الاثنين ١٣ شباط (فبراير) ٢٠١٢
قراءة في شخوص رواية صفحات المهزلة لخير الدين جمعة
بقلم أيمن خالد شداد

عندما يصبح الصياد فريسة

في الرواية بطل، ولكنه بطل مزيف، وفي الرواية قناص لكنة قناص وهم، وفي الرواية صياد ولكنه فريسة، تلاعبت به الأقدار والأحداث حتى بات لعبة معجونية يشكلها حدث هنا أو حدث هناك، شخص عابث هنا أو آخر هناك. بطل كرتوني ظن نفسه سياسيا فذا، مناضلا بطلا إلى أن سقطت الأقنعة بسرعة البرق وسقط معها البطل تائها شريدا مهزلة حقا.

هكذا صورت لنا الرواية مهازل القناص الوهم مهزلة مهزلة، فالبداية من تونس ومهزلة النضال السياسي الفارغ -كما يبدو- من مضمونه وإحباط البطل من استبعاده بشكل بيروقراطي عنيف من التنظيم السري المناهض للحكومة التونسية، مرورا بالمطاردة السياسية المزعومة التي اضطرت البطل للاغتراب هربا من واقع خيالي.

ثم في لبنان يصبح البطل لعبة بيد العابثين، فيقع البطل في فخ العمالة المزدوجة من غير قصد منه حين يساعد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بالترجمة الفرنسية، وفي المقابل يخونه صديقه ميلود ليؤجر مطعمه لصالح العدو ويخدعه بموته المزعوم ليطل عليه في نهاية الرواية ويعطيه ثمن الخيانة العظمى لدم الشهداء...

جذبني في الرواية شخوصها، فقد كان الكاتب دقيقا في وصف شخوص الرواية بالجمل القصيرة الغنية بالمعاني العميقة، واستطرد الكاتب بأسلوب بسيط ممتنع عبر المحطات المكانية التي نقلتنا من حدث لآخر، ومن سلوك لآخر؛ فكانت الشخوص تابعة للمكان الذي هو صانع للحدث بمعنى أن المكان هو الملهم الأول لتصرف الشخصيات خاصة أن الأمكنة في الرواية متباعدة جغرافيا وثقافيا.

يمكن تقسيم الشخوص في الرواية إلى قسمين، شخوص صانعة للحدث وأخرى يصنعها الحدث، فأما البطل فقد جعله الكاتب يرقد في أحضان الحدث يقذفه أينما يشاء، وكل سلوكات الشخصية ردة فعل لحدث ما في ثنايا الرواية حتى بات كالطريدة في ليلة مظلمة؛ فالمطاردة البوليسية السياسية المفترضة جعلته يهرب إلى سوريا لإكمال الدراسة الجامعية، ومنها إلى بيروت للعمل في صفوف المناضلين بعد تجنيده على يد المناضل (رائد النمر جرادات) واشتداد المعارك في بيروت جعله يهرب من الموت الجسدي إلى الموت النفسي في (زوريخ)، ومرض والده وإفلاسه المالي والفكري أجبراه على العودة مرة أخرى إلى بيروت.

وأما الشخوص الأخرى فقد صنعت الحدث بأدوار متفاوتة؛ فمنها المساند للبطل (الأب بصورة رمزية والأخت مليكة رمز الحنان والأصدقاء وأهل الحي ورفاق النضال في بيروت والمرأة المرآة التي عكست مهزلة البطل بمهزلة حياتها المرهونة. ومنها المعوقة له المتلاعبة بمصيره وبمشاعره كجيزال وميلود ورفقاء النتظيم السري في الجامعة.

من جهة أخرى لعبت المرأة دورا مهما في مهزلة البطل، حتى يمكن القول بأن الشخصيات النسائية في الرواية كانت ملهمة للبطل ومحركة للاحداث بشكل مستمر، ويمكن تفسير ذلك باعتبار صفحات المهزلة رواية سياسية؛ فالكثير من كتاب الرواية المعاصرين الذين ارتبطت رواياتهم بالعمل السياسي والنضالي يحتفون بالمرأة ويقدمونها بصورة إيجابية ويجعلونها مساوية للرجل ورفيقته في العمل النضالي، وتتجلى هذه الفكرة في شخصية مجد تلك الفتاة المناضلة المعجونة بنكهة الرجال المنتمية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الشيوعية الفكر والممارسة.

كانت مجد بأنوثتها المخفية وشخصيتها الثائرة محفزة للبطل في نضاله ضد المحتل الصهيوني وعملائه في بيروت (يهود الداخل)، خاطبها بلغة العيون، رأى فيها دولة تستقل وشعبا يموت واقفا كالأشجار يعيد بموته مجدا سُلب من كبرياء الكرامة إنها مجد الفلسطينية!.

وإلى جانب مجد الفلسطينية تسير نيتشة التونسية بالظل في شخصية البطل بهدوئها بفكرها بمواقفها بشخصيتها الكبريائية، لقد كانت نيتشة الصدمة التي تكشف البطل على حقيقته وتعيد قطار فكره إلى مساره الصحيح الأقرب إلى الواقع.

ثمة شخصية تقف هنالك كمرآة كبيره بحجم البحر، ينظر فيها البطل فيرى مسيرة حياته الأكذوبة ومهازله المتلاحقة (سميرة) تلك المرأة التي مرت عابرة في ثنايا القصة، كأن الكاتب وضعها ليلخص بها مهزلة البطل. هي عبرة وعابرة؛ عبرة للبطل ليرى حقيقته من خلالها، وعابرة ملك للعابرين (لحمها ملك للعابرين يقذفون فيها بولهم ويبصقون عليها). إمرأة للإيجار يستغلها البطرون (الديوث) يبيعها للرجال. كل ليلة تفقد شرفها قطعة قطعة، استُنزفت فقدت كل شيء لم يبق لها سوى بصيص أمل، ابنتها البريئة من شرف أمها الممزق رغم أن الأخيرة امتلأت بخليط من مياه الرجال. هي مهزلة كمهزلة البطل الذي استنزفه العابثون بكبريائه مرة في الجامعة وأخرى في بيروت والعودة في تونس دمروه سحقوا إنسانيته فلم يبق منه إلا صفحة واحدة بيضاء هي ثنائي النضال مجد ورائد النمر جرادات

صفحة قد تلملم شتاته فتجعله وطنا يراه الكاتب بعد طول انتظار، فما أجمل أن تلقى شخصا انتظرته طويلا!!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى