الاثنين ١٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بورتريه محتمل للمبدع المغربي أنيس الرافعي
بقلم عبد الرحيم العطري

يدخن من غليون الشك ليصنع الحياة والبهاء

لم التقه يوما، فقط كانت تجمعنا الجرائد في زمن مضى، لكن ها هو اليوم يباغتني بحضوره المختلف على ضفاف وادي السيليكون، برفقة ريباخاه وشخوصه الكافكاوية الأخرى، إنه يطوع القصة، يفكك منطقها الاعتيادي، يثور الأسئلة عبر مساراتها الحارقة، يخرب، يؤسس، ويقتل ليحي فيها وفينا السؤال المتجدد، تراه دوما يلهث وراء المعنى، يبحث مع كائناته التي يجيد نحتها، يتسكع بين الدروب القصية، يلتقط التفاصيل الدقيقة من يومينا المكرور، من أحلامنا المغتالة، من آهاتنا وزفراتنا، من كل ذلك يصنع لنا هذا ال "أنيس" لحظات للسفر بعيدا/ قريبا من التشظي والابتهاج.

فمن يكون هذا الفتى الذي ارتبط الكوليزيوم والغضب والتجريب باسمه؟ من يكون هذا الذي ساهم في تدبيج شهادة ميلاد الكوليزيوم والغاضبين الجدد؟ وهل في المقدور رسم بورتريه محتمل لمحارب وغاضب كوليزيومي؟ هل بالإمكان تحديد ملامح هذا الغلادياتور كما سماه بذلك الصديق سعيد منتسب؟

صعب هذا الذي أهفو إليه، الصعوبة تكمن أيضا في كوني لم ألتقه قبلا، فقط تعرفت عليه من خلال السيد ريباخا، ومن خلال حضوره النوعي بموقع دروب/ بيتنا الدافئ، ربما هذا يكفي للاقتراب من أنيس الرافعي، وربما لا يكفي بالمرة، ومع ذلك لا مناص من المحاولة، فإلى البدء إذن...

في زمن سبعيني يوصف مغربيا بسنوات الجمر والرصاص جاءنا أنيس الرافعي من مدينة الدار البيضاء، حيث المواجهة مستمرة بين الأغلبية الساخطة ومالكي وسائل القمع والإكراه، جاءنا الفتى يحمل في أعماقه آليات استشعار ورصد مبكر لكافة التفاصيل والتناقضات التي يعج بها المجتمع، جاءنا مهووسا بالأدب العربي، إلى أن تخصص فيه دراسيا خلال سنوات الجامعة ومهنيا أيضا عندما اختار التدريس أفقا للعمل. وعلى امتداد هذا العشق الذي يكنه الرافعي لدنيا الأدب سيهدينا من حين لآخر نصوصا مختلفة تعز عن الاختراق السهل، ليس بسبب رمزيتها المكثفة، ولكن بسبب تجريبيتها المعتقة. فمنذ البدء بدا واضحا أن التجريب القصصي قد استهواه وامتلكه في عوالمه الغرائبية، ليتأكد ذلك بالملموس في انشقاقه البكر الذي " خرج " علينا به في السنة الثانية من هذه الألفية، حينئذ سيحدثنا أنيس الرافعي عن " أشياء تمر دون أن تحدث فعلا " داعيا إيانا إلى السفر في الزمن والتحرر بالتالي من مقارباتنا الكسولة والمطمئنة لنهرع نحو السؤال النقدي، نحو الحقيقة الممكنة بعيدا عن كل اليقينيات التي تملأ عالمنا الرديء.

لقد حسم الأمر منذ العتبة الأولى لنصه الماكر، معلنا بأنها أشياء تمر ولا تحدث بالفعل، إنها دعوة باذخة للارتماء في أحضان الشك، ألم يقل نيتشه ذات مرة بأنه ليس مسؤولا عن كل هذا الدمار والساعة ساعة شك.

لن يقف أنيس الرافعي عند حد التشكيك والهدم، بل سيمضي بعيدا في نحت شخوص كافكاوية، سيخلق لنا السيد ريباخا عبر تعاقبات قصصية في العام 2004، كدليل على العطب العام الذي يملأ الدنيا قحطا وألما، سيهدينا شخصية عصية على القبض والفهم تعتمل في أعماقها كل تناقضات وتفاهات بل وجماليات هذا الزمن الفادح، وفي كل ذلك تأشير قوي على موت المعنى وضياع الأنا والنحن في مجتمع القطيع والبعد الاستهلاكي الواحد كما يقول هربرت ماركيز.

من الأشياء التي مرت دون أن تحدث فعلا إلى تعاقبات السيد ريباخا، لن يرتكن الرافعي إلى الصمت، لن يمارس لعبة الغميضاء، ولن ينخرط في تفاهات المشهد الثقافي وأعطابه القصوى، لأنه أعلن منذ البدء الكفر بكل ولاء قبلي وبكل انتشاء بطولي فارغ، سيعلن الغضب مع ثلة من رفاق الدرب وسيستجير بالرماد ويقتحم الكوليزيوم ليواصل البهاء برفقة حرفه المفتوح دوما على السؤال والتفكيك.

لكنه اليوم يجد نفسه خارج الكوليزيوم مرة أخرى، هل لأنه يعتقد كما بيير بورديو بأن المؤسسة تقتل؟ لهذا وجد نفسه مضطرا للرحيل والتحليق حرا ومتحررا من كل التزام مؤسسي. وحده الفتي قادر على الإجابة، وحدها قصصه الفاتنة قادرة على امتلاك الإجابات المحتملة لهكذا سؤال، فعلى طول خطه القصصي تجده مدمنا لغليون الشك والسؤال، غير مطمئن للجاهز واليقيني، يطوع القص الجميل، ويهدي للأحبة متنا بهيا آسرا إلى غير المنتهى.

أنيس الرافعي الفتى الذي لم يمت في أعماقه الإنسان بعد، يجيد صناعة الحياة، تماما كما يجيد صناعة شخوصه وأحداثه التي تقع أو لا تقع، المهم أنها تمنحنا الدفء والمعنى المفتقد، لا يمل هذا ال "أنيس" من مباركة أعمال أحبته في ال "دروب"، يحييهم بأجمل العبارات، يذكي في أعماقهم جذوة الحرف والسؤال، فقط بمتابعاته المستمرة وكلماته الرقيقة، لأنه بكل بساطة رجل من زمن البهاء والحب.

أنيس الرافعي يدخن باستمرار، ولا أظنه مدمن تدخين في الواقع، من غليون الشك ليصنع الحياة والبهاء، يلتقط تفاصيلنا الفادحة يمرغها في تراب تجريبيته القاتلة، ليعيد تركيب الأشياء التي تحدث دون أن تقع، يعيد للزمن البهي عقاربه ويأخذنا في رحلات مكوكية نحو الغائر فينا، نحو البهي واللعين، فقط ليجعلنا نعيد النظر في مقارباتنا الكسولة ونكتشف الطريق نحو كيمياء الحياة.

إنه بورتريه محتمل لمبدع مغربي التقيته فقط على ضفاف وادي السيليكون


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى