الأحد ٢٢ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
بقلم أحمد سوكارنو عبد الحافظ

ما الذى يحافظ على الكيان النوبى؟

قد يقول قائل إن عدة أمور تعمل على تماسك الكيان النوبى، منها لون البشرة الأسمر والشعر المجعد الخشن ومحل الإقامة والعادات والتقاليد واللغة. لعله من المفيد أن نشير إلى رواية الأديب الراحل إدريس على "النوبة" حيث يعتبر النوبة وعاءا امتزجت فيه أجناس عديدة: عربية وافريقية وأوروبية. لذلك من الصعوبة بمكان الاعتماد على السمات البيولوجية لتحديد الهوية النوبية. وحتى عنصر العادات والتقاليد قد تغير نتيجة تغير البيئة الجغرافية بعد تهجير عام 1963م. أما محل الإقامة فلا يصلح كمعيار لأن المواطنين اعتادوا على الهجرة والانتقال من مكان إلى آخر. كما أن النوبة بطبيعتها تحتضن كل من يلجا إليها سواء من النوبيين أو غير النوبيين. والسؤال الذى يسنح فى الذهن هو: فى ظل انهيار كل العناصر فما العنصر الذى يمكن أن نعتمد عليه للمحافظة على هوية هؤلاء القوم؟

لا شك أن اللون الأسمر والشعر المجعد من السمات المميزة لمعظم أهالى النوبة غير أن هنالك بعض أهالى النوبة من ذوى البشرة البيضاء والقمحية وشديدة السواد. وهنالك مواطنون مصريون من ذوى البشرة السوداء لا ينتمون إلى النوبة. والدليل على أن لون البشرة لا يمثل عنصرا مهما فى تحديد الهوية هو أن بعض النوبيين من ذوى البشرة البيضاء يعايرون النوبيين من ذوى البشرة السمراء أو السوداء. أذكر أن أحد أبناء النوبة كان يتبوأ منصبا مهما فى الحزب الوطنى الديمقراطى فى محافظة أسوان وذات يوم تحدث عن زميل له فى الجامعة وسبقه فى هيئة مكتب الحزب قائلا: إن قلب فلان أسود كوجهه. هل يعقل أن يعاير نوبى نوبى آخر على أساس لون البشرة؟ لذلك فإن لون البشرة ليس مهما فى تحديد الهوية فى النوبة. وهذا الكلام ينسحب أيضا على طبيعة شعر الرأس: فبعض النوبيين من ذوى الشعر المجعد والخشن والبعض الآخر لديهم شعر ناعم مسترسل. وكذلك هنالك بعض أبناء القبائل غير النوبية من ذوى الشعر المجعد والخشن. وهذا يبين أننا لا يمكن أن نعول على الشعر كمعيار لتحديد الهوية. ماذا عن محل الإقامة؟

من المسلم به أن محل الإقامة لا يمكن أن نعتبره أساسا لتحديد الهوية. صحيح أن هنالك 44 قرية نوبية فى منطقة نصر النوبة ومناطق أخرى تقع شمال الخزان حيث استقر بعض النوبيين فى مناطق (غرب أسوان -الشلال - الجزيرة -عزبة العسكر -جزيرة أسوان - تنقار - جبل تقوق - بربر - نجع المحطة - عزبة المنشية جزيرة سهيل -غرب سهيل - جزيرة هيسا - منشية النوبة- البيجه- عزبة الحدود -الكرور- أراشكول -المسي تود )، ومنهم من نزح داخل مدينه أسوان فى مناطق (الحصايا - جزيرة عواض - الشيخ هارون ـ السيل – الخزان). اللافت للنظر هو أن كل النوبيين لا يقيمون فى قرى النوبة، فالنوبيون منتشرون فى القاهرة والإسكندرية والسويس وقنا واسنا والأقصر. كذلك فإن بعض المواطنين غير النوبيين يقيمون فى قرى النوبة (قرية الدكة وبلانة وعنيبة وغيرها).

أما بالنسبة للعادات والتقاليد فإن معظم هذه العادات والتقاليد النوبية كانت ترتكز على نهر النيل قبل التهجير فى عام 1963. فعادات الختان (الذكور والإناث) والمشاهرة والزواج ومناسبات الوفاة وموالد الشيوخ كانت تبدأ وتنتهى فى النيل. وهنالك أبحاث قام بها باحثو الجامعة الأمريكية بالقاهرة فى منطقة النوبة قبل التهجير حيث تم رصد ووصف كل هذه العادات وقاموا بنشرها فى كتاب تم ترجمته إلى اللغة العربية فى عام 1995م والذى يحمل عنوان (طقوس الحياة فى بلاد النوبة). ما يدعو للأسف هو أن بلاد النوبة اليوم تقع على مسافة بعيدة من نهر النيل ونتيجة لذلك فقد توقف الأهالى عن ممارسة العادات التى ترتبط بنهر النيل وحتى حفلات الزفاف على الطريقة النوبية قد توقفت تماما وباتت لا تختلف كثيرا عن حفلات القرى غير النوبية. وكل هذه العوامل تجعلنا نؤكد أن النوبيين فقدوا العادات والتقاليد التى كانت تمثل عنصرا أساسيا من عناصر الثقافة النوبية. لم يتبق لنا سوى العودة إلى السؤال الذى طرحناه فى الفقرة الافتتاحية وهو يتعلق بالعنصر المتبقى للمحافظة على الكيان النوبى.

لعل اللغة تلعب دور العنصر الموحد للكيان النوبى الذى كاد أن يتمزق. من المعروف أن النوبيين يتحدثون لغتين مختلفتين: الكنزية والفاديجا. وهاتان اللغتان ذات صلة وثيقة بلغتين فى السودان. فاللغة الكنزية لها صلة وثيقة بلغة الدناقلة فى شمال السودان بحيث لا يجد متحدثو هاتين اللغتين صعوبة فى التفاهم. وكذلك الحال بالنسبة للعلاقة بين لغة الفاديجا ولغة المحس فى شمال السودان.

لا شك أن اللغة النوبية التى تعتبر من اللغات المنطوقة الآن كانت تكتب فى العصور الوسطى وكانت لغتها ثانى لغات أفريقيا التى عرفت الكتابة فى ذلك العصر، واللغة التى كانت تُستخدم فى تلك الفترة هى "النوبية القديمة" وهى قريبة الصلة بلهجة المحس التى كانت تُستخدم فى المنطقة الواقعة بين عنيبة والجندل الثانى وكانت تُكتب بالحروف القبطية والإغريقية بعد إدخال حروف جديدة إليها ويرجع استخدام لهجة المحس كلغة اتصال بين المجموعات النوبية فى هذه الفترة إلى القوة السياسية والإدارية لأهل المحس.

لا نضيف جديدا إذا قلنا إن مئات اللغات حول العالم قد تلاشت عن الوجود وهنالك مئات أخرى فى طريقها للزوال. من الواضح أن اللغة النوبية تواجه اليوم خطر الانقراض تماما كما حدث للكثير من اللغات فى أفريقيا واسيا وأمريكا. أما أسباب تعرض اللغة النوبية لنفس مصير هذه اللغات فيمكن تلخيصها فى النقاط التالية:

أولا: اللغة النوبية لا تدرس فى المدارس أو الجامعات.

ثانيا: معظم النوبيين لا يقرأون ولا يكتبون بهذه اللغة.

ثالثا: الأمهات يعتقدن أن التحدث باللغة النوبية مع أطفالهن سوف يعرقل مسيرة الأبناء فى التعليم وبالتالى فأطفال النوبة لم يعودوا قادرين على التحدث باللغة النوبية.

رابعا: البيئة النوبية لم تعد معزولة كما كان الحال فى الموقع القديم.

من الواضح أنه لا يمكن الحفاظ على اللغة النوبية إلا من خلال وضع نظام هجائى سهل للكتابة. لعل تاريخ هذه اللغة يشهد أنها عرفت الكتابة عبر العصور المختلفة. يكفى هنا أن نشير إلى مرحلة النوبة المسيحية حيث كانوا يستخدمون
الحروف الإغريقية والقبطية فى كتابة اللغة النوبية ويرجع ذلك لعدة أسباب:
أولاً: نلاحظ أن هذه الحروف أُدخِلت بعد أن اعتنقت النوبة الديانة المسيحية فى منتصف القرن السادس، فأضطر النوبيون إلى إتقان اللغة الإغريقية حتى يستطيعوا قراءة الكتاب المقدس وترجمته إلى لغتهم القومية (وبالفعل استطاع القس صمويل على حسين ترجمة الإنجيل إلى اللغة النوبية).

ثانياً: تلقى معظم الملوك النوبيين تعليمهم بهاتين اللغتين، وكان الملك اركامون قد تلقى تعليمه فى الإسكندرية وترك مخطوطات باللغة الإغريقية والقبطية على جدران المعابد الموجودة بجبل بركال ومروى وهناك أيضا مخطوطات للملك سيلكو يدون فيها انتصاراته ومغامراته الحربية فى القرن السادس بعد الميلاد، وهى مكتوبة بلغة إغريقية على جدران معبد كلابشة.
ثالثاً: لعل وضع النوبة كملجأ ومأوى للمسيحيين الذين لاقوا الاضطهاد فى مصر كان السبيل إلى استخدام الحروف القبطية فى كتابة اللغة النوبية فى العصر المسيحى.

الجدير بالذكر أن العصر الحديث قد شهد محاولات لكتابة اللغة النوبية. فقد قام الأثرى خليل كبارة بإحياء هذا النظام الابجدى وينكب الآن بعض النوبيين لتعلم الكتابة بهذه الحروف. أما كاتب هذه السطور فقد حاول توظيف الحروف العربية فى كتابة اللغات النوبية على اعتبار أن النوبيين على معرفة ودراية بهذه الحروف التى يتعلمونها فى المدارس ومع إدخال بعض التعديلات البسيطة يمكن استخدام النظام الأبجدى العربى. من المؤكد أن الحفاظ على اللغة النوبية يتطلب جهود مضنية وتعاون كامل بين عدة جهات. ويتطلب الأمر أيضا أن تلعب الحكومة دورا فى تفعيل نظام هجائى يساهم فى تثبيت اللغة والحفاظ على أوصالها التى تتعرض لرياح عاتية، رياح تحاول اقتلاعها من جذورها.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى