الأحد ١ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
بقلم عبد الرحمن البيدر

إشاعة

كان الحاج راهي يقضي جل وقته في السيباط المجاور لماكينة ضخ الماء التي يملكها على الضفة الغربية لنهر دجلة، يوفر الماء لأصحاب المزارع القريبة، ويقتسم معهم ثمن المحاصيل عند نهاية الموسم، يعمل بلا كلل ويتلذذ في ترديد أغاني السويحلي التي حفظها عن ملا ضيف الجبوري وسلطان احمد وعلي العيسى وغيرهم من عتاة الغناء على الربابة في فترة الستينات من القرن الماضي في مناطق شمال غرب العراق، عند كل ظهيرة كان يأتي أبنه حسن حاملاً وجبة الغداء التي يجلبها من بيتهم الذي يقع في طرف القرية خلف الطريق العام الذي يبعد عن الشاطىء اربعة كيلومترات تقريبا، كان حسن دمث الخلق ومحبوب عند اهل القرية، في فترة الحرب لم يبقى في القرية سوى الشيوخ والنساء، وطلاب المدارس، والبقية جميعا في جبهات الحرب، واغلب بيوت القرية لا يوجد فيها سوى النساء والاطفال، وقد كانت اغلب نساء الجيران يعتمدن على حسن ذو السبعة عشر ربيعا بجلب احتياجاتهم من غذاء ودواء، والقيام بأي عمل يتصل بالحاجات اليومية للبيوت، لم يكن حسن يكل من اي خدمة يقدمها للجيران، وكأنه كان يحس بمعاناة الاطفال الذين تركهم ابائهم وذهبوا للقتال على الحدود، فقد كان يصطحب اطفال الجيران الى الحلاق ايام الجمع، ويلعب معهم احيانا في الساحات المتناثرة بين ثنايا القرية التي لم تكن بيوتها اكثر من غرف طينية ملقاة على وجه الارض كيفما اتفق، يتناول الحاج راهي غداءه ويأخذ قسطاً من الراحه، يغط كعادته في قيلولة، يتولى خلالها حسن مراقبة عمل المضخة، ورش الماء احيانا على جدران السيباط القصبية المعززة بالعاقول ليبرد الهواء الذي يتخللها، وتلامس نسمات باردة وجه ابيه الذي أتعبته مصاعب سنين العمر التي قاربت الستين، لقد مضى على بداية الحرب عدة أشهر، ولا يلوح في الأفق موعداً لنهايتها، أخبار الحرب تتواتر، شهداء... جرحى... أسرى... مفقودين،

يتجول المذياع في طرقات القرية، وينام الجميع على صوته، انه الوسيلة الوحيدة التي تنقل اخبار الحرب، حين أعلن المذياع استدعاء مواليد حسن لأداء الخدمة الألزامية، استغرب الجميع لان موعد اكماله الثامنة عشرة بقي عليه عدة اشهر، قال البعض ربما ان الحرب اكلت الكثير من الجنود وان الجبهة بحاجة لمزيد من المقاتلين، بدأ القلق يساور أمه ومعها اغلب نساء الجيران، فليس مثل حسن في الخلق وطول البال أي من شباب القرية، وبعد أن أكمل تحضيرات الالتحاق بالجيش وفي الموعد المعلن، ودعته أمه بالبكاء وهاجس الموت في الحرب بدأ يخيم على أفكارها، هو الوداع الاول لولدها البكر الذي لم يغادر القرية طيلة حياته، كأنه الوداع الاخير، بكت شقيقاته واشقاؤه الصغار، كما بكت نساء الجيران، وبكى الاطفال الذين سيترك عندهم فراغ كبير، كان منظر الوداع حزينا، بكى حسن ولوح لهم بيده وهو يسير والدموع تنهمر من عينيه بشكل غريب، أحس حينها بالحب الذي يكنه له أهل القرية، كان الحاج راهي يفتقد حسن عند كل ظهيرة وخاصة عندما يحين وقت الغداء، تولت شقيقة حسن جلب الغداء لوالدها الذي أخذ يزداد ولعا بأغاني السويحلي، وترى في بعض الاحيان بضع دمعات تتدحرج على وجنته المتعبة، تحاول التخفيف عنه بمحاولتها القيام بكل ما كان يقوم به حسن في متابعة عمل المضخة ورش الماء على جدران السيباط، التحق حسن بمركز التدريب ليتم اعداده كجندي مقاتل خلال ثلاثة اشهر لا يرى اهله خلالها الا مرة كل شهر، كانت تلك الفترة كأنها بداية ترويض العائلة وأهل القرية على فراقه، كانوا يتجمعون للسلام عليه في كل اجازة يأتي خلالها الى اهله، بعد أن أكمل فترة التدريب في معسكر الموصل، تم الحاقه بوحدته العسكرية في القاطع الجنوبي للجبهة، لقد ألتهمت الحرب رجالاً وشباباً كثيرون من أبناء القرية، منهم من قتل، ومنهم من وقع في الأسر، وأخرون لم يعرف مصيرهم.

كان نبأ أسر أحد أبناء القرية أقل وطأة على ذويه من نبأ مقتله، وكان أهالي القرية الذين لديهم أبناء في الجبهة يديمون التواصل مع رجل معوق منذ الولادة يسمونه (الحمشي)، ذلك الرجل المشلول الساقين يمسك بالمذياع بأستمرار ويقربه من أذنه ليستمع الى أسماء الأسرى ويبلغ بها أهالي من يعرفهم، ومن يقول الحمشي انه سمع اسمه ضمن اسماء الاسرى في المذياع فالكل يعتبره خبر في غاية الدقة لان الحمشي لا يترك شاردة وواردة من اخبار الحرب الا وحدث الجميع بها، بعد بضعة شهور ترددت في القرية أشاعة مفادها أن بعض الجثث التي يؤتى بها من الجبهة تذهب الى غير أهلها بطريق الخطأ، وتفيد الأشاعة أن السبب هو تشابه بعض الأسماء، بالاضافة الى التشوهات التي يصعب معها تمييز أصحاب الجثث، أو لأسباب اخرى فنيه وأدارية تقع بها الجهات المكلفة بنقل جثث الضحايا الى ذويهم، خاصةً وأن (الحمشي) أكد أكثر من مرة سماعه أسماء أسرى سبق وأن أعلن مقتلهم وتم دفن جثثهم، بدأ الشك يساور الكثير من أهالي القتلى الذين تم دفنهم في أوقات سابقة، وراحت تلك الأشاعة تمني البعض منهم بأن أبنائهم ما زالوا على قيد الحياة، ذهب حسن الى الحرب ولم يأت بأجازة، كانت العادة ان الجنود يمنحون اجازات كل شهر أو شهرين حسب ظروف الحرب،، القلق دفع الحاج راهي ليسأل (الحمشي) عن جديد أخبار الأسرى بعد أن طال غياب حسن لأكثر من ثلاثة أشهر، أكد له أنه لم يسمع أسم حسن ضمن أسماء الأسرى التي أذيعت من خلال الراديو، ظل الحاج راهي يقلب افكاره ويخمن، اذا لم يكن حسن اسيرا فلماذا لم يأت بأجازة، واذا أصيب بجروح فيفترض اننا سنعرف ونذهب الى المستشفى لنراه، ترى ما هو سبب غيابه كل هذه المدة دون أن نعرف شيئا عنه؟ ظل القلق يساوره، وكلما رأى سيارة في الطريق العام القريب من القرية تحمل جثة ملفوفة بالعلم ينقبض صدره وتنهار قواه، انه ابنه البكر وكما يقال عمود البيت بعد أبوه، بعد عدة أيام ووسط القلق الذي خيم بشكل كامل على عائلة الحاج راهي، وعلى الجيران ومن كان حسن يتواصل معهم من اهل القرية، وبعد الغروب بقليل توقفت سيارة أجرة أمام بيت الحاج راهي وعليها تابوت مكتوب على واجـهته الشهيد حسن راهي، تجمع الناس كعادتهم وأنزلوا التابوت من على السيارة، وبدأت طقوس البكاء وعويل النساء الذي تعودوا عليه، في هذه المرة كان العويل اكثر قوة وتردد صداه في الوديان القريبة من القرية، واللافت ايضا بكاء الكثيرمن الاطفال اصدقاء حسن، راح قسم من أهل القرية الى المقبرة لحفر القبر، فيما انشغل القسم الاخر بالاعداد لمراسم العزاء، وقبل حمله الى مثواه الأخير طلب أحد وجهاء القرية من الحاضرين فتح التابوت رغم أن ذلك ممنوع بأمر من السلطات الرسمية، وطلب من الحاج راهي التأكد من أن الجثة التي في داخل التابوت هي لأبنه حسن، ولما تأكد من الجثة واخبره بانه لايشك في انها جثة ولده حسن، قال له إبك كما تشاء لكي لا تقول لي غدا أن الحمشي سمع إسمه ضمن أسماء الاسرى....


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى