السبت ٢٥ شباط (فبراير) ٢٠١٢
بقلم علي كاظم داوود

كما لو أن الريح تخبرني

(إلى أخي في مثواه البعيد)
يخبرني، بكل هدوء، عمّا جرى في تلك الليلة الشاقة، يتحدث وكأن شيئا مما حصل لم يكن بعيداً عن دائرة توقعاته.

لملمت شتات ذهني، من فرط الصدمة والدهشة بل وحتى الرعب الذي انتزعني من رشدي ودفعني إلى خيار وحيد، لم يتماثل أمامي غيره، هوالركض بعيداً عنه.. لكن في اللحظة الأخيرة تماسكت، ورحت اقنع نفسي بتقبّل ما يحدث.

أخذ يتكلم في أمور كثيرة، أرجَعَتْ إليّ صوابي تدريجياً.. مرّ على ذكريات بعيدة، وأسرار طفولية غائرة، ومشاكسات لأخوين صغيرين عفا عليها الزمن وكاد النسيان يأتي على آخرها. تحدّث عن كل شيء بدقة، كأنه يقرأ في كتاب مفتوح، حتى انه لم يغادر من تفاصيلها صغيرة ولا كبيرة.

ما أنا على يقين منه أنه مات في تلك الليلة، وهذا ما جعلني أشكّ في كلّ شيء، ما جعلني عاجزاً ـ في تلك اللحظات ـ عن تحديد ما هومعقول.. صحيح أن سروراً مشوباً بالتوجس قد نما في قرارتي، إلا ان احتمال صدق ما يحصل يتهم يقيني بالزيف والتوهم.

 إسمع يا أخي... كلّ تلك الدموع التي ذرفتها والساعات التي أحرقتها حزناً من أجلي ذهبت هباءاً منثورا، فها أنا أمامك الآن، انظر جيداً في ملامحي، وهذه الحكايات التي قصصتها عليك، ألم يكن من يعرفها أنا وأنت فقط.. الأواني التي كسرناها وأخفينا آثارها، النقود التي أضعناها ولم نخبر عنها، هروبنا من البيت في الظهيرة كي نسبح في النهر، وحتى عراكنا المتكرر، وكيف كُسرتْ يدي وأخفيت ألمها ولم تشِ أنت بي، حتى تورمتْ وافتضح الأمر...

ليليا أبعثر أشياءه في فراغ وحدتي، في الغرفة التي جمعتنا طويلا، ملابس قديمة، علبة سجائر فيها بقية، ساعة يد معطلة، خاتم فضّي، صور وأشياء أخرى أجاذبها الصمت. ففي الظلام يمكن استعادة الذكريات بوضوح حتى تكاد أشباحها الضبابية تمتلك حياةً ما. ورغم معرفتي أن التمنيات لن تغيّر في ما وقع أبداً، إلا ان الخيال يسحبني أحيانا إلى فرضيات لا تجدي، فأسأل نفسي: ماذا لوأني اتصلت به في تلك اللحظة، ربما لكان غادر فراشه ولم يصب بأذى؟. ماذا لولم يترك مكان عمله، وأضاف ليلته تلك إلى الأسبوعين الذين قضاهما دون استراحة؟. ماذا لوانه اختار غرفة أخرى لينام فيها؟ ثم ألم يكن من سبيل كي يجد عملا أووظيفة هنا حتى اختار العمل في العاصمة؟. لكنه يقطع عليّ تساؤلاتي:

 في تلك الليلة كنت اشعر أن أمراً مريعا سيحدث، ارتقبت هطوله بغتة مع كل شهيق وزفير. كما لوأن الريح كانت تخبرني بالآتي، وأصواتاً بعيدة غامضة، حتى ان نذر الشؤم تراءت لي من أول النهار. رؤىً كثيرة راودتني وكوابيس، كلها رسمت أمامي صورةً لما جرى.. وكلّ الذين رأوني يومها سألوني عن سبب انزعاجي وتكدّري، لكن لم يكن بمقدوري إخبارهم... أصدقك القول ان ما يحيرني ليس السقف الذي انقضّ فالتهمني دون أن أعرف من أين أتى بكلّ تلك الشراسة، ولا في المنقذين الذين تأخروا كثيراً، ولا النومة العميقة التي سَرَت بي بعيداً في عوالم أخرى.. لكن حيرتي من ذلك التوالي العجيب للأحداث ومن ترتيبها بحيث تؤدي إلى نتيجة واحدة لا يمكنني الفرار منها مثلما حصل في مرات عديدة قبلها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى