السبت ٣٠ حزيران (يونيو) ٢٠١٢
بقلم حميد طولست

ذكرياتي المرة مع مستشفياتنا

الحلقة 1

المرض تجربة مريرة وأليمة لا يعرفها إلا من كابد معاناته، والصحة نعمة لا يدركها إلا من افتقدها لبعض أو كل الوقت، وهي "تاج على رؤوس الأصحاء، لا يراها إلا المرضى" كما كان الآباء يرددون ذلك على مسامعنا ونحن صغارا دون أن يدرك أكثريتنا معناها أو مرماها، ولا كيف تتوج هامات الأصحاء بتيجان تبرق وتلمع فوق رؤوسهم ولا نتمكن نحن رغم تطلعنا في المرآة إلى رؤوسنا من رؤية بريقها، ومع ذلك ندع بدوامها ودوام تلك التيجان التي تتمتم النفوس العليلة التي لا حول لهم ولا قوة الراقدة على أسيرة المرض، بالدعاء والترجي لتسلم وتعافى مما أصابها من السوء.

ولقد كانت المستشفيات مند زمن بعيد، وما زالت، هي الأمل في التخلص من الآلام المبرحة والعذابات الناتج عن العياء أو المرض الذي يعتري الإنسان، يقصدها لتلقي مختلف العلاجات طمعا في استرجاع الصحة والاستشفاء من الأمراض؛ ومن واجب الدولة -أي دولة تحترم نفسها- نحو مواطنيها، توفير المستشفيات المجهزة بكل اللوازم والأدوات، وتسليحها بأحدث التجهيزات والآلات الطبية الضرورية لتشخيص الأمراض المختلفة، وتزويدها بالأطر الكافية ذات الكفاءة العالية المتفانية في تقديم العلاجات المناسبة لإعادة نبض الحياة إلى قلوب المرضى، لأن الأمر يتعلق بالحياة التي تعتبر أغلى وأثمن شيء يمتلكه الإنسان.

ليست هذه المقدمة البسيطة المبسطة للخوض في مآسي الحوامل مع المستشفيات، والتي تناقلت مؤخرا وسائل الإعلام قصصها الغريبة والدامية اللائي يلدن بالعشرات عند بوابات المستشفيات وعلى اسفلت ممراتها النتنة وتحت أعين الممرضين والممرضات وباقي الزوار، تلك القصص التي ما كنا نرى مثلها إلا في دور السينما، والتي لم ينفيها أي مسؤول بوزارة الصحة، لصحتها، بل والتي دفعت بالحكومة لاتخاذ بعض الإجراءات -التي نتمنى ألا تكون ظرفية كعادة الإجراءات الحكومية السريعة والمتسرعة، للحيلولة دون وقوع مثل تلك المآسى- خشية تشويه سمعة الوزارة والبلاد في أعين الرأي العالمي والمنظمات الإنسانية الغربية، وليس حفاظا على صحة المواطنات.

وأن هذه المقدمة ليست لسرد أخبار ووقائع حوادث أقسام الاستعجالات وما يسجل بها من انتهاك وإهمال لحياة المواطنين، كما أنها ليست مقدمة لفضائح الاختلاسات والتجاوزات والصفقات المشبوهة التي تم الكشف عنها عبر الكثير من وسائل الإعلام الإليكترونية والمكتوبة والمسموعة، وفي تصريحات السيد وزير الصحة الجديد ووعوده بتلافي ما عرفته الوزارة في سابق عهودها من تسيب وفوضى، لأن ذلك سيأتي بحول الله في الحلقات المقبلة،
أما الكلام البسيط إنما هو مقدمة وتمهيد لموضوع شخصي أفضح فيه أحداثا ومشاكل غير عادية وغير سليمة ولا منطقية عشت مرارتها خلال مسيرة البحت في المستشفيات الحكومية والخاصة عن تطبيب ولدتي المسنة، وأعري خلاله ممارسات كنت أظن كما الكثيرين، أنها لا تحدث إلا لغيرنا.

قصص وأخبار وأحداث مأساوية خطيرة ومصيرية كانت تمر علينا مر الكرام دون أن تثير فينا أدنى اهتمام أو تساؤل، فبالأحرى أن تكون شرارة لربيع اجتماعي يثور ضدها، كما يقول المثل الفرنسي

ومن تلك الكوارت التي اعتدنا في عالمنا العربي والمغاربي أن لا نهتم بالكثير منها، مادامت لا تمسنا شخصيا، والتي كادت أن تقضي على كل مداركي وأحاسيسي، تلك التي تحدث في عوالم المستشفيات وغياهبها الغريبة، والتي لم يكن المرض إلا جزء من المعادلة الكلية لمعاناة الناس فيها، والتي أضحت تشكل بالنسبة للذين يقصدونها هاجسا مروعا، حيث الأرواح على أكف العفاريت، والتي أول ما يثير الانتباه منها عند زيارتها، هو الاكتظاظ والازدحام والفوضى الشديدة في كل مداخلها وخارجها وعلى بواباتها وكل ردحاتها وقاعاتها التي تذكر بالأسواق العشوائية المغربية، في مقابل قلة فاضحة في الأطر الطبية والتي لا تتناسب مع عدد سكان المغرب، ومحدودية صارخة في عدد المتخصصين وتعدادهم الذي لا يتواءم مع حشود المرضى المتجمهرين في طوابير تدوم ساعات طوال، وقوفا أو على كراسي قاعات الانتظار الباردة برودة الموت، في إنتظار فرصة الفحص من طرف الطبيب المناوبة، الشيء الذي يتسبب دائما في نوع خطير وملموس من الإهمال واللامبالاة وسوء الخدمة وبطء التكفل بالمريض من طرف الإدارة والأطر الطبية والممرضين والعمال والمكلفين بالأمن تجاه المرضى والمواطنين، يتسبب في الكثير الأحيان في الاحتقان الذي يدفع إلى توتر وتأفف العديد من المرضى ومرافقيهم، الذي يقابل بتشنج وعصبية وعدوانية الكثير من العاملين ومسؤولي الصحة والأطقم الطبية، فتنشب المناوشات –التي قلما يمر يوم بل سويعات من دونها- التي تتطور في غالبيتها إلى معارك تستدعي تدخل أعوان الأمن الغلاظ بسلوكياتهم بممارساتهم الفجة وألفاظهم البذيئة التي تستحيي منها الأنفس.

هذا الوضع المزري، والصورة القاتمة والسوداوية والحقيقية للمراكز الاستشفائية، سواء الخاصة منها التي تقصدها الطبقة الميسورة، أو التابعة للدولة، والتي يلجأ إليها يوميا آلاف من المرضى الفقراء وأصحاب الدخل المحدود ممن لا يتوفرون على تأمين صحي يخول لهم العلاج بالمراكز الصحية الخاصة، والتي لا يجد معه الأطباء من الحلول سوى الاسراع في عملية فحص المرضى تباعا كالبهائم دون الاهتمام بمواجعهم ودون الاستماع لما يؤلمهم واصفين الدواء، في كثير من الأحوال، اعتباطا، وبدون استعمال للآلات الطبية التي لا تستغل إلا مع المحظوظين وأصحاب "المغارف، وذلك للنقص الحاد والبين في الكثير من التجهيزات وعلى الخصوص أجهزة التصوير بالأشعة "بالسكانير" أو "الرنين المغناطيسي" والتحاليل المخبرية بسبب غياب الأطباء المتخصصين.

ومما سبق وحسب ما عشت من تجارب مريرة مع هذه المستشفيات، تبين لي صدق المقولة التي يرددها جل المرضى وأهاليهم من زوار المستشفيات المغربية والتي تقول: سبيطاراتنا بحال الثلث الخالي من الدنيا الداخل لها مفقود والخارج منها مولودث، كناية على أن اللجوء للمؤسسات العلاجية المغربية مخاطرة كبيرة غير محسوبة العواقب، و قد علق أحد الظرفاء من المرضى الذين صادفت الكثير منهم بقاعات الانتظار الموحشة الباردة التي يتكدس على كراسيها الإسفلتية الباردة عشرات المرضى والآباء والأمهات وفي حجورهم أطفالهم ينتظرون الطبيب المداوم الذي يموت أصحاب الحالات العاجلة منهم قبل أن يحضر، قائلا: "إن مصالح المستعجالات، سواء الخاصة أو العمومية هي أول خطوة نحو الآخرة"، وقد صدق في ملاحظته المبنية على التجربة التي فيها المثل الشعبي "سال المجرب لا تسال الطبيب"، وذلك لما تعرفه المستعجلات في كل ربوع المملكة المغربية، من توافد كبير للمرضى الذين لا يجدون حتى المقاعد المتحركة لنقل العجزة منهم والمقعدين، وما ينتعش ببعضها من تلاعب بالأرواح وفاة، وإعاقة مستديمة، وضرر مادي ومعنوي، حيث يلقى كل يوم داخلها شخص أو اثنان حتفهما، حتى أصبح يطلق على بعضها "أقسام الموت"، ما جعل المواطن المغربي يتهيب من ولوجها، ولا يفعل ذلك، إلا وهو خائف من ألا يخرج من تلك الأماكن التي من المفروض ان يكون فيها بين أيادي أمينة- إلا "على آلة حدباء محمول" كما قال كَعب بن زُهَير.

فمن غير المنطقي وغير المعقول أن تظل المستشفيات "مسالخ بشرية" بامتياز، بسبب إهمال وتقصير وتهاون بعض الأطباء في التكفل بالمرضى، وانتشار الفساد وبيع الضمائر والصمت بدعوى أن الطبيب يقوم بما في وسعه لتقديم العلاجات في زحمة أوضاع مثخنة بالمعيقات والمشاكل وقلة الإمكانيات، ما يحتم علينا كمواطنين معنيين، بطرح مسألة الرقابة الداخلية للمؤسسات المعنية بصحة المواطنين وحياتهم، وذلك لأنه إذا كان ممكناً التهاون مع الانحرافات وسوء التصرف الذي قد يرتكبه العامة، فإنه من غير الجائز قبوله من نخبة "الأطباء" لأن القضية تتعلق بحياة الإنسان التي تفرض طرح التساؤلات الملحة من قبيل: هل الدولة المغربية تعير اهتماما كافيا لقطاع الصحة بشكل يتماشى وأهمية حياة الإنسان المغربي؟ وهل استطاع المغرب أن يحقق التغطية الصحية اللازمة لكل المواطنين المغاربة؟ وماذا عن التجهيزات الطبية؟ وهل هي في المستوى المطلوب؟

أم أن المسؤولين عن صحة المغاربة يغرقون في سبات عميق أو كأنهم لا يعيشون على كوكبنا هذا، أو أن أخبار مستشفيات دول العالم المتقدم لا تصلهم، وعلى رأسها تلك المؤسسات العلاجية الفرنسية التي صنفتها منظمة الصحة العالمية كأحسن مؤسسات علاجية في العالم لما تقديمه من أعلا الخدمات الممتازة من حيث الاستقبال وتقنيات العناية والراحة والنظافة والأمن والسلامة، و لا تدخر جهدا في تلبية معايير الدراية والخبرة والتكنولوجيا الطبية العالية التي حددتها السلطة الفرنسية العليا للصحة(HAS) لكل المستشفيات العامة والخاصة الفرنسية على حد سواء حتى تكون في أعلى مستويات التكفل بالراحة والاطمئنان المثاليان للمرضى الفرنسيين -وكل الذين يختارون العلاج بفرنسا- المقدمة عادة على يد جراحين وأطباء نشطون من ذوي الخبرة الذين لا يتوقفون عن المساهمة، بشكل كبير، في واختراع وابتكار أحدث الوسائل والتقنيات لتنمية وتطوير وتحسين الخبرات كل في مجاله وحسب اختصاصه الطبي، وذلك من خلال دراسات طبية وسريرية حظيت بالنشر في المجلات العلمية الفرنسية والدولية. بخلاف مستشفياتنا الخاصة والعمومية التي تعرف حركة دؤوبة ومتواصلة لا يوقفها لا ليل ولا نهار، وما يعيشه مرضاها من الهواجس المزعجة والمطالب المقبورة التي يتصدرها الإهمال وعدم المسؤولية والابتزاز والسرقات والتلاعب والشعور بالظلم والحيف- على يد من سبق أن قلت أنهم أشخاص كان من المفترض أن يكونوا "ملائكة للرحمة" لا عمال في برصات مالية أومسالخ آدمية- والتي تتغلف بالسرية والكتمان.

وأختم الحلقة الأولى من مقالتي هته بالدعاء بالشفاء السريع والعاجل لكل المرضى الذين تضطرهم العلل للالتجاء لخدمات المستشفيات العمومية المغربية ومصحاته الخاصة، وأن يهيئ لهم الله سبحانه وتعالى الظروف السهلة والمواتية للتعافي من الامراض والضعف البدني، وهو القادر سبحانه وتعالى على درء ما يحيق بنا من مخاطر لقول تعالى: "وإذا مرضت فهو يشفين"، وأرجوه عز وجل أن يعينهم على تجاوز الإحباط واليأس وما يتسببه لهم من الآلام النفسية التي تغمرهم بها أجواء وخدمات مؤسساتنا العلاجية التي لا أحد ينكر ما تبذله الوزارة لتحسينها،

وإلى اللقاء في حلقة اخرى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى