الأحد ٨ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
بقلم خالد حربي

ولع غربى بالعلم العربى

شب مع بداية القرن العشرين ولع فى الغرب بدراسة تاريخ العلم العربى الإسلامى، ولهذا الولع الحديث جذور ترتد إلى القرن العاشر الميلادى الذى شهد حركة الاستشراق تلك التى يؤرخ لبدايتها عادة برحلة جربيردى أورياك الفرنسى إلى قرطبة طلباً للعلم والحكمة على أيام الحكم الثانى. وقد اقترنت حركة الاستشراق هذه بحركة نقل وترجمة علوم ومعارف الحضارة الإسلامية إلى اللغات الغربية السائدة عصرئذ وهى اللاتينية والقشتالية والعبرية .. فنقلت العلوم العربية الإسلامية فى الطب والرياضيات والفلك والفلسفة والأدب والشعر، والهندسة المعمارية والفيزياء والكيمياء .. وغير ذلك من العلوم والمعارف. وقد استمرت حركة الترجمة هذه فى صقلية وأسبانيا حوالى قرنين من الزمان بصورة فائقة إلى الدرجة التى يمكن القول معها إنها قد ضاهت فى شدتها وقوتها ودقتها حركة الترجمة العربية فى عصرها الذهبى إبان الخلافة العباسية الغابرة.

آمنت أوربا آنذاك من استقراء تاريخ النهضات بأن الأمم إذا أرادت النهوض بعد السبات، فلابد من استيعاب ماضيها وإحياء تراثها والانفتاح على الأمم المتحضرة والاتصال بها .. فبعد نوم عميق غطت فيه أوربا لقرون طويلة منذ أواخر القرن الخامس حين سقطت الإمبراطورية الرومانية وحتى عصر النهضة، وجدت أوربا فى التراث العربى الإسلامى تراث أجدادها اليونان الذى تُرجم إلى اللغة العربية إبان ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، وسلمت بأنه لولا التراث العربى الإسلامى، لانطمس تراث أجدادها اليونان خاصة وأن معظم أصوله قد فقدت ولم تبق إلا فى الترجمات العربية .. ووجدت مع هذه الترجمات إضافات وابتكارات عربية اسلامية أصيلة فى كافة فروع العلم والمعرفة، فنقلتها إلى لغاتها، وقامت نهضتها الحديثة على ركائزها.

ومن منطلق الإيمان بأن الحضارات الإنسانية تمثل سلسلة مشتركة الحلقات بين الأمم، وأن الحضارة العربية الإسلامية تشغل حلقة مهمة جداً –إن لم تكن أهم الحلقات- من حيث إنها أطول حضارة سادت الإنسانية، فعلى مدار أكثر من ثمانية قرون كان العلم على مستوى العالم ينطق بالعربية. فمن هذا المنطلق، إضافة إلى أهمية دراسة تاريخ العلم لدفع عجلته إلى الإمام، استمر الاهتمام الغربى بتاريخ العلم العربى الإسلامى منذ حركة الترجمة فى صقلية والأندلس ، وحتى العصر الحديث، واشتد مع بداية القرن العشرين، حتى وصل ببعض مؤرخى الغرب إلى درجة الولع.

فصدرت الدراسات الموسوعية والمتخصصة التى تؤرخ للعلم العربى الإسلامى، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: المجلد الضخم الذى وضعه المستشرق الإيطالى ألدومييلى ويتناول فيه العلوم عند العرب. وكذلك المؤلف الموسوعى الذى ألفه أكثر من عشرة مستشرقين غربيين منهم: كرامز، وكريستى، وبريكز، ودى سانتيلانا، وماكس مايرهوف، وفارمر .. وحرره سيرتوماس أرنولد بعنوان "تراث الإسلام". وفيه أحصى مؤلفوه علوم وآداب الحضارة العربية الإسلامية. ووضع المستشرق الفرنسى الأستاذ "مونك" مؤلفاً يشتمل على تاريخ الفلسفة الإسلامية، وماثله فى ذلك الأستاذ دى بور بمؤلفه "تاريخ الفلسفة فى الإسلام". ونشر المستشرق الإيطالى كارلو الفونسو نللينو تأريخ لعلم الفلك العربى الإسلامى. و قضى طبيب العيون الألمانى "هيرشبرج" خمسة وعشرين عاماً أرخ فيها لطب العيون فى سبعة مجلدات ضخمة، وخصص المجلد الخامس لطب العيون العربى الإسلامى. وأرخ المستشرق الفرنسى لوسيان لوكلير للطب العربى الإسلامى فى مجلدين كبيرين، ومثله فعل المستشرق الإنجليزى "اداورد براون".

ومثل هؤلاء من المستشرقين الغربيين فى عالمنا المعاصر كثيرون، وما زالت الدراسات والأبحاث الغربية تصدر فى علوم الحضارة العربية الإسلامية وآدابها حتى هذه اللحظة. ومن أحدث الدراسات التى صدرت بالإنجليزية سنة (2008) الدراسة القيمة التى أعدها صديقى المستشرق الألمانى بيتر برومان بالاشتراك مع زميله إميل سميث بعنوان: "طب العصور الوسطى الإسلامى"، وأهدانى بيتر نسخة موقعة وتمنى على ترجمتها إلى اللغة العربية .. وقد فعلت.

وترجمت أيضا الفصل العاشر بعنوان "العلم" من الموسوعة التى عُنى بإخراجها الأساتذة هولت ولامبتون وبرنارد لويس بعنوان "تاريخ كيمبردج للإسلام" ، وصدرت طبعتها الأولى عام 1970 فى مجلدين كبيرين، وفى أربع مجلدات كبار فى طبعتها الثانية عام 1977 واشترك فى تأليف تلك الموسوعة الضخمة عشرات المستشرقين من جامعات كيمبردج ولندن ونيويورك وكاليفورنيا وكولومبيا وباريس وتورنتو وتولوز واستانبول .. وغيرها.

عُنيت موسوعة "تأريخ كيمبردج للإسلام" بكل ما يتعلق بالإسلام كدين ومجتمع وأمة وحضارة أنتجت من العلوم والآداب ما أفادت منه الإنسانية جمعاء. ولعل هذا ما يفسر لنا ضخامة تلك الموسوعة وكثرة عدد المستشرقين الذين كتبوا فصولها. فالمجلد الثانى على سبيل المثال الذى يحتوى على ما ترجمته, كتبه ثلاث عشرة مؤلف من مشاهير مستشرقى الغرب منهم: فون جرونباوم وجابريلى وشاخت وكلودشين ودى بلانهل ولويس جاردت وبينيس وبادى .. وغيرهم.

ويأتى الاهتمام بمثل هذه الترجمات من هدف عام يعنى بإعادة كتابة تاريخ العلم العربى الإسلامى من جهة، ويعنى أن محاولة اللحاق بركب التقدم تتطلب قراءة ومعرفة وفهم كل ما يكتبه عنا الغرب من جهة أخرى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى