السبت ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
بقلم هيثم نافل والي

الروح النقية

شروق الشمس في بلد كالدنمارك شيءٌ استثنائي، كنزول وحي بأمر من السماء... لكنها بزغت في ذلكَ الصباح وهي تضحك؛ فتسلقت أشعتها الصفراء المائلة للحمرة وفرشت أهدابها، فاستحلت هامات البنايات الشاهقة وأسطح المنازل بسرعة جنونية، وكأنها في سباق ودونَ رادع تمهيداً لاقتحام كل ما يدبُ على الأرض؛ في حين كانَ أياد الذي كانَ يعمل كالثور في الساقية... دونَ ملل أو جدل؛ له قلب الطفل ووجه العذراء مريم ونقاء نفس تشع على شكل رضا، وصفاء روح تجهلها ثقافة وأجيال عصرنا الحاضر، لأنها مليئة بأحاسيس من الثقة والفخر والاعتدال... تخرج من كلية الزراعة وفي رأسه أحلام تشبع بلدا وتبعد الجوع عن فقراء جلدته؛ تزوج عن عمر لا يساوم المرء فيه على شيء! وعاشَ حياته حالماً، متأملاً وراضياً كالراهب؛ وها هو يغني طرباً منذ أولى ساعات الفجر بفرح غامر يجهل أسبابه وكأنه سيزف الليلة؛ وهو يتوجه إلى متجره الواقع في قلب المدينة التي يقطنها منذ أكثر من عشر سنوات معَ زوجته التي ليسَ لها هم سوى الاعتناء به وبعملها التي لا تستطيع العيش بدونهما...

لم يكن أحداً غيره في الطريق( الذي كانَ يبدو كسطح بحيرة غافية بجلال ملائكي) عندَ ذلكَ الصباح، سوى المحال التجارية المغلقة والكنائس المفتوحة الأبواب، وجانبي الشارع الصامتين المستكنين والمكسوين بخضرة رائعة، بدت ندية ونعسا وهما يستجمعان قواهما لاستقبال دفء الشمس التي تغازلهما الأخيرة كالغريزة حينَ تدغدغ جسد الإنسان بعدَ حرمان وبخيال محموم وهي تدعوه للارتماء في أحضانها دونَ مقاومة، كمن يقع أسيرا دونَ معركة!

لقد ذاقَ أياد في بداية حياته الجحيم قبلَ أن يسمع عن الجنة، ورأى الشياطين قبلَ أن تلمسه الملائكة؛ وسط مجتمع كانَ يتخذ من الدين ذريعة لتكفير الناس، بغية الحصول على المغانم والسلطة والجاه والنفوذ باسم لا إله إلا الله! لذلك صقلت شخصيته القلقة التواقة إلى الحياة في أبسط أشكالها... وحتى هذا كانَ ثمنه باهظاً بقدر حياته نفسها؛ ويا لها من معادلة خاسرة ومرة، عندما تكون السعادة في مجتمعه أغلى من حياة الإنسان نفسه!

لقد كانَ يتصرف وكأنه يريد ضمان الجنة وبلوغ سر السعادة في الحياة ولذّاتها السحرية؛ فهو يعيش كحامل الرسائل السرية الأمين الذي لا همَّ له سوى توصيل الرسائل لأصحابها بكل أمانة وإتقان؛ لكنه تناسى بأنَ الحياة محفوفة بالمخاطر وتغمرها الأوجاع، والأمل فيها أضعف من نسيج بيت العنكبوت وأرق، ومعَ ذلك كان أياد يصدق كل ما يقال له ويثق بالآخرين بسهولة عجيبة ويضحك ويتأمل ويعمل بجد لا ينافسه عليه سوى الحمار المطيع! وهو دائم الحلم والتمني، كمدمن متمرس على حب الحياة... فيا له من إنسان رائع، جبار وخارق ويقال عنه أحياناً: الغبي الساذج!

وصلَ إلى متجره وقلبه يتوهج أملاً، ويبتسم لخواطره دونَ أن يدري؛ بعدَ أن اجتاحه السرور المفاجئ والإلهام دفعه واحدة؛ فأستخفه الطرب، وهو يشعر بأنه يملك في يديه الدنيا كلها، نشاطه وهمته وتفاؤله... كلها أمور جعلت منه في ذلك الصباح إنسانا يكاد ينفجر من السعادة والغبطة والحيوية التي يجهل أسبابها بشكل واضح أو صريح؛ لذلك توقع أن يكون رزقه أيضاً وافراً وكثيراً بما يتناسب وتفاؤله العارم الذي يغرق فيه وهو يفتح باب متجره بسرعة مندفعة غريبة...

لم تمض إلا ثوان معدودة، حتى دخل عليه شابان متينا البنيان ووجهاهما لهما مواصفات لا جدوى من وصفها... فهم كالغجر في لبسهما وهيئتهما، والزنوج في شفاههما، والأبقار في عيونهما والعرب في خجلهما الظاهر والتناقض والكفر والشذوذ والأجرام في الباطن!

رحبَ بهما أياد بفطرة عجيبة وسألهما عن حاجتهما( وهو يردد بفرح وغبطة في سره: لقد صدقَ حدسي، ولم يكذب ظني وها هي البشائر تهلَّ عليَّ منذ الثواني الأولى)

 أحدهم قالَ بتصميم ودي، وبنبرة مشجعة: نريد خاتمان من ذهب؛ ثمَ تمهلَ برهة وواصل عقب الصمت الخادع القصير: على أن لا يقل سعرهما عن ثلاثة ألاف كرون؟!( وهو يتفحص أياد بنظرة ثاقبة ويراقب حركاته بدقة بالغة، كدب يصطاد سمكا)

 أستسلمَ أياد لحديث الزبون وآمنَ له بسرعة البرق، لم يفتح فاه بعد كي يرد... ولم يتمكن من أن ينبس بكلمة واحدة ولم يكن له الوقت لكل ذلك... فالسائل الذي رشه أحدهما على وجه أياد بسرعة الشهب؛ جعله لا يرى معَ مصاحبته شعور بالألم القاسي الحاد وهو يتلقى ضربات متتالية لا يعلم من أين تأتي، وكأنه داخل حلبة ملاكمة... لقد اصدرا قرارهما وانتهى الأمر: القتل والسرقة!

لم يستطع مقاومتهم أبداً، ولم يحرك ساكناً سوى تلقي الضربات وهو يتقهقر بتهالك مفضوح، مخذول وكأنه أمام قدره المحتوم الذي تسلط عليه ليسلبه روحه وماله...

سقطَ أياد على الأرض سابحاً في دمائه، يتلوى صارخاً ويستغيث بأصوات مخنوقة، خافته كالأنين: النجدة... ساعدوني أرجوكم... ثمَ يوجه كلامه للسارقين بكل غيظ: ابتعدوا عني يا أولاد الكلب... وهو يتفقد بعناد وتصميم في جسمه على شيئا ما... والسارقان منهمكان في ضربة وركله بكل قسوة ووحشية، كذئبين جائعين... ينظران فيما حولهما ويهمس احدهما للآخر: لا أمل له في النجاة! فالطريق مازالَ غارقاً في النوم، والمحال التجارية مازالت لم تستقبل روادها بعد... فبقي أياد تحت رحمة مجرمن ليسَ لهما إلا هدف واحد فقط جاءا من أجله- الخراب الشامل- وهما يتهيئان للانقضاض على ما تجده أياديهما الملوثة بالإثم ودماء أياد النقية...

لم يمهلهما الحظ إلا ثواني معدودة، في حين كانت ألسنتهما ترطبان شفاههما طمعاً في الغنيمة؛ وهما مازالا غير مصدقين ما قاما به من عمل متقن! فظلا غائصين كالحالمين في سعادة نرجسية لسهولة تقهقر أياد بينَ أيديهما وللفرصة الثمينة السانحة لهما في السرقة السريعة المباغتة، متوهمين بأنهما سيكونان أسعد خلق الله حالاً...

عندها دوت صفارة الإنذار، عندما نجحَ أياد بضغط زر الإنذار المعلق في عنقه دونَ أن يراه السارقان، وهو ملقى على الأرض يتلوى من الألم والصدمة...

لم يصدق السارقان ما فعله أياد وهو مضرج بدمائه، ولم يتوقعا أبداً بأنَ لأياد زر إنذار متنقل يحمله معه أينما كان؛ لذلك كانت هزيمتهما مربكة وصعبة، لكنهما استطاعا الهرب رغم الموقف الجديد المفاجئ ولاذا بالفرار بعدَ أن أطلقا سيقانهما للريح سريعاً وهما يعدوان خائفين كفئران فارة من مصير الموت الحتمي؛ وهما يلعنان في سرهما اليوم الذي فكرا فيه بسرقة متجر أياد الغارق في العتمة والهدوء والسلام... فأختفيا عن الأنظار، كما يختفي الدخان.

حافظت قطع أثاث المتجر وبضاعته على سكونها وهي مستلقية باطمئنان تام لتبقى شاهداً أخرس على ما حدث...؛ تجمعَ الناس حولَ أياد بسرعة بعدَ سماعهم صفارة الإنذار، وحضرَ رجال البوليس والإسعاف وهم يحاولون تضميد جراحه ومحاولة استجوابه حولَ مواصفات المجرمين... لكن أياد فاجأهم بصراخه المكبوت والغير المعلن وهو يدمدم بعفوية صادقة ويصيح متوسلاً:

أرجوكم أريد أولاً هاتفاً( وهو يدفع أيادي رجال الإسعاف عنه)

 أحد رجال البوليس: هاتفاً...! ثمَ أردف باستغراب حقيقي: منْ ترغب الاتصال به في هذه اللحظات؟ قل لنا ونحن سنتصل به، وواصل استفساره بنفس الرنة والدهشة: هل هي زوجتك؟!

 قالَ أياد وهو يئن ويتألم ويفرك عينية جراء المادة السائلة التي رشت على وجهه؛ والدماء مازالت تسيل من فمه وأنفه بغزارة: أود أن أخبر صديقي الذي يسكن في ألمانيا؛ فهو أعز أصدقائي... ثمَ استطردَ بعفوية شديدة وهو يمسح جبهته التي تعفرت بالتراب، بكم قميصه: يعني... أقصد أنه كظلي، حتى وأن بعدت المسافات، فهو في ضميري وقلبي؛ وواصل بنفس الحماس وهو يغمغم بصوت باكِ جراء الألم وأثر الصدمة: صدقوني أنه من طين مثلي! ويمتلك متجر لبيع الذهب والفضة أيضاً وأستعجله على شراء زر الإنذار المتنقل كهذا الذي أنقذني للتو من بينَ أيادي المجرمين! ثمَ تشجعَ قليلاً بعدَ أن ألتقط أنفاسه الغائصة في أعماقه وتابعَ باهتمام وجدية: هو صديقي وأنا أعلم بأنه لا يملك مثل هذا الإنذار المتطور... كما أن متجره واسع وغالباً ما يكون لوحده وفي هذا مغامرة كبيرة؛ ثمَ رجعَ إلى لهجته المتوسلة وهو يبصق على الأرض الدم المتدفق بعدَ أن أمتلئ فمه به وأردف: أرجوكم أريد هاتفاً... إلا تسمعون؟!

 حملقَ رجل البوليس في وجه أياد بذهول ودهشة، وكأنه لم يجرب الجد من قبل! وقال بعدَ أن استيقظ من صمته: إنه لأمر مذهل ويعز على التصديق! وهو مازال ينظر إليه بإشفاق وتقدير... نظرة صارخة بالرأفة والحب والسمو... اهتز لها فؤاده وأضرم العطف والرحمة في قلبه لشخص أياد الذي مازالَ مستلقيا على الأرض ويتلقى العلاج من رجال الإسعاف...

في حين بقي رجل البوليس ساهياً غير مصدق، ما يرى ويسمع، وكأنه أمام ملهاة تمثل على مسرح... وهو يدمدم بصوت كالهمس: كيفَ يمكن لرجل تعرضَ لصدمة عنيفة وعندَ ساعات الصباح الباكر، ويئن ويتألم والدماء تسيل منه وهو يسأل برجاء حميم عن صاحبه؟! فظلَ رجل البوليس يصارع حيرته واستغرابه، وكأنه يسبح في بحيرة من الهموم... لا عرف فيها في ناموسهم، ولا حتى في قاموس حضارتهم البراقة الجميلة الحديثة العملاقة؛ ثمَ صرحَ في سره وبصدق لم يخالطه النفاق، وهو يداري دهشته بابتسامة لا لونَ لها ولا تعبير: يا لها من روح نقية، صافيه، راقية وثمينة كالماس.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى