الاثنين ٣٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم محمد سعيد الريحاني

جون جونيه: بين البحر والسجن والمقبرة

"حين تهدي أحدا كتابا، فإنك لا تهديه فقط ورقا ومدادا وغراء. إنك تهديه إمكانية عيش حياة جديدة."

Christopher Morley
كريستوفر مورليه

مطر، سواد، سكون يسبق العاصفة...

اسودت السماء، ازداد سوادها قتامة. نزلت السحب الحبلى حتى مستوى الأشجار الحائرة تحت هياج الرياح. الكون يتمزق ضياء بين الفينة والفينة والرعد يزمجر في كل مكان. والظلام يحتوي الوجود رويدا رويدا.

رونيه، ضيفي الفرنسي، غير محظوظ. رونيه حل ضيفا علي لمساعدته في إنجاز بحثه المعنون: "جون جونيه : بين البحر والسجن والمقبرة "، وهو أطروحة لنيل الدكتوراة لكنه يعتزم من خلاله دخول عالم الكتابة والطبع والنشر. وقد وعدني بتخليدي على صفحة الإهداء حين يصدر البحث كتابا.

إقامته معي ستدوم أسبوعا. لكن تخمينات النشرة الجوية للأسبوع الحالي تتوقع تساقطات مطرية كبيرة وانخفاضا كبيرا في درجة الحرارة وهو ما سيحصر إقامته معي في مقهى على الشرفة الأطلنتيكية، قبالة البحر، أو في إحدى غرف بيتي في "كريان جنان باشا".

جون جوني، بين كل مدن الدنيا، كان يبحث عن مدينة تجمع محطات حياته الثلاث في مثلث متساوي الأضلاع: السجن حيث قضى سبع سنوات من حياته، والبحر متنفس الصدور بعد كل ضيق، والمقبرة غرفة النوم الأبدي لكل المتعبين...

بين كل مدن الدنيا، لم يجد جون جونيه سكنا يطل مباشرة على مثلثه الوجودي إلا في هذه المدينة. ولهذا اشترى ذلك المنزل هناك حيث كان يقضي معظم وقته تحت قبعته متأرجحا، طول الوقت، على كرسيه الهزاز يرقب من الشرفة زوايا المثلث متنقلا بنظره من المقبرة حيث أوصى بدفنه، إلى السجن على اليمين، إلى البحر الممتد إلى مالا نهاية له ثم إلى المقبرة ثانية وثالثة ورابعة...

كان ضيفي، رونيه، يدون كل ما أتلفظ به. وكانت أساريره منفرجة وكان سعيدا رغم الجو الكئيب ورغم سواد المظلة المشتركة الذي كان يحتمل أن يجعل إحساسنا بالكآبة والسواد مضاعفا.

المطر يهطل بغزارة وهد ير البحر يملأ الكون صخبا ولا مجال للتجول في الشوارع والطرقات ...

دعوته للذهاب للاحتماء ببيتي فاستجاب .

هذا هو حيي: " كاريان اجنان باشا "*، بعيدا عن مثلث جونيه ، لكن رونيه، ضيفي، لم يكن سعيدا أو ربما فترت سعادته أو ربما هو متعب.

نزلنا "الكاريان" في مسالك ملتوية ضيقة كما ننـزل حافة نهر وادي المخازن... كان رونيه صامتا يتبعني من الخلف يخطو حيثما خطوت ويتوقف حيثما توقفت للاحتماء من نوبة مطرية عاصفة...

تفضل! مرحبا! هذا هو بيتي...

رفع إيف عينيه إلى الجهة التي نزلنا منها حيث العمارات الشاهقة وفنون المعمار والبناء والتعمير، واستدار بنظره من اليمين إلى اليسار فبدا له حيي مثل مجمر وقوده الناس والبراريك والأزبال. وبدأ الخجل يخامرني...

فتحت الباب وأضأت المكان.

سألني رونيه متعجبا:

  هل لديكم كهرباء؟
  طبعا. هنا، يمكنك أن تسكن في أي "كاريان" وسيأتيك الماء والكهرباء وكل الحقوق حتى باب بيتك.

جدران الغرفة ازدادت برودة كما كان عليه الحال صباحا.

الجدران انتفخت وطفت عليها خضرة خفيفة. الصور الكبيرة الملونة المعلقة باللصاق المائي قد انفصلت زواياها عن الحائط فقد تحولت من بورتريهات إلى منحوتات بفعل رطوبة المكان المبدع...

أدركت أن ضيفي مستاء للغاية من جو الضيافة. لم يعد يسأل عن جون جونيه. هو فقط يحملق في شكل المكان ويحاول تسمية مرافقه. قال سهوا وهو يتحسس الصدأ الذي علا شباك النافدة الوحيدة الصغيرة المطلة على الخارج:

  هل شاهدت فيلم " الهاربون من اركاتراس "؟

أجبت آليا:
  نعم. ولكن السجن سنخرج لرؤيته بعدما يصحو الجو. نحن رأينا فقط المقبرة والبحر ومنزل جون جوني...

اندهش رونيه وجعد جبينه غير مصدق، قائلا:

  هل بعد كل هذا، لازالت هناك سجون وراء "الكاريانات"!؟

ازداد غضب المطر.

المطر، الآن، لا يهطل: المطر، الآن، يركل السقوف...

المطر، الآن، يبصق على زجاج النوافذ.

المطر، الآن، يمسح كل الأسماء على الألواح.

المطر، الآن، يمسح كل الشعارات على اللافتات.

المطر، الآن، يمسح كل شيء...

+ + +

"الكاريان": مقلع من مقالع الرمال او الصخور

العرائش، بتاريخ: 26 يوليه تموز 2005


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى