الاثنين ٤ حزيران (يونيو) ٢٠١٢
بقلم فؤاد وجاني

حديث العَشاء والكِساء

للباب أنين والريح في الخارج عاتية، جُعت إلى خدش الحرف على صدر الطبيعة، هذا القلم الحائر العاجز اليوم عن الكتابة لا يسعفني بحرفٍ يرد إليّ روحي البهيجة، لم يعتره الألم ولا الفرح، لم يفقد صبره، لم يهيجه شوق، لم تحطمه ذكرى، لا يقتله سوى العدم والسكون المميت، فالوقار يصلح لدور العبادة ولا يليق بالكتابة، الكتابة تحتاج إلى الاستفزاز لتساق على نعش ورقة.

تركت عينيْ المعري ونحنحة بورخيس وشارب دالي ورائحة الجاحظ ومرآة نرسيسوس ومروءة الفاروق وحكمة عليّ وتأريخيْ الحزن والسعادة من البصرة إلى الرباط، وودعت نكهة القهوة وخرجت، خرجت من جلدي لأرى وجهي في السماء، القمر حاجبٌ قناعَه الضوئي، والسحب قوافل غجر مهاجرة تهتف بقحط العواصف وتستجدي دويَّ الرعود.

خرجت باحثا عن قصيدة تقليدية ذات خطى متوازنة حثيثة تسير على شطرين، أو حرة طليقة تطير بين السطور دون جناحين من صدر وعَجُز، أو خاطرة تائهة بين قعقعة الحديد في وغى الشوارع المدنية، أو أي كلمات أستوحيها من شقاء الفقراء وغبن الأغنياء، خرجت أبحث عن بؤس عاهرة تبيع الفرح بين الطرقات، عن مُصلِّ يحتسب الأجر إلى المساجد في الخطوات، عن بائع ينادي بين الناس: حيَّ على الشراء، عن لهفة أم تبحث عن وليد حملته قهرا وأرضعته دهرا فباع البِرَّ بالدرهم، عن وقع أرجل ضالة خافتة تحمل حكاية أو عبارة، عن قطة بالطيران حالمة قد سقطت من الطابق السابع في شقة ساكنوها واقعيون جدا، عن حسرة شيخ يردد: لا تأمن للدنيا فإنها خادعة، عن مراهق مغرم ينتظر حبيبته الأولى في صمت على الرصيف، عن مناضل ومناضلة تجمعهما لافتة، عن غنج أشلاء امرأة تشتهي كلمة حلوة تقيها برودة العيش القاتلة، عن شاعر يترنح ثملا: هذا الرصيف الإسمنتي المسلح لم يخلق للشعر ولا لخواصر الإناث، خرجت باحثا عن أي أحد أو شيء يثير القلم فيجتره من العدم، لم أجد شيئا ولا أحدا إلا الريح العاوية.

رجعت على غُبَيْراء الظَّهْرِ، جائعا دونما كلمات، أخْيَب من حُنين لكن بخفين، مغتاظا وجوفي يغلي غليان القِدر، ولأن أمي قالت لي صغيرا ذات عراء: يا ولدي لا بد من الكساء ، ولأن أبي قال لي ذات مساء: يا بُنيَّ لا تنم يوما أبدا دون عشاء، رجعت لأكتب عن خيبتي العظمى هذه الليلة وأتدثر بهَذْي هَذِي السطور العميقة العقيمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى