانكفورت الألمانية من المدارس التي ساهمت في إغناء الدراسات الثقافية، فكانت النظرية النقدية تنظر إلى النقد الأدبي على أن من بين وظائفه الرئيسة هي:" التصدي لمختلف الأشكال اللامعقولة التي حاولت المصالح الطبقية السائدة أن تلبسها للعقل، وأن تؤسس اليقين بها على اعتبار أنها هي التي تجسد العقل، في حين أن هذه الأشكال من العقلانية المزيفة ليست سوى أدوات لاستخدام العقل في تدعيم النظم الاجتماعية القائمة، وهو ما دعاه هوركايمر بالعقل الأداتي."#

وكانت هناك نظريات أخرى ساهمت في إفراز النقد الثقافي والدراسات الثقافية إلى جانب مدرسة بريمنغهام ومدرسة فرانكفورت كنظرية ما بعد الحداثة، والنظرية التفكيكية، ونظرية التعددية الثقافية، والنقد النسوي، والمادية الثقافية، والماركسية الجديدة، ونظرية الجنوسة، والنقد الكولونيالي (الاستعماري)، ونظرية الاستجابة والتلقي، وثقافة الوسائل والوسائط الإعلامية، والخطاب السردي التكنولوجي...

هذا، ويمكن الحديث عن نوعين من الثقافة: ثقافة الاستقبال وثقافة الرفض والمقاومة. وتنبني ثقافة الرفض بدورها على أنواع ثلاثة من القراءات: قراءة الهيمنة، وقراءة التحاور، وقراءة المعارضة.

بيد أن الظهور الفعلي والحقيقي للنقد الثقافي لم يتحقق إلا في سنوات الثمانين من القرن العشرين(1985م)، وذلك في الولايات المتحدة الامريكية، حيث استفاد هذا النقد من البنيوية اللسانية، والأنتروبولوجيا،والتفكيكية، ونقد ما بعد الحداثة، والحركة النسوية، ونقد الجنوسة، وأطروحات مابعد الاستعمارية... ومن ثم،لم ينطلق النقد الثقافي إلا بظهور مجلة:" النقد الثقافي" التي كانت تصدر في جامعة مينيسوتا في شتى المجالات الثقافية#. وبعد ذلك، أصبح النقد الثقافي يدرس في معظم جامعات الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تعنى أيما عناية بتدريس العلوم الإنسانية. بيد أن مصطلح النقد الثقافي لم يتبلور منهجيا إلا مع الناقد الأمريكي فنسان.ب.ليتش، الذي أصدرسنة 1992م كتابا قيما بعنوان:" النقد الثقافي:نظرية الأدب لما بعد الحداثة"#. ومن ثم، فليتش هو أول من أطلق مصطلح النقد الثقافي على نظرية مابعد الحداثة، واهتم بدراسة الخطاب في ضوء التاريخ والسوسيولوجيا والسياسة والمؤسساتية ومناهج النقد الأدبي. وتستند منهجية ليتش إلى التعامل مع النصوص والخطابات ليس من الوجهة الجمالية ذات البعد المؤسساتي، بل تتعامل معها من خلال رؤية ثقافية تستكشف ماهو غير مؤسساتي وماهو غير جمالي. كما يعتمد النقد الثقافي عند ليتش على التأويل التفكيكي، واستقراء التاريخ، والاستفادة من المناهج الأدبية المعروفة، والاستعانة بالتحليل المؤسساتي... كما أن منهجية ليتش هي منهجية حفرية لتعرية الخطابات، بغية تحصيل الأنساق الثقافية استكشافا واستكناها، وتقويم أنظمتها التواصلية مضمونا وتأثيرا ومرجعية، مع التركيز على الأنظمة العقلية واللاعقلية للظواهر النصية لرصد الأبعاد الإيديولوجية، متأثرا في ذلك بجاك ديريدا، ورولان بارت، وميشيل فوكو...

ويعني هذا أن ليتش ينتمي إلى نقد ما بعد الحداثة، حيث يلتجىء إلى تشريح النص تفتيتا وتفكيكا، واستجلاء الأنظمة غير العقلية والأنساق الثقافية الإيديولوجية ضمن رؤية انتقادية وظيفية. وبتعبير آخر، يتعامل ليتش مع النص أو الخطاب من خلال التركيز على الأنظمة العقلية واللاعقلية، وتفكيكها اختلافا وتقويضا وتضادا، وذلك على غرار التصور التفكيكي عند جاك ديريدا. ويعمل ليتش أيضا على نقد المؤسسة الأدبية التي توجه أذواق القراء بالطريقة التي ترتضيها هذه المؤسسة. ومن ثم، ينتقد ليتش المؤسسة الثقافية التي كان لها تأثير سلبي على طريقة التلقي والاستجابة لدى القراء. وهنا، يتفق ليتش في نقده مع نقاد استجابة القارىء، مثل: بليتش وفيش... ويتفق كذلك مع نقاد مؤسسة الأدب كتودوروف وكوللر، وتأثر كذلك بميشيل فوكو، وجيل دولوز، وليوتار الذين انتقدوا مؤسسات المجتمع الاستهلاكي من خلال ربط الخطاب بالمؤسسة. كما يستعرض ليتش مجموعة من الأعمال الثقافية التي تنتمي إلى النقد المؤسساتي، مثل: كتاب إدوارد سعيد عن "الاستشراق"، وكتاب ميشيل فوكو حول: " السلطة والمعرفة". وهنا، يضيف ليتش مصطلحا آخر إلى نظرية التقويض لدى جاك ديريدا، وهو مصطلح التمأسس (Instituting)، ويعني المصطلح استحالة الهروب من المؤسسة، بدلالة أنه لايمكن محاربة المؤسسة إلا بواسطة مساءلة المؤسسة نفسها.#

ومن أهم النقاد العرب الذين انبهروا بالنقد الثقافي عند فانسان ليتش هو الناقد السعودي عبد الله محمد الغذامي في مجموعة من كتبه النظرية والتطبيقية، مثل: " " النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية الغربية" (2000م)، وكتاب :" تأنيث القصيدة والقارىء المختلف"(1999م)#، وكتاب:" نقد ثقافي أم نقد أدبي" (2004م)...

فإذا أخذنا كتابه القيم:" النقد الثقافي" الذي ظهر في طبعته الأولى سنة 2000م، فيحدد فيه الكاتب مفهومه للنقد الثقافي، ويذكر أهم الخلفيات المعرفية التي كانت وراء ظهور النقد الثقافي، مع التركيز على (فانسان ليتش) باعتباره رائد النقد الثقافي في الحقل النقدي الأمريكي. وبعد ذلك، ينتقل الكاتب إلى توضيح عدته المنهجية التي حصرها في مجموعة من المفاهيم، كالجملة الثقافية، والمجاز الثقافي، والتورية الثقافية، والدلالة الثقافية، والوظيفة النسقية، والنسق المضمر، والمؤلف المزدوج...ومن ثم، يخلص الكاتب إلى تطبيق منهجيته الثقافية على الشعر العربي القديم والحديث والمعاصر، مركزا على أشعار المتنبي، وأبي تمام، ونزار قباني، وأدونيس...

هذا، وقد توصل الباحث إلى أن هذا الشعر كان شعر الفحولة، والتغني بالطاغية الذكوري، وقد امتد هذا إلى شعر الحداثة الذي صار شعرا رجعيا ؛ لأنه يسير على النهج القديم في تمجيد الفحولة والطاغية. وفي هذا النطاق، يقول الغذامي:" تصنع أدونيس شعرا جميلا وخلابا، لكنها لاتضيف شيئا جديدا جدة جوهرية إلى الثقافة العربية، ذلك لأن الشعر مذ معرفة الإنسان به يقوم على هذه الأسس، وهي أسس خالصة الشعرية، ولقد تشبعت الذات العربية بها منذ الأزل، وهي في عرفنا ما أسهم في شعرنة الشخصية العربية، وصيغها بالصبغة الشعرية، حتى صار النموذج الشعري هو الصيغة الجوهرية في المسلك والرؤية، مما سمح للنسق الفحولي التسلطي والفردي بأن يظل هو النهج والخطة.

وبما إن أطروحة أدونيس تدور حول هذا النموذج النسقي وتصدر عنه، فإنها لايمكن أن تكون أساسا للتحديث الفكري والاجتماعي.وملاحظة أدونيس على غياب الحداثة في البعد الاجتماعي والفكري صحيحة بالضرورة، والسبب فيه وفي نموذجه الذي هو نموذج مغرق في رجعيته، وإن بدا حداثيا، وادعى ذلك، إنها حداثة في الشكل وحداثة فردية متشعرنة، فيها كل سمات النموذج الشعري، بجماليته من جهة، وبنسقيته من جهة ثانية."#

أما في كتابه الثاني :" نقد ثقافي أم نقد أدبي؟"#، فقد دخل في سجال نقدي مع الدكتور عبد النبي اصطيف حول مبادىء النقد الثقافي، وقد تبين لنا مدى التباعد بين الكاتبين، واختلاف وجهة نظريهما بشكل طبيعي. فالأول يدافع عن النقد الثقافي، والثاني يدافع عن النقد الأدبي.
هذا، ويصدر الباحث الجزائري حفناوي بعلي كتابا بعنوان:" مدخل إلى نظرية النقد الثقافي المقارن"#، وقد اعتمد في عرض آرائه على كتابات عبد الله الغذامي، التي تعتبر مراجع ومصادرأساسية لكل الكتابات العربية في النقد الثقافي بحثا وجمعا وتوثيقا ونقدا.

أما الدكتور صلاح قنصوة في كتابه:" تمارين في النقد الثقافي"#، فإنه يدرس الجمل والأمثال الشعبية الشائعة والمتداولة بين الناس، وذلك في ضوء المقاربة الثقافية القائمة على مجموعة من التصورات الفلسفية ذات الطابع الاجتماعي، لكي يقيم الدليل على انعدام الهوة بين الإنسان العامي والإنسان المثقف، مختلفا في ذلك مع أبي حامد الغزالي، وابن سينا، وأبي حيان التوحيدي. ومن ثم، يتضمن الكتاب قواعد وتمارين تطبيقية ووضعيات للإنجاز.

وعليه، يعرف صلاح قنصوة الثقافة بأنها فعالية سلوكية وذهنية وفكرية يمكن تعليمها وتعلمها، ويتم نقلها عبر الأنساق و النظم الإجتماعية. وبعد ذلك، يقسم الثقافة إلى ثلاثة مستويات، ثقافة الجلد، و هى تتضمن العرق و الدين و اللغة، و ثقافة المشترك أو المتصل القومى، و الثقافة المعاصرة للمجتمع أو الأمة.

هذا، ويعرف النقد الثقافي بأنه دراسة النصوص والخطابات في ضوء المقاربة الثقافية، باعتبار أن النص حامل لثقافة معينة سواء أكانت مادية أم معنوية، قولا أم ممارسة فعلية. وبالتالي، يحصر النقد الثقافي في نقد الأساطير والأوهام على غرار تفكيكية جاك ديريدا، ونقد الأصولية الدينية تقويضا وتفكيكا، والوقوف ضد فكرة صراع الحضارات التي يطرحها صمويل هتنغتون، وتعرية الداروينية الجديدة، ونقد كل الأفكار والقضايا المستجدة في الساحة الفكرية العالمية بصفة عامة، والساحة العربية بصفة خاصة.

علاوة على ذلك، ينتقد بعض النصوص في ضوء المقاربة الثقافية كدراسة :" ألف ليلة وليلة" الزاخرة بالأنساق الجمالية والثقافية والفلسفية والحجاجية. كما يرصد المؤلف ثنائية الهوية والغير من خلال الدفاع عن الذات، ولكن الكاتب يمارس في الوقت نفسه النقد الذاتي لتقويم بنية الثقافة العربية تفكيكا وتشريحا ورصدا.

ومن الكتب التي تندرج ضمن النقد الثقافي ماكتبه محسن جاسم الموسوي تحت عنوان:" النظرية والنقد الثقافي"#، حيث يرى الكاتب بأن النقد الثقافي قد ظهر مرافقا لنظريات مابعد الحداثة أو مابعد البنيوية، وأن هذا النقد يستعين بمجموعة من العلوم المعرفية، لمعرفة أثر فعل الثقافة في المجتمعات. ويعنى الكتاب بقضية الحياة الثقافية وتعقيداتها وأنساقها في المجتمعات العربية. و الكتاب في الحقيقة دعوة صريحة لممارسة النقد الذاتي، وتصحيح أخطائنا وعيوبنا، والنظر إلى الواقع بمنظار تفكيكي حقيقي، بغية التحرر من شرنقات النقص والتخلف والتقوقع الحضاري. ويرى جاسم الموسوي بأن النقد الثقافي يهتم كثيرا بتناول النصوص والخطابات التي تحيل على الهامشي والعادي والمبتذل والعامي واليومي والسوقي والوضيع، وذلك في مقابل النصوص المنتقاة للكبار والمشهورين من الكتاب والمبدعين.

ويكاد يتفق محسن جاسم الموسوي مع عبد الله الغذامي، حينما يعتبر نظرية السرقات الشعرية وفكرة الطبقية لدى الجمحي وغيره تكريسا للثقافة المركزية القرشية، التي كانت تتحكم بشكل من الأشكال في توجيه متلقي الشعر العربي، إذ كانت تفرض مجموعة من مقاييس التقبل والاستجابة، وتشترط معايير الاستساغة الجمالية والفنية الصحيحة...#

3- المؤثـــــرات الثقافيــــة:

استفاد النقد الثقافي نظرية وتطبيقا من حقول ومجالات معرفية عدة، مثل: الفلسفة، والبلاغة، والأدب، والنقد. كما انفتح على مجموعة من المناهج النقدية تمثلا أو معارضة، مثل : البنيوية، والسيميائيات، والتفكيكية، والتأويلية، والنقد النسائي، والبنيوية الأنتروبولوجية، وجمالية القراءة، والماركسية الجديدة، والتاريخانية الجديدة، والنقد الكولونيالي أو ما يسمى أيضا بالنقد الاستعماري، والنقد الجنوسي... وبصفة عامة، لقد تأثر النقد الثقافي أيما تأثر بالنقد الحداثي والنقد ما بعد الحداثي على حد سواء.

كما تأثر هذا النقد الثقافي بكتابات ريتشاردز، ورولان بارت، وميشيل فوكو، وجاك ديريدا. وفي هذا النطاق، يقول الغذامي في كتابه:"النقد الثقافي":" لقد تدرجت النقلات النوعية في مجال النظر النقدي من أطروحة ريتشاردز في التعامل مع القول الأدبي بوصفه (عملا) إلى رولان بارت الذي حول التصور من (العمل) إلى (النص)، ووقوفه على الشفرات الثقافية كما فعل في قراءته لبالزاك وفي أعماله الأخرى التي فتح فيها مجال النظر النقدي إلى آفاق أوسع وأعمق من مجرد النظر من (النص) إلى (الخطاب)، وتأسيس وعي نظري في نقد الخطابات الثقافية والأنساق الذهنية. جرى الوقوف على فعل الخطاب وعلى تحولاته النسقية، بدلا من الوقوف على مجرد حقيقته الجوهرية، التاريخية أو الجمالية."#

ويبدو لنا من هذا أن النقد الثقافي أقرب إلى المنهج التفكيكي من باقي المناهج الأخرى ؛ نظرا لوجود مجموعة من القواسم المشتركة التي تتمثل في : الاختلاف، والتشريح، والنص المضاد، والتقويض، واستكشاف المضمر والمختلف...

وعليه، فقد ظهر النقد الثقافي في الغرب كرد رد فعل على النظرية الجمالية، والبنيوية اللسانية، والسيميائيات النصية، والبويطيقا، وفوضى التفكيك وعدميته، وذلك باتجاهاته المختلفة: الماركسية الجديدة، والمادية الثقافية، والتاريخانية الجديدة، وما بعد الكولونيالية، والنقد النسوي...#

هذا، وقد ارتبط النقد الثقافي، وذلك على مستوى التحليل، وتشغيل الآليات المنهجية، بمجموعة من العلوم الإنسانية، كالتاريخ، والإثنولوجيا، والأنتروبولوجيا، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والفلسفة، وعلوم الإعلام، وعلوم الحضارة.... إذاً، " فقد تبنت الدراسات الثقافية دور مساءلة العلوم المنتمية إلى الحقل الاجتماعي وعلوم الإنسان، واستجوبت ممارسات النقد الأدبي التقليدية وممارسات النظرية الجمالية، ولعبت فيها دورا حاسما، وهذا ما يجعلها إفرازا للنظرية البنيوية وما بعدها، وتجسيدا لما يمكن أن تفضي إليه مابعد البنيوية من دور في الحياة العامة، وهو دور أحجمت عنه ما بعد البنيوية في صورتها التقويضية لأسباب منهجية تتعارض جذريا مع طرحها، لكن الدراسات الثقافية تبنته، واعتبرته وازع قوتها، ودافع نشاطها."#
وهكذا، فالنقد الثقافي هو مجموعة من المناهج والمقاربات المتعددة الاختصاصات التي تصب كلها في الحقل الثقافي، وخدمة الأنساق المضمرة اللاعقلية والأنظمة الإيديولوجية.

3- مواضيع النقــــد الثقافي:

تتناول الدراسات الثقافية بصفة عامة والنقد الثقافي بصفة خاصة المواضيع ذات الطبيعة الثقافية والذهنية والفكرية سواء أكان ذلك في المجتمعات الطبيعية البدائية أم المجتمعات الثقافية المتمدنة.أي: دراسة ثقافات المجتمع المختلفة، ودراسة نظمه، وقيمه، وعاداته، وتقاليده، وأنماط تفكيره وتصوره. والتعريف كذلك بوسائطه، وفنونه، وإنسانياته. ويعني هذا أن الثقافة ترتبط بعالم الفن، والخيال، والأفكار، والتشكلات البشرية، والتركيز على المؤسسات الثقافية، وتبيان أنظمتها الدلالية، ومعرفة كل ما أنتجته الثقافة وما أفرزته.

ومن ثم، فالنقد الثقافي هو الذي يدرس النصوص والخطابات ضمن أنساقها الثقافية المضمرة، سواء أكان ذلك في الشعر أم الرواية أم القصة أم المسرح، بل يمكن القول : إن النقد الثققافي يمكن تطبيقه في جميع المجالات الأدبية والفنية. وبالتالي، يدرس النقد الثقافي مواضيع الطابو( المرأة، والجنس، والشذوذ، والسحاق، واللواطية، والاغتصاب...)، وعلاقة الأنا بالغير، والهويات المهمشة، والمواضيع المرفوضة والممنوعة في الأوساط الأكاديمية، كما تنكب على الأعراف غير المقبولة مؤسساتيا. وبهذا، تتحول ثقافة الهامش إلى ثقافة المركز. ومن " هذه الصعوبة القاهرة، أصبح التعامل مع الثقافة تعاملا محليا. أي: ضمن المؤسسة (الثقافة) الخاصة. ولذلك، يأتي تعريف الثقافة أبدا مقصورا على خصوصية مجتمعه، ومقصورا على ذاتية الخصوصية.أي: إن النظام الثقافي في خصوصيته سيبقى منغلقا على نفسه مهما حاول الانفتاح. ليس مستغربا أن نجد دراسات الثقافة تصب اهتمامها على جزئية فرعية أو على مجتمعات صغيرة جدا ومحدودة كالاهتمام بجزئية من قيم المجتمعات البدائية في علم الأنتروبولوجيا، أو دراسات الجنوسة (التذكير والتأنيث) كموضوعة (تيمة) في نصوص بعينها، أو التركيز على الجنس في الدراسات النسائية، وهلم جرا. ويعود سبب الخصوصية المنغلقة إلى حد الثقافة نفسه، وخصوصية الثقافة ذاتها. فإذا كان الحد يقضي بأن الثقافة نظام دلالي، فلابد أن يقف النظام الدلالي نفسه حدا بين ثقافة وأخرى."#

وعليه، فمواضيع النقد الثقافي عديدة ومتنوعة، ومن الصعب استقصاؤها، أما في مجال النقد الأدبي، فيدرس النقد الثقافي النصوص والخطابات من خلال الانتقال مما هو جمالي إلى ماهو ثقافي وتاريخي وسياسي وإيديولوجي ومؤسساتي.

4- مرتكزات النقــــد الثقافي:

ينبني النقد الثقافي على مجموعة من الثوابت والمفاهيم النظرية والتطبيقية، وهي بمثابة مرتكزات فكرية ومنهجية، لابد أن ينطلق منها الباحث أو الدارس لمقاربة النصوص والخطابات فهما وتفسيرا وتأويلا. وتتمثل هذه المفاهيم والمرتكزات في العناصر التالية:

الوظيفة النسقية: ويرى الغذامي أنه لابد من ربط النقد الثقافي بالنسقية، فإذا كان رومان جاكبسون قد حدد ست وظائف لستة عناصر، الوظيفة الجمالية للرسالة، والوظيفة الانفعالية للمرسل، والوظيفة التأثيرية للمتلقي، والوظيفة المرجعية للمرجع، والوظيفة الحفاظية للقناة، والوظيفة الوصفية للغة. فقد حان الوقت لإضافة الوظيفة النسقية للعنصر النسقي#. ويعني هذا أن النقد الثقافي يهتم بالمضمر في النصوص والخطابات، ويستقصي اللاوعي النصي، وينتقل دلاليا من الدلالات الحرفية والتضمينية إلى الدلالات النسقية.

 الدلالــــة النسقية: يستند النقد الثقافي إلى ثلاث دلالات: الدلالة المباشرة الحرفية، والدلالة الإيحائية المجازية الرمزية، والدلالة النسقية الثقافية. و" إذا قبلنا – يقول الغذامي- بإضافة عنصر سابع إلى عناصر الرسالة الستة، وسميناه بالعنصر النسقي، فهو سيصبح المولد للدلالة النسقية، وحاجتنا إلى الدلالة النسقية هي لب القضية، إذ إن ما نعهده من دلالات لغوية لم تعد كافية لكشف كل ماتخبئه اللغة من مخزون دلالي، ولدينا الدلالة الصريحة التي هي الدلالة المعهودة في التداول اللغوي، وفي الأدب وصل النقد إلى مفهوم الدلالة الضمنية، فيما نحن هنا نقول بنوع مختلف من الدلالة هي الدلالة النسقية، وستكون نوعا ثالثا يضاف إلى الدلالات تلك. والدلالة النسقية هي قيمة نحوية ونصوصية مخبوءة في المضمر النصي في الخطاب اللغوي. ونحن نسلم بوجود الدلالتين الصريحة والضمنية، وكونهما ضمن حدود الوعي المباشر، كما في الصريحة، أو الوعي النقدي، كما في الضمنية، أما الدلالة النسقية فهي في المضمر وليست في الوعي، وتحتاج إلى أدوات نقدية مدققة تأخذ بمبدإ النقد الثقافي لكي تكتشفها، ولكي تكتمل منظومة النظر والإجراء."#.

وما يهمنا في هذه الدلالات الثلاث هي الدلالة الثقافية الرمزية التي تكتشف على مستوى الباطن والمضمر، فتصبح أهم من الدلالتين السابقتين: الحرفية والجمالية.

الجملة الثقافية: يعتمد النقد الثقافي على التمييز المنهجي بين ثلاث جمل رئيسة، وهي: الجملة النحوية ذات المدلول التداولي، والجملة الأدبية ذات المدلول الضمني والمجازي والإيحائي، والجملة الثقافية التي هي:" حصيلة الناتج الدلالي للمعطى النسقي، وكشفها يأتي عبر العنصر النسقي في الرسالة، ثم عبر تصور مقولة الدلالة النسقية، وهذه الدلالة سوف تتجلى وتتمثل عبر الجملة الثقافية. والجملة الثقافية ليست عددا كميا، إذ قد نجد جملة ثقافية واحدة في مقابل ألف جملة نحوية. أي: إن الجملة الثقافية هي دلالة اكتنازية وتعبير مكثف."#

ونفهم من كل هذا أن الجملة الثقافية هي الهدف والمرمى، وأنها تعنى باستكشاف المنطوق الثقافي، وتحصيل المعنى السياقي الذي يحيل على المرجع الثقافي الخارجي.

 المجاز الكلي: يهدف النقد الثقافي إلى استخلاص المجازات الثقافية الكبرى التي تتجاوز المجاز البلاغي والأدبي المفرد، حيث يتحول النص أو الخطاب إلى مضمرات ثقافية مجازية:" وهذا، معناه أننا بحاجة إلى كشف مجازات اللغة الكبرى، والمضمرة، ومع كل خطاب لغوي هناك مضمر نسقي، يتوسل بالمجازية والتعبير المجازي، ليؤسس عبره قيمة دلالية غير واضحة المعالم، ويحتاج كشفها إلى حفر في أعماق التكوين النسقي للغة، وما تفعله في ذهنية مستخدميها.

والمجاز الكلي هو الجانب الذي يمثل قناعا تتقنع به اللغة لتمرر أنساقها الثقافية دون وعي منا، حتى لنصاب بما سميته من قبل–يقول الغذامي- بالعمى الثقافي. وفي اللغة مجازاتها الكبرى والكلية التي تتطلب منا عملا مختلفا لكي نكشفها، ولا تكفي الأدوات القديمة لكشف ذلك، وخطاب الحب مثلا هو خطاب مجازي كبير، يختبىء من تحته نسق ثقافي، ويتحرك عبر جمل ثقافية غير ملحوظة."#

ويعني هذا أن النص أو الخطاب الثقافي يتحول إلى استعارات ومجازات كلية تحمل في طياتها مدلولات ومقصديات ثقافية مباشرة وغير مباشرة.

التورية الثقافية: تتكىء التورية الثقافية في النقد الثقافي إلى معنيين : معنى قريب غير مقصود، ومعنى بعيد مضمر، وهو المقصود. ويعني هذا أن التورية الثقافية هي كشف للمضمر الثقافي المختبىء وراء السطور. وفي هذا الصدد، يقول الغذامي:" وتبعا لمفهوم المجاز الكلي بوصفه مفهوما مختلفا عن المجاز البلاغي والنقدي، فإن التورية هي مصطلح دقيق ومحكم، وهو في المعهود منه يعني وجود معنيين أحدهما قريب والآخر بعيد، والمقصود هو البعيد، وكشفه هو لعبة بلاغية منضبطة، ونحن هنا نوسع من مجال التورية لالتكون بهذا المعنى البلاغي المحدد، ولكننا نقول بالتورية الثقافية. أي:إن الخطاب يحمل نسقين، لامعنيين، وأحد هذين النسقين واع والآخر مضمر.#"

وهكذا، يوسع الغذامي البلاغة العربية القديمة، ليتخذ من التورية مفهوما إجرائيا جديدا، بغية تطبيقه على النصوص في ضوء المقاربة الثقافية.

 النسق المضمر: يعتمد النقد الثقافي على مصطلح النسق المضمر، وهو نسق مركزي في إطار المقاربة الثقافية. باعتبار أن كل ثقافة معينة تحمل في طياتها أنساقا مهيمنة، فالنسق الجمالي والبلاغي في الأدب يخفي أنساقا ثقافية مضمرة. وبتعبير آخر، ليس في الأدب سوى الوظيفة الأدبية والشعرية، فهناك كذلك الوظيفة النسقية التي يعنى بها النقد الثقافي. وفي هذا الصدد، يقول عبد الله الغذامي:" نزعم في عرضنا لمشروع النقد الثقافي، أن في الخطاب الأدبي، والشعري تحديدا، قيما نسقية مضمرة، تتسبب في الـتأسيس لنسق ثقافي مهيمن ظلت الثقافة العربية تعاني منه على مدى مازال قائما، ظل هذا النسق غير منقود ولا مكشوف بسبب توسله بالجمالي الأدبي، وبسبب عمى النقد الأدبي عن كشفه، مذ انشغل النقد الأدبي بالجمالي وشروطه، أو عيوب الجمالي، ولم ينشغل بالأنساق المضمرة، كنسق الشعرنة."#

ويعني هذا أن النقد الثقافي يكشف أنساقا متناقضة ومتصارعة، فيتضح بأن هناك نسقا ظاهرا يقول شيئا، ونسقا مضمرا غير واع وغير معلن يقول شيئا آخر. وهذا المضمر هو الذي يسمى بالنسق الثقافي. وغالبا ما يتخفى النسق الثقافي وراء النسق الجمالي والأدبي. ومن ثم، فاستخلاص الأنساق الثقافية المضمرة ذات قابلية جماهيرية شعبية، على عكس الأنساق النخبوية التي لاتلقى شعبية عامة على مستوى الاستقبال والاتصال. بمعنى أن النقد الثقافي في خدمة القيم الإنسانية وخدمة الإنسان كيفما كان مستواه الاجتماعي والطبقي والعرقي والإثني:" إن قيما مثل: قيم الحرية، والاعتراف بالآخر، وتقدير المهمش والمؤنث، والعدالة، والإنسانية، هي كلها قيم عليا تقول بها. أي : ثقافة، ولكن تحقيقها عمليا ومسلكيا هو القضية. ولو حدث وكشفنا أن الخطاب الأدبي الجمالي، الشعري وغيره، يقدم في مضمره أنساقا تنسخ هذه القيم وتنقض ماهو في وعي أفراد. أي: ثقافة، فهذا معناه أن في الثقافة عللا نسقية لم تكتشف، ولم تفضح، ويكون الخطاب متضمنا لها، دون وعي من منتجي الخطاب ولا من مستهلكيه."#

ويعني هذا أن المقاربة الثقافية لايهمها في النص تلك الأبنية الجمالية والفنية والمضامين المباشرة، بل ما يعنيها هو استكشاف الأنساق الثقافية المضمرة.

المؤلف المزدوج: يمكن الحديث في إطار المقاربة الثقافية - بشكل من الأشكال- عن مؤلف مزدوج، الكاتب الجمالي والأدبي الذي ينتج أنساقا أدبية وجمالية فنية ظاهرة ومباشرة أو غير مباشرة، وذلك عن طريق الرمزية والإيحائية، وهناك في المقابل المبدع الثقافي الذي يتمثل في الثقافة نفسها التي تتوارى وراء الظاهر في شكل أنساق مضمرة غير واعية:" يأتي مفهوم المؤلف المزدوج بعد هذه المنظومة الاصطلاحية لتأكيد أن هناك مؤلفا آخر بإزاء المؤلف المعهود، وذلك هو أن الثقافة ذاتها تعمل عمل مؤلف آخر يصاحب المؤلف المعلن، وتشترك الثقافة بغرس أنساقها من تحت نظر المؤلف، ويكون المؤلف في حالة إبداع كامل الإبداعية حسب شرط الجميل الإبداعي، غير أننا سنجد من تحت هذه الإبداعية وفي مضمر النص سنجد نسقا كامنا وفاعلا ليس في وعي صاحب النص، ولكنه نسق له وجود حقيقي، وإن كان مضمرا، إننا نقول بمشاركة الثقافة كمؤلف فاعل ومؤثر، والمبدع يبدع نصا جميلا فيما الثقافة تبدع نسقا مضمرا، ولايكشف ذلك غير النقد الثقافي بأدواته المقترحة هنا."#

ويعني هذا أن هناك فاعلين رئيسين: المبدع الفردي أو مايسمى أيضا بالمبدع الأدبي والجمالي والفني، والفاعل الثقافي الذي يتمثل في السياق الثقافي. وثمة مفاهيم أخرى لم يشر إليها عبد الله الغذامي، مثل: السياق الثقافي، والمقصدية الثقافية، والتأويل الثقافي...

5- رواد النقد الثقافي غربيا وعربيا:

ثمة مجموعة من رواد الدراسات الثقافية بصفة عامة والنقد الثقافي بصفة خاصة، ومن بين رواد الدراسات الثقافية(Cultural studies)، نذكر:ماثيو آرنولد في كتابه:" الثقافة والفوضى" (1869م)، ومقاله الثقافي الآخر:" مهمة النقد في الوقت الحاضر" (1865م)، وتايلور في كتابه:" الثقافة البدائية" (1871م)، وريموند وليامز في كتابه:" الثقافة والمجتمع: من عام1780م- 1950م" ( 1958م)، وهلم جرا...

ومن جهة أخرى، ثمة مجموعة من رواد النقد الثقافي غربا وشرقا، ومن أهم هؤلاء النقاد الغربيين الذين أثروا النقد الثقافي (Cultural criticism)، نستحضر الناقد الأمريكي: فانسان ليتش(Leitch.Vincent.B)، الذي اهتم بالنقد الثقافي منذ سنوات الثمانين من القرن العشرين، وخاصة في كتابه:" النقد والطابو:النقد الأدبي والقيم" (1987م)، حيث بلور منهجية جديدة سماها النقد الثقافي، باستيحاء فلسفة مابعد الحداثة، وآراء ما بعد الماركسية. وقد اشتغل ليتش على تقويم ثلاثة نقاد أمريكيين، وهم الناقد واين بوث(Wayne Booth) صاحب التعددية الليبرالية، وروبرت شولز(Robert Scholes) صاحب البنيوية، وهيليز ميلر(Hillis Miller) ممثل التفكيكية. وقد أصدر ليتش مجموعة من الكتب النقدية، منها: مابعد البنيوية، والنقد الثقافي، والنظرية الأدبية، والنقد الأدبي الأمريكي،...

هذا، وقد كتب ليتش مجموعة من المقالات النقدية في إطار النقد الثقافي للتعريف به نظرية وتطبيقا، وذلك منذ سنة 1987م لتبيان موقفه من ما بعد الحداثة، وموقفه من مدرسة ييل(Yale) التفكيكية. وقد كتب ليتش سنة 1983م كتابا حول النقد الثقافي، مبينا مرتكزاته النظرية والتطبيقية.

هذا، وقد كتبت جانيت وولف (Janet Wolff) كتابا بعنوان:" في الطريق مرة أخرى: استعارات السفر في النقد الثقافي"#، وكتب أرتور عيسى بيرجر(Arthur Asa Berger) كتابا عنوانه:" النقد الثقافي: بداية مفتاح المفاهيم"#،

ومن أشهر الدارسين العرب الذين اهتموا بالنقد الثقافي، نذكر: عبد الله الغذامي في كتابه:" النقد الثقافي،قراءة في الأنساق الثقافية العربية"#، وفي كتابه المشترك مع الدكتور عبد النبي اصطيف:" نقد ثقافي أم نقد أدبي؟"#، وسعد البازعي وميجان الرويلي في كتابهما: " دليل الناقد الأدبي"#، والباحث الجزائري حفناوي بعلي في كتابه:" مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن"#، وصلاح قنصوة في كتابه:" تمارين في النقد الثقافي"#، والدارس العراقي محسن جاسم الموسوي تحت عنوان:" النظرية والنقد الثقافي"#...

ومايلاحظ أيضا أن النقد الثقافي قد انتشر في الشرق العربي بشكل لافت للانتباه، وخاصة في المملكة العربية السعودية، بينما لم يتمثل النقاد المغاربة النقد الثقافي بشكل من الأشكال، على الرغم من كونهم كانوا سباقين عربيا إلى الاستفادة من النقد الحداثي نظرية وتطبيقا، والسبب في ذلك- حسب اعتقادنا- أن النقاد المغاربة يهتمون بالثقافة الفرنكفونية أكثر مما يهتمون بالثقافة الأنجلوسكسونية. وفي هذا السياق، يوافقنا الدكتور عبد الرحمن بن محمد الوهابي الذي صرح قائلا :" نرى في المغرب اهتمام النقاد بصورة أكثر فاعلية في ترجمة الكثير من الكتب التنظيرية، وكانت كتاباتهم على وجه الخصوص حول الشكلانية الحديثة، والبنيوية، وبخاصة الصادرة من الفكر الفرنسي. وهذه الدراسات المغربية أكثر رواجا بالنسبة لبعض النقاد السعوديين المهتمين بمثل هذه الإسهامات. ولسوء الحظ، فإن هؤلاء النقاد جملة لم يهتموا بالدراسات الثقافية الأخرى ذات الأهمية الكبرى لمجتمعاتهم وتطورها، مثل: الدراسات النسائية وحقوق للمرأة المعروفة جيدا في الدراسات الفرنسية والأوروبية."#

ينطبق هذا الحكم فعلا على النقد الثقافي، ولكن اليوم ثمة دراسات عديدة في مجال الدراسات الثقافية، ولاسيما النقد النسوي ككتاب نعيمة هدي المدغري :" النقد النسوي: حوار المساواة في الفكر والآداب"#، وكتاب زهور كرام:" السرد النسائي العربي"#، وكتاب فاطمة الزهراء أزرويل وآخرين، وهو تحت عنوان:" ملامح نسائية"#...

6- الخطوات المنهجية للمقاربة الثقافية:

يستند النقد الثقافي منهجيا إلى مجموعة من الخطوات التحليلية، والمفاهيم النظرية، والمصطلحات الإجرائية، التي يمكن الانطلاق منها لمقاربة النصوص والخطابات الثقافية فهما وتفسيرا. وتتمثل هذه الخطوات المنهجية في ما يلي:

 طرح أسئلة ثقافية جديدة كسؤال النسق بدلا عن سؤال النص، وسؤال المضمر بدلا عن سؤال الدال، وسؤال الاستهلاك الجماهيري بدلا عن سؤال النخبة المبدعة، وسؤال التأثير الذي ينصب على ثنائية المركز والمهمش، أو ثنائية المؤسسة والمهمل، أو سؤال العمومي والخصوصي. وبتعبير آخر، طرح أسئلة ثقافية مركزة ودقيقة.

 الانطلاق من النص أو الخطاب باعتباره حاملا للعلامات الثقافية التي ينبغي التعامل معها فهما وتفسيرا وتأويلا.

 الانطلاق من النصوص والخطابات الأدبية والفنية والجمالية لاستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة.

 رصد حيل الثقافة التي تمرر عبر أنساق النصوص والخطابات الجمالية والفنية والأدبية. ويعني هذا أن النص الأدبي حامل أنساق ثقافية مضمرة وغير واعية. ومن هنا، الوقوف على الأنساق الثقافية، وليس على النص الأدبي والجمالي.

 التركيز على الأنساق الثقافية المضمرة، والدلالات النسقية الثقافية، وآليات البلاغة الثقافية من مجاز كلي وتورية نسقية.

 إن وظيفة النص ليست الوظيفة الأدبية أو الشعرية أو الجمالية كما يقول رومان جاكبسون في نظامه التواصلي، بل هي الوظيفة النسقية الثقافية.

 الاهتمام بالمضمر الثقافي، بدلا عن الاهتمام بالدوال اللغوية ذات الطبيعة الحرفية أو التضمينية (الإيحائية). فقد اكتشف عبد الله الغذامي أن:" كبار مبدعينا كأبي تمام والمتنبي ونزار قباني وأدونيس، حيث نكتشف ماتنطوي عليه نصوصهم من أنساق مضمرة تنبىء عن منظومة طبقية/فحولية/رجعية/ استبدادية، وكلها أنساق مضمرة لم تك في وعي أي منهم، ولا في وعي أي منا، ونحن وهم ضحايا ونتائج لهذه الأنساق. وظلت هذه الأنساق اللاإنسانية واللاحضارية تتسرب في ضميرنا الثقافي، دون كشف أو ملاحظة، حتى لنجد تماثلا مخيفا بين الفحل الشعري والطاغية السياسي والاجتماعي، مما هو لب النسق وبؤرته غير الملحوظة. ولقد آن الآوان لممارستنا النقدية بأن تتحرك باتجاه نقد الخطاب الإبداعي، من بوابة النقد الثقافي لتكشف ما يحمله الإبداع، لامن جماليات نسلم بها، ولكن من قبحيات نسقية لم نكن ننتبه لها."#

 اكتشاف التأثيرات التي تخلفها الأنساق المضمرة في الوسط الثقافي بصفة خاصة، والوسط الجماهري بصفة عامة. أي: الانتقال من ثقافة النخبة إلى ثقافة الجماهير.

 الانتقال من مرحلتي: الفهم والشرح إلى مرحلة التأويل الثقافي.

هذا، ويمكن أن نطرح توجها منهجيا جديدا في إطار النقد الثقافي، يتسم بشكل من الأشكال بنوع من الوضوح والانسجام والتسلسل والإضافة العلمية، مع استخدام المفاهيم نفسها التي طرحها الباحث السعودي الدكتور عبد الله الغذامي في كتابه:" النقد الثقافي". ويمكن حصر هذه الخطوات المنهجية في المراحل التالية:

 مرحلة المناص الثقافي: ندرس فيها كل العتبات الثقافية من مؤلف، وعنوان، ومقدمة، وإهداءات، وسياق، وهوامش، ومقتبسات، وصور، وأيقونات، ووسائط إعلامية... وكل ذلك من أجل استخلاص الأبعاد الثقافية في هذه العتبات الفوقية والمحيطة.

 مرحلة التشريح الداخلي: هنا، نقوم بتحليل النص وتشريحه وتفكيكه جماليا وبنيويا وسيميائيا وأسلوبيا، فلابد من الاهتمام بماهو فني ولغوي وأسلوبي وبلاغي لفهم ماهو ثقافي.

 مرحلة الرصد الثقافي: تعتمد هذه المرحلة على رصد التمظهرات الثقافية، واستخلاص الأنساق الثقافية المضمرة، وذلك بالوقوف عند الجمل والمجازات والكنايات والصور والدلالات والأنساق الثقافية المضمرة.

 مرحلة التأويل الثقافي: نتكىء في هذه المرحلة على العلوم الإنسانية كالتاريخ، والفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم الثقافة، وعلم النفس، والنقد الأدبي في استجلاء الأبعاد الثقافية، وفضح الإيديولوجيات، ونقد الأوهام والأساطير المؤسساتية، وذلك في شكل أحكام وخلاصات واستنتاجات ثقافية.

7- قيمـــــة النقـــد الثقافي:

لا أحد ينكر أن للنقد الثقافي كما طرحة فانسان ليتش وعبد الله الغذامي مجموعة من الإيجابيات، وتتمثل في أن النقد الثقافي ثورة منهجية جديدة في عالم النقد الأدبي، حيث أعاد النظر في الكثير من المفاهيم والمسلمات التي تقبلناها حينما كنا ندرس أدبنا العربي على أنها أحكام صحيحية ويقينية بشكل من الأشكال.بيد أن عبد الله الغذامي صحح لنا مجموعة من هذه المفاهيم الخاطئة في ضوء المقاربة الثقافية، وذلك بفضل منهجه النقدي الجيد الذي يعد مشروعا نقديا عربيا بكرا، يستحق منا التنويه والتشجيع، على الرغم من بعض هناته النظرية الطفيفة، و تصوراته المجانبة للصواب، وأحكامه الإيديولوجية المتسرعة.

لكن هناك مجموعة من الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى النقد الثقافي بصفة خاصة والدراسات الثقافية بصفة عامة، وتتعلق بالنقط التالية:

 شيخوخة البلاغة العربية: يرى عبد الله الغذامي أن البلاغة العربية، وذلك بعلومها الثلاثة : البيان والبديع والمعاني، قد شاخت وهرمت، وهذا الحكم صحيح إذا كنا ندرس البلاغة انطلاقا من التصور التقليدي للبلاغة، بينما تدرس البلاغة الآن في ضوء منهجيات جديدة أو في إطار الشعرية أو الأسلوبية أو السيميوطيقا، وقد استفاد الدرس البلاغي في المغرب كثيرا من الحداثة الغربية. ومن ثم، اعتقد بأن الغذامي لم يطلع على المستجدات الحديثة في عالم البلاغة ببلدي على سبيل التخصيص، كما عند محمد العمري، ومحمد الولي، ومحمد مفتاح، ومحمد مشبال...

موت النقد الأدبي: يرى عبد الله الغذامي أن النقد الأدبي قد مات، لكنني أرى أن النقد الثقافي هو الذي سيموت في يوم ما، إذا لم يطور أدواته المنهجية، وينقح تصوراته النظرية والتطبيقية، حيث يسايركل الحداثات المتجددة الممكنة بجدية وانفتاح وتواضع. أما النقد الأدبي فهو عالم واسع ومفتوح نظرية وتطبيقا، ويسير بخطوات حثيثة، وبإيقاع سريع، محققا في ذلك تطورا منهجيا كبيرا، ويظهر لي أن عبد الله الغذامي لا يرى أمامه سوى النقد الثقافي. وبالتالي، لم يطلع على تطور النقد الأدبي في مجال السيميائيات، وما حققه من نتائج باهرة في مجال سيميائيات الفعل، وسيميائيات الأهواء، وسيميائيات التلفظ، والسيميائيات البصرية، وغيرها من السيميائيات...

 تسييس النقد الأدبي: يبدو أن النقد الثقافي يهتم بشكل كبير بمقاربة الأنساق الثقافية في ضوء مقاربة سياسية إيديولوجية، تحيلنا على تصورات الواقعية المادية،، والماركسية الجديدة. ومن ثم، يتحول النقد الثقافي إلى أحكام سياسية مبتذلة، تطلق بشكل معمم، دون الاستناد إلى معايير جمالية وفنية مقبولة إن تفكيكا وإن تركيبا.

 تعميم الأحكام: يسقط الناقد الثقافي عبد الله الغذامي في مشكل تعميم الأحكام، حيث يرى أن القصيدة الشعرية العربية القديمة تتحكم فيها بنية الفحولة الناتجة عن سيادة طغيان الاستبداد السياسي والاجتماعي، حيث يقول الغذامي:" هنا، نشأت صورة الفحل، صورة الذات الطاغية، وهي ولا شك صورة مجازية، غير أن مجازيتها لم تمنعها من أن تكون حقيقة اجتماعية وسياسية وثقافية، بمعنى أن الصورة الشعرية التذوقية المجازية تحولت لتصبح نموذجا ذهنيا يتسم استيعابه واستنباته عبر الخطاب الشعري، ثم يجري استنساخه اجتماعيا وذهنيا ليصبح صورة ثقافية نسقية."#

ويعني هذا أن الشعر العربي كله شعر مبني على النفاق الاجتماعي والسياسي، كما يتضح ذلك جليا في غرضي: المدح والهجاء، وأساس الشعر العربي هو التغني بالفحولة تمجيدا وإشادة وتعظيما. وقد حورب شعر الحب؛ لأنه ينافي مبدأ الفحولة العربية:" إن أهم خطاب في الثقافة العربية، أي خطاب الحب، هو خطاب مجازي، ولم يتمكن من التوثق في الذات الثقافية، ولم يتحول إلى صورة مسلكية ونمط في العلاقة الاجتماعية والإنسانية، والسؤال هو: لماذا...؟
نحيل السبب في هذا الأمر إلى كون النسق الثقافي المهيمن هو النسق الفحولي، وبما أنه كذلك، فإن هذا النسق يتوسل بكل الوسائل الممكنة لكي يمنع قيام خطاب مضاد، وكل خطاب تتبدى فيه علامات كسر النسق الفحولي تجري دوما محاصرته، وتضييق مجاله، بل تشويهه، كما حدث لخطاب الحب، الذي تحول من خطاب في التفاني في الآخر وفي المساواة في العلاقة الإنسانية، مما هو نقيض النسق الفحولي، غير أن الثقافة، عبر حراسها وعبر حيلها النسقية المحكمة، تمكنت من تشويه خطاب الحب، وإظهاره بمظهر الخطاب غير الفعال وغير الحقيقي، وتحويله إلى مجاز ومتخيل جمالي، لاواقع له، ولا تمثل لقيمه."#

بل يمكن القول مع الغذامي بأن الشعر العربي الحداثي مع أدونيس ونزار قباني هو استمرار لشعر الفحولة. لذا، فهو شعر رجعي ليس إلا. وفي هذا السياق، يقول الغذامي:" كما حدث في تجيير خطاب الحب وشعرنته، فإن خطاب الحداثة العربية ما إن نشأ على يد امرأة هي نازك الملائكة، وبدأ مشروع في تأنيث القصيدة العربية، وبرز شعراء ذكور يؤسسون لنسق جديد إنساني ومناهض للفحولة، كالسياب، ما إن ظهر ذلك حتى توسلت الثقافة بحراسها وأظهرت لنا شعراء أعادوا تفحيل القصيدة، واستعادوا قيم النسق الفحولي المتشعرن، مثل أدونيس، الذي يبدو على السطح حداثيا تنويريا، غير أنه شاعر نسقي فحولي، وعبر هذا لم تعد الحداثة مشروع تغيير، بل صارت مشروع تنسيق ( أي غرس النسق وتعزيزه كما كان أو أكثر)، وهذه كلها دلالات على طريقة مسار النسق وتمركزه، حتى ليقضي على كل محاولة للخروج عليه."#

وهكذا، يقرر عبد الله الغذامي بأن الشعر العربي القديم والحديث في عمومه شعر فحولي، يمجد الاستبداد الفردي، ويعكس الطغيان السياسي والاجتماعي. بيد أن تعميم الحكم بهذه الصيغة يتنافى مع خصوصية الشعر العربي شكلا وجمالا وتصويرا، ويقصي شعر المغمورين من الشعراء، ويغض الطرف عن الشعر الشعبي:" لقد اتخذت الثقافة الشعر وسيلة لتمرير أنساقها واستدامتها وغرسها ؛ لأن الشعر هو خطاب العرب الأول، وهو ديوانهم وسجل ذاكرتهم، ولما يزل كذلك من خلال تغلغله في النسيج الثقافي حتى لقد أصبحت الخلايا والجينات الثقافية جينات متشعرنة، وهذا ما يقتضي نقدا ثقافيا يكشف عن الأنساق ويعريها، ويتتبع تطورها في خطابات أخرى غير الشعر، بعد أن خرجت من المطبخ الشعري إلى المائدة الاجتماعية، وإلى سائر الخطابات والسلوكيات، مما يجعلنا نقول بفحولية الثقافة وتشعرن الأنساق الثقافية. أي: إنها تحمل القيم الشعرية المجازية ذات العمق المستفحل، ولا بد من نقد هذه الثقافة وكشف تحولاتها ولعبة الأنساق فيها."#

وهكذا، يطلق عبد الله الغذامي أحكاما عامة لا تخصص شيئا، ولا تستثني أحدا، ولاتميز بين الخطابات والمذاهب والأغراض الشعرية. وبالتالي، فقد أغلق باب الاجتهاد على مصراعيه أمام دارسي الشعر العربي قديمه وحديثه، مادامت هناك أحكام نقدية ثقافية جاهزة أطلقت على الشعر العربي بصفة عامة.

 الوظيفة النسقية الوظيفة السابعة: أضاف عبد الله الغذامي الوظيفة السابعة إلى النظام التواصلى عند رومان جاكبسون، وهي الوظيفة النسقية الخاصة بعنصر النسق الثقافي، بينما هناك من السيميائيين من أضاف الوظيفة الأيقونية إلى هذا النظام التواصلي الجاكبسوني، وهذه الوظيفة تتعلق بالأيقون البصري. وبالتالي، تكون الوظيفة النسقية هي الوظيفة الثامنة، وليست السابعة.

 فهم خاص للنقد الأدبي: ينظر عبد الله الغذامي إلى النقد الأدبي نظرة ضيقة، فيحصره في ماهو جمالي وبلاغي. لذا، يعلن موت هذا النقد الأدبي، وأنه قد استكمل رسالته، وليس لديه ما يعطي،لكن عبد الله الغذامي لايعرف أن ثمة مناهج نقدية مازالت مستمرة، ومازالت تعطي ثمارها، وقد أظهرت نتائج هامة، كما هو حال السيميطويقا، والتفكيكية، وجمالية التلقي، والمقاربة المتعددة الاختصاصات، والهيرمينوطيقا، والشعرية التوليدية.... ومن ثم، لايمكن للنقد الثقافي أن يكون بديلا للنقد الأدبي؛ لأن النص الإبداعي جمال ومتعة، قبل أن يكون فائدة ورسالة ثقافية ومقصدية إيديولوجية، وإلا سنعود إلى تلك المناهج الخارجية من واقعية، وماركسية، وبنيوية تكوينية، والتي كانت تحاكم النص الأدبي في ضوء المرجع الخارجي باستمرار. وفي هذا الصدد، يقول عبد النبي اصطيف:" وأول ما يضعف موقف الغذامي في دعوته إلى النقد الثقافي تصوره الخاص جدا للنقد الأدبي، وهو تصور محفوز بغرضه، ولا يكاد يشركه فيه الكثيرون من النقاد العرب المعاصرين الذين لايزالون يؤمنون بالنقد الأدبي، وبقدرته على ممارسة وظائفه الحيوية في المجتمعات العربية الحديثة.

وكذلك، فإن ممارسته ذاتها للنقد الثقافي لاتعطي انطباعا بالاطمئنان، نتيجة مايعتورها من انتقائية مغرضة، ومواقف متكافئة الضدين، وماتنطوي عليه من أحكام ناجزة تحتاج إلى كثير من الجهود للتدليل على صحتها.#"

ويعني هذا أن النقد الأدبي لايمكن تعويضه إطلاقا بالنقد الثقافي، فالنقد الأدبي مجال واسع، وظاهرة وصفية ميتالغوية مفتوحة، وهو أكثر شساعة من النقد الثقافي الضيق الذي لايبحث إلا في ماهو خارجي وإيديولوجي ومرجعي، بينما النقد الأدبي أقرب إلى الأدب، مادام المشترك بينهما هو اللغة والنص والخطاب والوظيفة الشعرية والجمالية، بينما المرجع الخارجي والثقافي هو أبعد مايكون عن الأدب ونقده.

 الذاتية الشخصية: يبدو أن منهجية النقد الثقافي عبارة عن تأويل شخصي ذاتي قائم على أطروحات تاريخية أو غير تاريخية، قد تكون حقائق صحيحة أو حقائق خاطئة. بمعنى أن نتائج النقد الثقافي نتائج انطباعية تحتاج إلى فحص علمي دقيق تاريخي واجتماعي ونفسي وجمالي وأنتروبولوجي. بمعنى أن النقد الثقافي نقد ذاتي شخصي، وليس نقدا علميا موضوعيا، يمكن الاطمئنان إلى نتائجه المعممة. ومن ثم، يتحول الأدب الجمالي حسب الناقد الثقافي إلى تفسيرات ثقافية مادية وماركسية مكررة، وتأويلات سياسية إيديولوجية عقيمة، فلنسمع إلى مايقوله عبد الله الغذامي، وهو يحمل الشعر رسالة إيديولوجية ضحلة :" إن الشعر حامل نسق، وأنه علامة ثقافية ذات بعد نسقي، مع مافيه من جمالية، وما فيه من تأثير نفسي وذوقي بليغ، وهذا التأثير هو مايسوق النموذج، ويقوي فعله فينا، ويسمح باستنساخه سياسيا واجتماعيا. وهذا ما نقصده بمصطلح (الشعرنة)، حيث تشعرنت الثقافة، وتشعرنت معها الذات، وتشعرنت الرؤية، وصرنا كائنات مجازية، تقول ما لاتفعل، وتكذب الكذب الجميل، وتتمركز الذات على نفسها، وتتجافى مع قيم العمل لتأخذ بدلا من العمل بالمجاز، وحدث فصل رهيب بين القول والفعل، وصرنا ننسب الصفات والسمات إلى فحولنا السياسيين والاجتماعيين نسبة مجازية، وكل صفة تقال هي صفة مغتصبة، وليست من ناتج العمل والمسلك الحق.

كل هذه سمات نسقية، إذا لم نكشف مواطن تفريخها وتزيينها الذهني، فنحن سنظل نعيد إنتاجها دون وعي، ونسبب ديمومتها، وعدم تقلصها، مع ازدياد الوعي الثقافي عندنا، وكأننا نظل ننتج مزيدا من الطغاة، ومزيدا من الفحول، حتى إن مشروع الحداثة العربية الشعرية جاء ليكون مشروعا في التفحيل، ومشروعا في اللاعقلانية واللامنطقية، مما يجعله مشروعا رجعيا، وإن بدا في ظاهره حداثيا."#

ويبدو لنا أن الأحكام التي يصدرها الغذامي هي أحكام ذاتية، قد لايتفق معها الكثير من الباحثين، لاسيما إذا انطلقوا من منهجيات نقدية مغايرة، كالمنهجية البويطيقية، أو المنهجية السيميائية، أو المنهجية التفكيكية، أو جمالية التلقي... وحينما نعد الشعر العربي في أغلبه شعر الفحولة، فنحن بهذا النقد نوقف باب النقد، ونغلقه إلى الأبد، مادمنا قد حكمنا على الشعر العربي حكما واحدا ألا وهو أنه شعر الفحولة والطاغية، فلاداعي – إذا- من دراسته مرة أخرى بالمنهج الثقافي من قبل باحث آخر.

 القراءة الانطباعية: وينتج عن الملاحظة السابقة، أن قراءة الغذامي للشعر العربي قديمه وحديثه عبارة عن قراءة انطباعية، تتحكم فيها الذات بشكل انتقائي واختياري: ومن ثم، " فالصبغة الذاتية من الدرس الثقافي تأتي من موضعية الذات، وهي صبغة لايمكن بحال الفكاك منها. ولهذا، يصطبغ الدرس الثقافي دائما باللون الشخصي غير الموضوعي. ولم ينكر دارسو الثقافة هذه السمة الذاتية، بل أكدوا وجودها، وحاولوا تبريرها بقولهم: إن السمة الذاتية تعني الاهتمام بموقف وسياق الذات الفاعلة، والموقف والسياق من أمور الحتمية التي تحد وجود المرء. كما حاولوا تعريف الذات على أنها مجموعة من المواقع في اللغة والمعرفة، واللغة والمعرفة هما بدورهما مهاد ونسيج الثقافة ولحمتها. لذلك، فإن الذات لامحالة متموضعة ذاتيا، وبذلك تنحاز أبدا إلى ثقافتها."#

والدليل على انطباعية القراءة أنها تخالف مجموعة من القراءات التي قام بها النقاد للشعر العربي، حيث توصلوا إلى نتائج تخالف ماتوصل إليها عبد الله الغذامي، كما أن التعميم يحد من علمية قراءة الغذامي وموضوعيتها. فماذا يمكن القول –إذاً- عن شعر الصعاليك في العصر الجاهلي؟ وماذا يمكن القول عن شعر الخوارج والشعية والزبييريين إبان العصر الأموي والعصر العباسي؟ فهل هو شعر يتغنى بالفحولة والطاغية أم هو شعر ثوري مغاير؟!!

 الر تابة والتكرار :لقد أصبح هذا النوع من التحليل الثقافي كما عند عبد الله الغذامي في كتابه :" النقد الثقافي" بمثابة منشور سياسي، وأخبار تاريخية مستهلكة، وتقريرحزبي إيديولوجي فيه الكثير من المغالاة والمبالغة. فحينما نتهم شعر أدونيس ونزار قباني بالرجعية، فإن هذا الحكم إيديولوجي ماركسي لايعني شيئا في مجال النقد الأدبي، فهو مجرد تراشق وتلاسن سياسي لا رصيد له من العلمية والموضوعية، ويذكرنا هذا بالمنهج الإيديولوجي الماركسي كما عند حسين مروة، ومحمد مندور، وإدريس الناقوري، وعبد القادر الشاوي، وعبد العظيم أنيس، ومحمود أمين العالم....

وإذا تعاملنا مع النصوص الأدبية والجمالية بهذا المنطق السياسي، فإننا سنسقط دائما في الروتين، والرتابة، والتكرار، وأحادية الاستنتاجات، فنخرج، بناء على ذلك، من دائرة الأدب إلى دائرة المحاكمات السياسية والآراء الحزبية الضيقة.

 التجني على الأدب: يلاحظ أن النقد الثقافي يتنافى مع النص الأدبي الجميل، ويتنافر مع الإبداع الأدبي القائم على الفن والجمال، فلو كان الأدب مجرد إخبار تاريخي أو سياسي لما تعاظم شأنه، ولما تعالت قيمته ضمن نظرية الأدب. لذلك، فالنقد الثقافي يقتل الأدب، حينما يحوله إلى مجرد أنساق ثقافية مضمرة، ووسائط ثقافية مرجعية ومؤدلجة.

 نقد إيديولوجي: يبدو أن النقد الثقافي في رمته نقد إيديولوجي بامتياز، يذكرنا بالنقد الواقعي، والنقد الإيديولوجي الماركسي، والنقد التاريخي، والنقد النفسي، مادام يرتكن إلى إصدار أحكام عامة، والاحتكام إلى الأنساق الثقافية الإيديولوجية، وإهمال ماهو جمالي وفني وأدبي. فلا يمكن أن نقبل مجموعة من النتائج التي خلص إليها عبد الله الغذامي، مثل قوله بأن الحداثة الشعرية العربية رجعية:" إن السياسي لم يصنع نفسه، وإنما هو وليد لثقافة نسقية، كما أن الشاعر لم يصنع نفسه، وإنما هو وليد لثقافة، والنسق حينئذ هو مضمر ثقافي، لابد من كشفه، والبحث عن علاماته. ولذا، وجدنا الحداثي رجعيا، ووجدنا الحداثة العربية ضحية نسقية، لالوعي الأفراد، وإنما لهيمنة النسق عبر بقائه في المضمر، مع عدم البحث عنه، وكشفه، وتعرف مواقع اختفائه."#

فهذا الحكم ليس حكما نقديا وأدبيا، بل هو محاسبة سياسية بسيطة ومقتضبة، تحتاج إلى توثيق وتحليل علمي موضوعي، وتشريح نصي حقيقي. وهكذا، فقد " كشف لنا الدرس الثقافي زيف فرضياتها المسبقة وهشاشة أسسها ومسلماتها غير المنقودة، فأصبحنا أشد وعيا بدور الثقافة (أي النظام الدلالي) في تكوين معرفتنا وطرق تفكيرنا، بل حتى الكيفية التي بها تتشكل أحاسيسنا وعواطفنا.إن سبل فهمنا النصوص ونشاطنا التفسيري، بل وتقييمنا للحس الذوقي والعاطفي أثناء عملية الفهم والتفسير هي سبل تحدها وتحددها سياقات المؤسسة الثقافية والتاريخ والعلاقات الاجتماعية.ولهذا، فهي ليست سبلا متجردة موضوعية بريئة. ومعظم ما نأخذه على أنه مقولات بدهية ومسلمات أولية في تجاربنا مع الأدب والعلوم، تتبيأ في سياقات تمارس عليها الحد والتحديد، لتبرز أن هذه الممارسات تقبل الإدراك والوضوح فقط عن طريق علاقتها بالعمل الذي تفرزه والتأثيرات على المشاركين في فاعلية العمل. لذلك، يكتب الناقد لنقاد آخرين، ولأعضاء يهمهم الدخول ضمن حدود ثقافة النقد. وبالتالي، عليهم اكتساب القدرة أو الكفاءة التي تمليها المؤسسة المعنية. وضمن سمة المحلية للثقافة فقط، يستطيع الدرس الثقافي أن يمارس نشاطه وفعالياته."#

ويعني هذا أن النقد الثقافي كما يمارسه عبد الله الغذامي هو نقد بعيد عن الأدب بعد السماء عن الأرض، يمارس من أجل تقويض الأدب، وتشتيته لحساب السياسة والإيديولوجيا، وربطه بالمؤسسة الثقافية نقدا أو مساءلة.

 الاستسلام لماهو سياسي واجتماعي وثقافي: يبحث النقد الثقافي، وذلك في تعامله مع النصوص والخطابات، على الأنساق التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تتحكم في إبداعات المبدعين والأدباء والمثقفين. ومن ثم، " فالدراسات الثقافية الموجودة بإنجازاتها المحدودة لم تتجاوز بعد طروحات البنيوية، وهي بذلك عرضة للعيوب التي تورطت فيها البنيوية.أما النشاط ما بعد البنيوي فلم يقدم بديلا فاعلا، وإنما وصل مرحلة الشلل والقصور الذاتي. ولما كانت الدراسات الثقافية إفرازا لهذه الممارسات، فإنها لم تكن أحسن حالا.ولهذا، فإن الدراسات الثقافية، بسبب إدعاءاتها، سقطت ضحية خطابها الخاص، فدعوة جوزيف هيللس ميلر إلى تبني " وحشية الغموض" لم تفض إلا إلى الاستسلام الاجتماعي والسياسي، كما أن نقد ديريدا للعقل المحض لم يؤكد غير العماية القاتلة، وشيوع الدراسات الثقافية، وانتشارها لم يثبت غير تعمية وإخفاء الخيارات الأخرى، كما أن التركيز على ثقافة الهامش لم يصل إلا إلى مركزية الهامش وتكرار القمع الذي نادى بنبذه. وإذا أمعنا النظر في طروحات النقد النسائي وعروضه، فسندرك أنه أكد فقط امتياز الأنثى البيضاء المنتمية إلى الطبقة الوسطى الأمريكية. وإذا رجعنا إلى تاريخ الأفكار، فسنجد ممارسات الدرس الثقافي شائعة في عقدي النصف الثاني من القرن العشرين شيوعا أفضى به إلى محاسبة نفسه وآلياته ومنهجيته، ولم يتجاوز بعد هذه المحاسبة المشروطة."#

 الانغلاق الثقافي الذاتي والخاص: يلاحظ أيضا أن المنهج الثقافي منهج قاصر ومحدود ومنغلق على نفسه، مادام يقصي الجمال والفن. ومن هنا، فمن " عيوب التحليل الثقافي أنه محدود منغلق على مجتمعه الذاتي وعلى ذاتية مجتمعه، بل إن ممارسي الدرس الثقافي حذرون جدا في تصريحاتهم عن إنجازات هذا المنهج. أضف إلى ذلك، أنه نقد إيديولوجي دائما وأبدا"#

تلكم هي- إذاً- أهم الانتقادات الموجهة إلى النقد الثقافي بشكل علمي وموضوعي. بيد أن النقد الثقافي يمكن الاستعانة به في تحليل النص أو الخطاب الأدبي، وذلك باعتباره منهجا من بين عدة مناهج نقدية أخرى مساعدة ومكملة لتشريح المعطى المدروس، وذلك بشكل تكاملي يجمع بين الذات والموضوع، ولكن لايمكن أن يكون النقد الثقافي هو النقد البديل أو المنهج المفضل، فالمنهج النقدي مثل الموضة، له زمنه الخاص، وسياقه الخاص، ومتلقيه الخاص. ومن هنا، فإننا نقول بتناسل المناهج النقدية وتناسخها كأسطورة العنقاء، حيث يموت منهج، ليظهر منهج آخر، وهكذا دواليك، وهذه سنة الحياة في هذه الأرض المباركة.

خلاصات ونتــــائج:

وخلاصة القول: فعلى الرغم من أهمية المنهج الثقافي في التعامل مع النص أو الخطاب الأدبي انطلاقا من كونه ظاهرة ثقافية، حيث يعمد هذا النقد إلى مقاربته في ضوء رؤية ثقافية شاملة إن اجتماعيا، وإن سياسيا، وإن اقتصاديا، وإن تاريخيا، وإن نفسيا، مع التركيز منهجيا على رصد الأنساق الثقافية المضمرة، وموقعتها في سياقها المرجعي والثقافي والإيديولوجي والمؤسساتي، إلا أن هذا المنهج يقصي من حسابه الفن والجمال والوظيفة الشعرية. وبالتالي، لايعترف بالبنيات الشعرية واللسانية والسيميائية؛ لأنه يتعامل مع النص أو الخطاب الأدبي والجمالي تعاملا ثقافيا خارجيا مبتذلا، على أنه نص نسقي لايزخر إلا بالرسائل الثقافية الإيديولوجية ليس فقط. وبهذا، يتنافى هذا المنهج الثقافي مع خصوصية الأدب وماهيته، ووظيفة النقد الأدبي جملة وتفصيلا. ومن ثم، إذا كان النص الأدبي قائما على علاقة تكامل وترابط عضوي مع المنهج البنيوي اللساني؛ لوجود اللغة باعتبارها قاسما مشتركا بينهما، فإن علاقة الأدب بالنقد الثقافي هي علاقة تنافر واغتراب وتباعد بامتياز.

ببليوغرافية المصادر والمراجع:

1- توم بوتومور: مدرسة فرانكفورت، ترجمة: سعد هجرس، دار أويا،دار الكتب الوطنية، ليبيا، الطبعة الثانية سنة 2004م.

2- حفناوي بعلي : مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن،الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 2007م.

3- د.زهور كرام: السرد النسائي العربي، شركة النشر والتوزيع-المدارس- الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2004م.

4- د.سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، سنة 2000م.

5- د. صلاح قنصوة: تمارين في النقد الثقافي، ميريت للنشر والمعلومات، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى سنة 2007م.

6- د. عبد الرحمن بن محمد الوهابي: الرواية النسائية السعودية والمتغيرات الثقافية، العلم والإيمان للنشر والتوزيع، كفر الشيخ، الطبعة الثانية 2010م.

7- د.عبد العزيز حمودة، الخروج من التيه: دراسة في سلطة النص، سلسة عالم المعرفة 298، الكويت، 2003م.

8- د. عبد الله الغذامي: تأنيث القصيدة والقارىء المختلف، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1999م.

10- د.عبد الله الغذامي: النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 2000م.

11- د.عبد الله محمد الغذامي ودعبد النبي اصطيف: نقد ثقافي أم نقد أدبي، دار الفكر، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2004م.

12- فاطمة أزرويل وآخرون: ملامح نسائية، سلسلة مقاربات، نشر الفنك، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1987م.

13- فينيست ليتش، النقد الأدبي الأمريكي، من الثلاثينيات إلى الثمانينيات، ترجمة: محمد يحيى، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة،الطبعة الأولى سنة 2000.

14- محسن جاسم الموسوي: النظرية والنقد الثقافي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 2005م.

15- د. نعيمة هدي المدغري: النقد النسوي: حوار المساواة في الفكر والآداب، منشورات فكر، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2009م.

16-Arthur Asa Berger: Cultural Criticism: a primer of key concepts, Sage publications, 1995.

17-Janet Wolff: On the road again: Metaphors of travel in cultural criticism, cultural studies, volume7, Issue 2, 1993.

18-Vincent B. Leitch‏: Cultural criticism, literary theory, posts structuralism, Columbia University Press‏, 1992 – 186 pages.


مشاركة منتدى

  • نحتاج في عصرنا هذا الى الكثير من هذه المواضيع الشيقة والجميلة ونحتاج الى اعادة النظر في تدريس مناهج اللغة العربية بدأ من الابتدائية وصولا الى الجامعة مدرس اللغة العربية عمار عبد كامل

  • ايفهم ان هذا المنهج يضحي بجماليات النصوص نهائيا...

  • حقيقة ارهقتنا سيادة مدرسي اللغة العربية بفنون العروض والبلاغة والنحو
    وتسطح النص الحديث الشعري والسردي...لدرجة انه اصبح شكلا لايغامر
    بنقد وتخييل ثقافي مبدع..

  • السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    يسعدني التواصل مع كاتب مقال النقد الثقافي بي المطرقة والسندان جميل حمداوي
    وإذا أمكن رقم هاتفه أو بريده الغلكتروني
    أعمل في السعودية
    جوال 00966560033718
    مهتم بالنقد الثقافي
    د. احمد جمال المرازيق

  • النقد الثقافي >> والنقد الثقافي المقارن:
    1. طه حسين: - في الشعر الجاهلي 1926_ مستقبل الثقافة بمصر 1938.
    2. محمود أمين العالم: في الثقافة المصرية 1955
    3. مالك بن نبي: ( الجزائر ): مشكلة الثقافة 1959
    4. ادوارد سعيد: - الاستشراق 1978- الثقافة والامبريالية 1992
    5. عزالدين المناصرة: المثاقفة والنقد المقارن 1987- النقد الثقافي المقارن 1988.
    6. عبد الله الغذامي: النقد الثقافي .2000

  • اريد طرح سؤال على صاحب المقال هل يمكن استخدام النقد الثقافي باستعمال الانساق في تحليل الثقافة الشعبية

  • أعتقد جازما بأن البروفيسور ( عزالدين المناصرة ) الشاعر الشهير هو أول من استعمل مصطلح ( النقد الثقافي = المثاقفة ) عربيا عام 1986 في محاضرة له في المؤتمر الثاني ل( الرابطة العربية للأدب المقارن) بعنوان :
    ( جماليات المثاقفة = أو النقد الثقافي:... الإحساس بالعالم والتلذذ بالتبعية )
    أي قبل السعودي عبد الله الغذامي عام 2000 . أما الفارق بينهما فهو أن الغذامي اهتم بمعنى واحد من معاني المثاقفة هو المعنى الإنجليزي ( مدرسة برمنقهام ) البريطانية 1964 وليتش الأمريكي1992.بينما اهتم المناصرة بالمعنى الأوسع ( السلافي) فهو حاصل على الدكتوراه في ( جامعة صوفيا البلغارية ) عام 1981. لذلك هو ينتمي للمدرسة السلافية في النقد الثقافي.

  • عام 2011 أعلن عن سحب جائزة الشيخ زايد من الباحث الجزائري حفناوي بعلي عن كتابه مدخل الى النقد الثقافي المقارن 2007 لأنه تبين أنه ( مسروق ) من كتابين أساسين هما:
    1. عبد الله الغذامي : النقد الثقافي 2000
    2. عزالدين المناصرة: النقد الثقافي المقارن - 2005

  • سحب لقب الجائزة من حفناوي بعلي ولم يسحب مبلغ الجائزة لهذا أعلن حفناوي الصمت بدون أي تعليق باستثناء تعليق واحد قال فيه: ( حصلت على الجائزة وقد هنأني وامتدح تجربتي في كتابي مدخل الى النقد الثقافي المقارن في ( امارة دبي ) كل من : الشاعر العربي الكبير عزالدين المناصرة صاحب كتاب ( النقد الثقافي المقارن 2005- وكتاب ( المثاقفة والنقد المقارن 1988).- والباحث السعودي المعروف ( عبد الله الغذامي ) صاحب كتاب ( النقد الثقافي 2000).
     ولكن الشاعر المناصرة نفى نفيا قاطعا صحة كلام حفناوي بعلي وقال: ( كيف ذلك وأنا لم أزر امارة دبي أية مرة في حياتي ).
    - أما الغذامي فقد تراجع عن أقواله محرجا لأنه كان عضوا في لجنة التحكيم وأعلن الصمت.
     أما حفناوي فقد اقتصر كلاه على التصريح السابق بعد سحب لقب الجائزة منه حتى لا يسحب المبلغ أيضا.

  • اذا كان النقد الثقافي يظهر الانساق المضمرة فما هي وظيفة السيميائية

  • السلام عليكم
    أنا الأستاذ الدكتور جميل حمداوي من المغرب لقد أنتجت 980كتاب ورقي وإلكتروني وكتبي موجودة في الأنترنيت وموقعي هو hamdaoui.ma
    وصفحتي في الفايسبوك هي: jamil hamdaoui
    دكتوري العزيز المحترم بما أنك مسؤول في جامعة خنشلة كلية الآداب لقد سرقت مني الدكتورة صورية جغبوب التي تنتمي إلى كلية اللغات والآداب كتابي حول النقد الثقافي وحولته إلى مقال منشور في الجامعة، وهذا لا يليق أستاذة جامعية تريد الترقية على حساب بحوث أخرى، ما كنت سأفعل ذلك لولا طلبتها الذين اتصلوا بي، وأخبروني هل اكون السارق منها؟

    https://www.asjp.cerist.dz/en/article/50159
    ولما فضحها طلبتها أخبرتهم أن المغربي جميل حمداوي قد نقل منها.
    وأكثر من هذا نقل مني مغربي آخر يسمى محمد زيطان وأخبرت جامعة تطوان بإدانته انظر

    https://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2019/02/20/485611.html
    سيدي أريد فتح تحقيق في هذا الشأن وأنا مستعد لأكون أيضا طرفا في التحقيق معي.بيد ان الدكتورة لا تعرف أن لي أسلوبا تربويا بسيطا في الكتابة أتميز به. إذا قرأته على اصدقائي يعرفون ذلك بكل سهولة

    https://www.diwanalarab.com/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D9%80%D9%80%D9%80%D9%80%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8A

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى