الأحد ٢٠ أيار (مايو) ٢٠١٢
بقلم مصطفى أدمين

رجل الساعة

لم يظهر أبدا في وسائط الإعلام، ولكنّه دائم الظهور بالنسبة لي. الكلّ يعرفه في هذا الطريق الصاعد إلى مقر العمالة، أما أنا فأعرفه في نفس الطريق لكن من جهة الانحدار. اسمه لا يهمُّ الناس ولكنه يهمني. يسمونه «رجل الساعة» وأنا أسمّيه «مولْ الزمان». الزمان يتغيّر وهو يبقى على نفس الصفة والحال. أمْ تُراه يتغيّر والزمان هو الذي يبقى على نفس الحال والصفة.

يقولون:«الزمان غدّار... كافر... خدّاع... دوّار... قاهر... جبّار... مُنسي... مُذكِّر...» أمّا «رجل الساعة / مول الزمان» فهو وفيٌّ، مؤمنٌ، صادق، ثابت، وديع، مَنسيّ، غيرُ آبه بشؤون الناس.

يعجبني أن أراقبه من مقهى «الفصول الأربعة» وهو منكبٌّ على عمله في خشوع متعبّدٍ ليس في قلبه خوف أو طمع. أسهو عن قراءة الكتب التي بين يديّ لأطالعه هو. رواية «البحث عن الزمن المفقود» (لمارسيل بروست) لا تجعلني أطرح الأسئلة التي تجب بخصوص مفهوم الزمن. التأمّلُ في «رجل الساعة» يدفعني إلى طرح أكثر من سؤال في مسألة الزمن وصفاته وتقسيماته وهويته: نحوُه؛ هل هو فاعل أم مفعول به أم مفعول فيه؟ مَنحاه، هل هو خطّي تصاعدي أم خطّي قهقري، مستقيم أم منكسر، دائري حلقي يكرر نفسه أم حلقى متجدِّد؟ مُفرغ أم مفتوح؟ حلزوني؟ كروي أجوف أمْ كُروي مُمتلئ؟ هادف أم عبثي؟...

مجموعة «إخوان الصفا» لم تُقنعني بما جاءت به حول الزمن في إحدى رسائلها الفلسفية، ولا ابن رشد وابن سينا وابن الهيثم، ومن قبلهم أرسطو وأفلاطون وسقراط، ومن بعدهم كانط وسبينوزا ونيتشه وهايدكر... هولاء تكلّمواْ في الزمان ولم يعيشواْ فيه وبه. ليس كما صاحبِنا الذي اختار لنفسه (لكي يوجد) العمل على إصلاح آلات الزمان لكي يعيش.

دُكانُه ضيّق ومملوء عن آخره بالساعات من مختلف الأشكال والأحجام. يدخل عليه الزبون لإصلاح آلة زمانه فيأخذها منه من دون النظر إليه. هو لا يريد أن يعرف من أتاه بـ «الزمان المُعطَّل، العاطل، المعطوب». يأخذها منه من غير أن يرفع رأسَه. يضعُ عدسة مكبِّرة على عينه اليُسرى، ثم يغوص في دواليب الآلة وتروسِها وزُمبرُكاتها ويقول له بصوتٍ واهن:
ـ ما ينقصُها هو القليل من الزيت.
أتساءل:«ما طبيعة هذا الزمان الذي يحتاج إلى القليل من الدِّهان لكي يسير... وإلى الكثير من الذُهان لكي يصير يسيرا؟»
ـ ما ينقصها هو استبدال «التفّاش».
ويستبدله بـمحرّك عقارب جديد، فتنطلق هذه الأخيرة في دورانها المجنون لكي تحدّد للزبون أزمنة عذاباته على الأرض. فيحذره:
ـ «التفاشُ » الذي وضعتُ لك ليس «ماركة» جيّدة، عليك استبداله بعد حين.
ـ ما ينقصها هو التنظيف... هاك ساعتَك وحاذر أن لا يدخلها الغبار...

هل للساعة علاقة بالحيوانات السامّة؟ طبعاً. ألا نقول «عقارب الساعة»؟ فهل الزمان سامُّ إلى درجة أنّنا نصبغ صفة السُمّـِية على إحدى آلاته؟

ـ ما ينقصها هو بطّارية جديدة.
هنا أتساءل:«ما علاقة الزمان بالطاقة؟ قديما كانت الطاقة من أصابعنا؛ نفتل رأس «التفـّاشْ» عدّة مرات، فينطلق زمانُنا ليوم واحد فقط، ثم نعيد الكرّة. أمّا اليوم، فلقد أصبحتْ الطاقة في قرص فضّي صغير. ما طبيعة هذه الطاقة المخبّأة في قرص صغير؟ وإذا كان للزمان علاقة بالحركة (دوران الأرض حول الشمس، تعاقب الفصول، جريان الماء من عالية النهر إلى سافلته، نمو الكائنات، تغيرات الأشكال،...) فما هي الحركة التي تخلق زمان الساعة الإلكترونية؟

ـ السلام عليكم!
ـ وعليكم السلام. ردَّ بصوت واهن. وأضاف من دون أن يخرجَ من الساعة التي بين يديه:
ـ مِمَّ تشكو ساعتُك؟
ـ ليس لديَّ ساعة ـ قلت ـ أريد فقط أن أسألك عن الزمان.
رفع رأسه ببطء ونظر إليَّ والعدسة المكبِّرة لا زالت في عينه اليسرى:
ـ ماذا؟
ـ أريد أن أسألك: هل للزمان علاقة بالحركة؟
وكأنّه علِم مسبقا بأنني سآتي إليه في يوم مّا لكي أطرح عليه سؤالَ الزمان؛ لم يجبني فورا وإنّما انحنى هلى درج مكتبه وأخرج منه كوما من الصور ومدّها إليّ.
الصور بنفس الحجم ولنفس الوجه؛ وجهه، وفي نفس المكان؛ في الأستوديو المجاور لدكّانه ومن دون خلفية سوى ستار رمادي. الصور تؤرّخ لمسيرة الوجه عبر الزمان منذ كان شاباً حتى صار شائخا.
ـ ماذا يعني هذا؟ سألتُك هل لديك فكرة عن علاقة الزمان بالحركة.
ـ سمعتك وفهمتك يا ولدي والجواب بين يديك.
ـ لم أفهم.
ـ انظر إلى حروف وخطوط وتقاسيم وجهي ومواقع عيناي وأنفي وفمي وأذناي وأشكالها...
ـ لم أفهم.
ـ ألا ترى بأنها تتحرّك. الحركة في وجوهنا والزمان فينا ولا ندري؛ نعم، لولا الحركة ما كان للزمان وجود.
لم أسترسل في السؤال أمامه. خرجت أنا ودخل هو في آلة الزمان بحثا عن العطب.

في مقهاي، طلبتُ قهوة سوداء من دون سكر. وأشعلتُ سيجارة. تلاشي جسم السيجارة بفعل النار، حركة، زمان. انصراف الدخان وتبدُّدُه في الفضاء، حركة، زمان. مرور الناس أمامي حركة وزمان. انخلاعُ «ضرس العقل» من فمي، حركة وزمان... الزمان في فمي وأنا لا أدري. الحبيبة التي انتقلت منّي إلى رجل آخر أقدر مني على تلبية طلباتها؛ زمان. الخيانة، الغدر، الطمع، الجشع، القهر... زمان.

غِبتُ عن مقهاي أسبوعا وعندما تُبتُ إليه رأيتُ دكان «رجل الساعة» وقد استحال إلى مخدع لبيع الهواتف المحمولة.
دلفتُ إليه. المكان صار أنيقاً. وليس من أثر لـِ «رجل الساعة» سوى الساعة الحائطية التي كنتُ أبصرتها لحظة زيارتي له.

سألتُ المسؤول عن المحلّ الجديد فأجابني:
ـ لقد اشترط علينا السيد «محمد ثابت» عندما باعنا دُكّانه بأن نحتفظ له بهذه الساعة إلى أن يموت.
ـ في أيّة ظروف باعكم «رجل الساعة» دكانه؟ (لم أقدر على نطق اسمه الحقيقي لأنني لم أكن أعرفه).
ـ يقول بأنّه اضطر إلى البيع لأنّ صوره الأخيرة لم تعد تتحرّك؛ ونحن لم نفهم.
وأنا لم أرغب في شرح ما لا يُشرح لأناس لا همَّ لهم سوى بيع الثرثرة للناس.

بعد يوم وليلة، وبعد أسبوع وشهر، ثم بعد سنة؛ عدتُ إليهم لأسألهم عن «رجل الساعة» فكان الجواب المرّ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى