الجمعة ١٣ تموز (يوليو) ٢٠١٢
مصافحة..
بقلم بلقاسم بن عبد الله

الأدب الـجـزائـري وملحمـة الـثـورة

تصدير: الدكتور أبو القاسم سعد الله

الأدب الشعبي يواكب الثورة
.. وإلى أي حد يمكن الإعتماد على الأدب الشعبي الشفوي، بفنونه وأشكاله، من شعر وأمثال وأهازيج، في البحث والتأريخ للمقاومة الجزائرية ضد الإستعمار الفرنسي، ورصد خطوات وبطولات ثورتنا المجيدة المكللة بأوسمة النصر والحرية والسيادة؟.. تساؤل جوهري مثير للجدل، واجهني هذه المرة قبيل لحظات من إحتفالنا بنصف قرن من عمر المجد، وذكرى عيد إسترجاع الحرية والسيادة.

هو تساؤل كبير يطرح نفسه بإلحاح أمام قلة الدراسات المخصصة للأدب الشعبي الجزائري، رغم بعض الجهود المحدودة المعدودة. وخاصة من طرف بعض الباحثين الجزائريين، وفي طليعتهم: التلى بن الشيخ، عبد الملك مرتاض، العربي دحو..

كما تولي الصحافة الأدبية اهتماما متزايدا لهذا التراث الوطني، وسبق لملحق النادي الأدبي لجريدة الجمهورية أن خصص ملفا متكاملا عن الأدب الشعبي طوال شهري فيفري ومارس 1983 بمساهمة نخبة من الكتاب والباحثين.

ومن هنا تكمن قيمة الأطروحة الجامعية عن "صدى الثورة الجزائرية في الأهازيج النسوية لولاية تلمسان" التي نال بها سنة 2001 الكاتب الصحفي: عمار يزلي درجة الماجستير بتقدير مشرف جدا من معهد الثقافة الشعبية بجامعة تلمسان. قبل أن يعود لتنقيحها وتصحيحها، ثم طبعها في كتاب أنيق تحت عنوان: ثورة النسا.أهازيج عن الثورة الجزائرية. ويمتد عبر 208 من الحجم المتوسط، وقد صدر منذ سنتين ضمن منشورات البيت بالجزائر العاصمة.

وتنبع أهمية هذا الكتاب الفريد من نوعه في تناوله جوانب سوسيولوجية وأنثروبولوجية مهمة في المجتمع الجزائري، نظل في حاجة ماسة إلى مضاعفة الإهتمام بها، خدمة لثقافتنا الوطنية.

وإذا كان الأستاذ العربي دحو قد ركز منذ سنوات دراسته الجامعية عن الشعر الشعبي والثورة التحريرية في دائرة مروانة بولاية باتنة بالشرق الجزائري، فإن بحث الأستاذ عمار يزلي تمحور حول صدى الثورة الجزائرية في الأهازيج النسوية في منطقة ترارا بولاية تلمسان بالغرب الجزائري.

ويعتمد كتاب الأستاذ يزلي على الأهزوجة كشكل فني قائم بذاته، ذي خصوصيات فنية وأشكال خاصة، متولدة عن الرقص الفلكلوري للقبائل الأمازيغية في الغرب الجزائري والشرق المغربي، وهذه الأهزوجة المسماة "أحيدوس" لا تخضع لأوزان شعرية، بقدر ما تخضع لطبيعة اللحن والإيقاع، وتؤطر قاموسا لغويا يحمل من المقاومة، ومن "الحياة والموت" عناصر طبيعية للنضال، وللصراع الدائم ضد "الآخر"، مهما كانت قوته المضادة، كما يشير الباحث.
المقاومة، البطولة، الشهادة

ويشكل عنصر "المقاومة والبطولة" الهاجس المركزي من خلال لفظتي "المجاهدين" (ومشتقاتها النحوية)، و(الجنود) ومشتقاتها ومرادفاتها، والتي وردتا 18 مرة ضمن 184 أهزوجة.. فالمقاومة تفيد داخليا "طلب الشهادة"، كما تفيد كل من لفظة "الجندي، والجهاد، والجيش..." عنصر المقاومة المسلحة، وهذا يؤدي بنا إلى البحث عن موضع كل لفظة في سياق التعبير والدلالة الصورية للأهزوجة ككل، كما تدل عليه كل من هذه الألفاظ: "الرقبة (الشجاع)- الرايس (القائد)- أصحاب الغابة (أبطال الغابة)- للدلالة على البطولة، وكل هذه المفردات تفيد ضمنيا في سيكولوجية المرسل والمتلقى معا "طلب الحياة".

ضمن هذه التشكيلة من الألفاظ، يورد الباحث عمار يزلي أمثلة من الأهازيج بالمنطقة، نختار من بينها النماذج التالية:

1- بـلاد الـصـحــرا بـعـيـده والجـنـدي دابـره الـصـبـاط.

2- هو غـادي والدم يـسـيــل أحليلي، الجـنـدي مـسـكـيــن.

3- الخـاوا لبسـوني فرملـيـه باش نـداوي ولاد الـجـنــود.

4- الله يعاونكم ياالمجاهدين العقبة طويلة والسلاح ثقيـل.

5- أنـت جـاهـد وأنا نـغـنـي حـتـى نـتـلاقـو فـالـحـريــة.

من خلال تلك النماذج وغيرها، يلاحظ المؤلف أن الفكر الديني هو الفكر المؤطر لفعل "الشهادة"، فالإحساس الباطني لا يخلو من الإيمان "بالقدر"، ولكن أيضا بضرورة "الشهادة" باعتبارها "طريق الجنة" أو "مفتاح الجنة" كما يقول الفقهاء، كما يتجلى البعد الديني في التصور الشعبي للفظة "الجهاد" باعتباره "باب الشهادة".. وهنا تتجلى معادلة الحياة-الموت، أي جدلية بداية الأمل ونهاية الأجل.

الأهازيج الشعبية تواكب الثورة

الجبل كرمز للسيادة

رغم أن الجبل يبدو ظاهريا كرمز "للموت" في بؤرة الشهادة، فإن السيكولوجية الإجتماعية تصور "الجبل" كعنوان للحرية والبسالة، وقد يكون هذا نتاجا للمقاومة السيكولوجية التي يحاول المدنيون التسلح بها لمجابهة التحدي العسكري، وهذا أمر وارد في معظم حالات الحرب، حيث تصبح المقاومة النفسية البديل الذي لا بديل له لمقاومة العنف الجسدي والإرهاب العسكري الآلي. كما يشير إلى ذلك الباحث، قبل تقديم أمثلة من أهازيج محلية، نختار منها النماذج التالية:

1. يا الجبل العالي وفيه النوار تـمة الـزعـما بـنـاو الـدار

2. يا الله نمشيو لجبل أوريـس نعلمك الحرب والسربيس

3. يا للي قــلتو الزيش تخـلـوا فـالجـبال معـيـشـتو حـرة..

التعامل مع لفظة "الجبل" تعامل عام ومنطقي بل أساسي، إذا اعتبرنا أن المقاومة المسلحة كانت متمركزة بالجبال، بل وأن الالتحاق بالجيش عوض بتعبير شعبي متداول "اطلع للجبل".. كما أن الجبل هو عنوان "الاستقرار" و"العيشة الحرة".

ويلاحظ الكاتب ضمن الأهازيج المتضمنة للفظ "الجبل" تركز على الوضعية الاجتماعية للمجاهدين في الجبل، والتي تؤكد أنها جيدة، مما يؤكد مرة أخرى أن لفظ الجبل في الأهزوجة هو عنوان السيادة، ورمز المقاومة الباسلة والاستقرار، وهذا يعني أن معنويات الجيش على أحسن وجه، وأن هذا سيقود فعلا إلى الإنتصار.

وترتبط بالجبل كلمات أخرى متداولة كثيرا في أهازيج المنطقة مثل: الكهف والغابة والحدود، والأسلاك الشائكة، وغيرها.

ولعل من الصعب رصد مختلف النماذج من الأهازيج النسوية بمنطقة تلمسان والتي تناولت أصداء الثورة الجزائرية، من خلال هذا الكتاب، ويمكن أن نتوقف في الختام، عند ابرز النتائج المستخلصة:

1. أن الأهزوجة وإن كانت مقسمة فنيا إلى شطرين، على شاكلة البيت الشعري الكلاسيكي، فإنها هي وحدة متكاملة عضويا، لا تربطها أية رابطة تواصلية، وأي خيط بباقي الأهازيج المرددة.

2. حافظت الأهازيج نسبيا على "نقاوتها" الفلكلورية، المجسدة في رقصة "أحيدوس" لدى قبائل المنطقة مع تأثير ديني عربي ملموس.

3. أن الهاجس المركزي في أهازيج الثورة هو هاجس "الموت والحياة"، هذه اللحظة الدرامية تحضر في أغلبية الأهازيج المدروسة (184 أهزوجة)، فالموت والحياة شعور لا يفارق السكان أثناء الحرب، بما في ذلك عناصر "الجهاد، والمقاومة- والمكان، والشهادة" التي تحضر بشكل ملحوظ في غالبية الأهازيج.

فالثورة المسلحة التي إبتكرت نماذج من النضال والكفاح المسلح، كما يشير الكاتب عمار يزلي في ختام دراسته الميدانية، قد أبدعت أشكالا أخرى لم تكن في الحسبان، هي تلك القدرة على التصوير والتخزين والترميز، للمقاومة السيكولوجية التي يمكن اعتبارها بحق "خرسانة" الثورة، أمام "ترسانة" الحرب الإستعمارية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى