الاثنين ٣٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٢
بقلم عيسى حموتي أور

التقــرير

أودع عُدة العمل، غادر ورجلاه لا تقويان على حمل جسده، وشقاء يوم كامل من العمل المضني مقرون بهموم لا تحصى يثقل كاهله، ينتابه أحساس بأن رغم المنهجية، ورغم النظام والترتيب، الوقت من حوله كل يوم يضيق عن العمل أكثر من ذي قبل... استلقى عل المقعد الخلفي داخل سيارة الأجرة، وهو يتأوه تارة ويتثاءب أخرى وثالثة يدغمهما. انتبه السائق لحاله فسأله، ودون اكتراث ألقى إليه بشبه جواب لا يفصح فيه عن شيء، وهو متجه نحو الشرود.

"التقرير اليومي! كل يوم تقرير! كل يوم! كل يوم!! لماذا على سزيف أن تتلخص حياته في تقرير؟

يرصد حركاته وسكناته، بل عدد حركات الأنامل التي داعبته، عدد الأوراق التي افتض نصاعة بياضها، حجم الحبر الذي سكبه عليها، درجة تخصيبه لها وحتى حجم المسكوب منه في التسويد، رغم عقمه، أما عن المواضيع التي خاض فيها ومن أي الزوايا تناولها فحدث والحرج... "

دخل البيت منهكا، على غير العادة لم يحظى باستقبال زوجته"فرشاة "التي كانت هي الأخرى منهمكة في معملها تكتب تقريرها اليومي بعد أن انتهت من تلطيخ القماش. لولا الصخب الذي أحدثه "قلم" في المطبخ، وهويحاول خدمة نفسه بنفسه، يهيء كأس شاي، يعدل مزاجه، ويساعده على الاسترخاء بعد أن خرج من الحمام، لما انتبهت لوصول زوجها. تجردت من وزرتها وبسرعة مررت يديها مرات في شبه منشفة لتلتحق ب" قلم"الذي كان قد ألقى جسمه على طول الأريكة. بعد السلام سألته عن يومه كيف وفيما قضاه. امتعض في صمت:

ــ يا رب! كُلُ يطلب تقريره، لازلت أتأهب لكتابة التقرير الإداري، وها هو...

ــ ماذا تقول؟ لم أسمع شيئا!

ــ كان يومي شاقا أكثر من ماضي الأيام، فلا التجربة ولا طول الممارسة أفادا في التخفيف من هذا العناء؛ لقد عرجت إلى الفضاء، حيث كان موعدي مع طائر مهاجر يحمل حقائبه متجها غربا، وما أن أنهينا حوارنا حتى وجدتني مرتبطا بموعد ثان، وكان على الأرض كلفني عناء الهبوط، وقبل الانتهاء بلحظات رن الهاتف، تذكرني السكرتيرة بموعد في مستنقع مع أحد الضفادع... ولا زالت رحلة شقاء يومي لم نتته بعد، إذ لازلت لم أحرر التقرير.

ــ ألا زلت لم تحرر تقريرك؟لم لا تقتدي بي؟ فأنا لا أغادر المعمل قبل أن أتخلص من عبئه.
في هذه الأثناء حمل نفسه على الكتابة:

ــ كنت محظوظا في صبيحة هذا اليوم، داعبتني أنامل أرق من الرقة، طرية طراوة البوضة، شرفت بافتضاضها بكارة صبحي، فانطلقت منسابا، مستجيبا لنداء الواجب ؛حلقت في الفضاء رفقة طائر، أجريت معه الحوار التالي:

ــ أراك متجها غربا، لم هذه الوجهة؟ ولم لا تولي وجهك ناحية الشرق أوالجنوب؟

ــ حبذت لوكان سؤالك: لم الهجرة؟ لأ ن الهجرة في معظم الأحيان تكون نتيجة لضغط ما، ونادرا ما تكون للتسلية

أوالسياحة، والضغوطات تختلف من كائن إلى آخر. والوجهة تحددها الدوافع، والكائن منا حينما يعقد العزم، يتجه إلى حيث قد يجد ذاته ويحقق نفسه، فأنا أختلف إلى حيث لا جليد ولا صقيع، فهذه الأجواء تجمد صوتي وتخنق نبراته، أما وجهتي فتمتاز باختلاف حدائق الأنغام وتنوعها، وتمتد بلا حدود، لا تسائلك عن مقامات شدوك، ولا ترغمك على تكييف تغريدك على سلالم موسيقية معدة سلفا، لأن النبرات لا تتحكم فيها قواعد خارجية، وإذا حدث مجتها الأذن، واستهجنتها الأذواق.

ــ وهل ستعود يوما؟ ومتى؟

ــ أجل لا بد من العودة، طال الزمان أم قصر، إما أن أجد حشودا في استقبالي، ولن أتمكن من رؤيتهم، وإما متقاعدا

وقد تركت شدوي.

ولم أكن في اللقاء الثاني، بنفس المزاج الصباحي، لقد وجدتني بين أنامل خشنة، أجري حديثا مع أحد الببغاوات، كان كلامه كله نحيبا نتيجة فقده لذاته لا هوطائر ـ كما يرى ـ ولا هوإنسان، لا يشدوشدوالطيور ولا حديث الإنسان، فكل ما يمكنه فعله هوترديد ـ في غباء ـ ما يلتقطه من كلمات، فغدا لا يطيق وظيفة التسلية التي التصقت به

يرى نفسه كصبي أوكمعتوه.

نزلت إلى المستنقع، وجدت الضفدع في انتظاري فسألته عن صوته المكرور ولم لا يصدره إلا ليلا، وقل وندر أن يُسمع نهارا، كما حاولت أن اعرف منه سر بقائه في المستنقع وهل فكر يوما في تغيير المقام ليحيا في مكان أنظف، فوجدته يرى في المستنقع النظافة عينها وفي روتين صوته منتهى البلاغة وأعذب الألحان، لاحاجة أن يصيت في وضح النهار ما دامت كوابيس ليله ترغمه على النقيق.

بعد كل ما سمعته اليوم سمحت لنفسي بالتفكير في إجراء حوار مع ذاتي
ــ أيها القلم، أ لم تفكر في الهروب من الصقيع؟ ألا ترى معي أن الجليد يجمد الحبر في أوصالك، ويصيبه الحران؟ ألا ترى من جهة أخرى أن الهجرة تجدد الطاقات، تحقن الشريا ن بمداد فيه جدة، وألوان أقواس السماء؟

ــ لا أذكر أن الفكرة راودتني في الماضي، لم أول الأمر اهتماما لأني مجبر على البقاء، علي أن أقاوم، أواجه أعبئ

إذ لايمكن للساحة أن تحيا بلا قلم ؛فمهما كبوت أوسقطت ومهما ديس علي أو. تعرضت للمصادرة سأظل هنا أعلن حضوري.

مباشرة بعد الانتهاء من الصياغة، رُفع التقرير، وفي صبيحة اليوم الموالي، توصل باستفسار:
"إذا كنت قد استهلكت عُشُر حبرك ـ كما أثبتت حساباتنا ـ في تسجيل الحوارات التي أجريتها اليوم، ونحن نرى على صورتك التي أرفقت بها التقرير أنك استنفذت نصف محتواك، ففيما استهلكت الخُمُسين؟"

ــ سأظل هنا، أحارب كل بلادة تهين الذكاء


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى