السبت ١٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٢
بقلم جميل حمداوي

عتبـــــــة الإهـــــــداء

توطئـــــة:

يرفق كثير من الكتاب والشعراء والمبدعين نصوصهم الإبداعية بذكر الإهداء ، باعتباره نصا موازيا للعمل الأدبي، يقدم النص، و يعلنه، ويؤطر المعنى، و يوجهه سلفا#. وقد يعتقد البعض أن الإهداء علامة لغوية لا قيمة لها، و لا أهمية لها في فهم النص و تفسيره، أو تفكيكه و تركيبه؛ بل هي إشارة شكلية مجانية أو ثانوية لا علاقة لها بالنص، ولا تخدمه لا من قريب و لا من بعيد. بيد أن الشعرية الحديثة (Poétique)أعادت الاعتبار لكل المصاحبات النصية أو العتبات المحيطة بالنص التي تشكل ما يسمى بالنص الموازي.وأصبح من الضروري قبل الدخول في النص الوقوف عند عتباته، و مساءلتها بشكل عميق ودقيق، قصد تحديد بنياتها، واستقراء دلالاتها، ورصد أبعادها الوظيفية. لأن الشكل مهما كان – عتبة أو تعبيرا أو صياغة أو مادة مطبعية- يحمل دلالات معينة، يقصدها المبدع أو لا يقصدها. و تؤخذ هذه الدلالات الشكلية بعين الاعتبار في قراءة النص الإبداعي وتأويله تشريحا وتركيبا.إذاً، ماهو الإهداء لغة واصطلاحا؟ وماهو تاريخه الغربي والعربي؟ وماهي أهم الدراسات التي اهتمت بالإهداء بنية ودلالة ووظيفة؟ وماهي مكونات الإهداء؟ و ماهي المقاربة المنهجية الصالحة لدراسة الإهداء في علاقته بالعمل من جهة، وارتباطه بالنص من جهة أخرى؟ هذه هي مجمل الأسئلة التي سوف نحاول رصدها في هذا الموضوع.

☚ مفهـــوم الإهـــــداء:

يرتبط الإهداء في اللغة العربية بالهدية والعطاء والتبرع والهبة. وفي هذا الصدد، يقول ابن منظور في لسان العرب:" أهديت الهدي إلى بيت الله إهداء.وعليه هدية. أي: بدنة.الليث وغيره: ما يهدى إلى مكة من النعم وغيره من مال أو متاع، فهو هدي وهدي، والعرب تسمى الإبل هديا، ويقولون: كم هدي بني فلان؛ يعنون الإبل، سميت هديا لأنها تهدى إلى البيت..."#

هذا، ويقصد بالإهداء ما يرسله الكاتب أو المبدع إلى الصديق، أو الحبيب، أو القريب، أو الزميل، أو المبدع، أو الناقد، أو إلى شخصية هامة، أو مؤسسة خاصة أو عامة، وذلك في شكل هدية أو منحة أو عطية رمزية أو مادية ، والهدف من ذلك هو تأكيد علاقات الأخوة، وخلق صلات المودة، وتقوية عرى المحبة، وتمتين وشائج القربى، وعقد روابط الصداقة ، ونسج خيوط التعارف، مع تبادل الهدايا الرمزية والمشاعر الرقيقة، سواء أكان المهدى إليه شخصية أم جماعة ، واقعية أم متخيلة#. وقد يقترن الإهداء بالهدية من جهة، أو بلحظة البيع والتوقيع من جهة أخرى.

وإذا تأملنا الإهداء – ولاسيما في الخطابات التخييلية السردية أو الشعرية- فسنجد انتقالا من الأنا نحو الآخر، فتتحول الكتابة الإبداعية إلى ممر وسيط بين الأنا و الهو ، وذلك في إطار ميثاق تواصلي بين الأنا والغير، قائم على المحبة والصداقة ، أو العلاقة الحميمة الوجدانية المشتركة، أو على تبادل القيم الفنية و الرمزية نفسها التي يجسدها العمل الأدبي.ومن ثم، يعد الإهداء بمثابة كتابة رقيقة، قد تكون نثرية أو شاعرية، تقريرية أو إيحائية، توجه إلى المهدى إليه، الذي قد يكون فردا معروفا، أو مجهولا، أو جماعة معينة أو غير معينة.

وعليه، يعد الإهداء- حسب الباحث المغربي بنعيسى بوحمالة:" تقليدا ثقافيا ينم، بلا شك، عن لباقة أخلاقية إن لم تكن واجبة فهي، على الأقل، مستحبة.فهو شبيه بالتقريظ الذي كان معمولا به في العصور الأدبية العربية القديمة، ولكونه من خارجيات النص المهدى إلى اسم معين أو إلى جهة مخصوصة، فقد كان يجري تهميشه والقفز عليه، وذلك اعتقادا في لاجدوى المردودية في الاستيعاب الوافي والمستدق للأعمال الأدبية. سيحظى الإهداء بعناية البحث الأدبي ليرتفع بذلك من نطاق الممارسة الرمزية، الباذخة، والمزيدة، إلى مستوى الفعل الكتابي الدال والحائز على مشروعية التوازي مع النص الذي يتم إهداؤه.فمادام العنوان يمتلك وظائفه، فإن للإهداء وظائفه، التي يتكفل بها، هو الآخر، انطلاقا من موقعه وصيغته، وارتكازا كذلك على محتوى وإرساليته ونوعية المرسل إليه.

ولأن الإهداء ينتمي إلى خانة الموازيات النصية الإرادية.أي: التي تقع تحت مسؤولية المبدع، فلعل هذا ما يمنحه طابع مسلك رمزي مفكر فيه، متقصد، ومتوقع له إبلاغ المهدى إليه،وضمنيا الجمهور والقارئ الواسع، إشارة خاصة حول علاقة المبدع المهدي، أو النص المهدى، بالمهدى إليه، وكلما قلت فإن إهداء العمل الأدبي هو الملصق الصادق أولا الخاص بعلاقة ما على ها النحو أو ذاك تربط بين المبدع وبين بعض الأشخاص أو المجموعات أو الكيانات المعنوية.#"
وعليه، فالإهداء تقليد ثقافي وفني، يدخل المبدع أو المؤلف بواسطته مع المتلقي أو القارئ ، وذلك في علاقة وجدانية حميمة، قوامها التواصل العلائقي البناء والهادف إنسانيا ، سواء أكان سياسيا أم اجتماعيا أم ثقافيا أم فنيا أم أدبيا.

☚ تاريــــخ الإهــــداء:

تعد ظاهرة الإهداء ظاهرة ثقافية وفكرية قديمة قدم الكتاب، فقد ارتبطت به ارتباطا وثيقا، سواء أكان ذلك الكتاب مسودة أم مخطوطة أم مطبوعة أم مدونة رقمية. وهذا ما تؤكده حفريات الكتاب. ويرى جيرار جنيتG. Genette) ) أن جذور الإهداء تعود على الأقل إلى الإمبراطورية الرومانية القديمة. فقد عثر الباحثون على نصوص وأعمال شعرية مقترنة بإهداءات خاصة و عامة، ولاسيما إذا تحدثنا عن إهداء النسخة#. وقد ازداد إهداء النسخة غنى وانتشارا وتداولا، وأصبح ظاهرة لافتة للانتباه في العصور الكلاسيكية، وأصبح الغلاف في القرن السادس عشر " يتضمن بالإضافة إلى اسم المؤلف، و عنوان الكتاب، و مكان الطبع، وسنة الطبع، بعض المعطيات الأخرى، كاسم موزع الكتاب، وبعض الإهداءات الطويلة، و التفسيرات المختلفة، تحت العنوان والرسوم التي كانت تزداد غنى مع الوقت، و إشارة الطابع أو إشارة الناشر"#.

هذا، وقد أصبح الإهداء في الكتابات الغربية حتى القرن التاسع عشر ملفوظا إهدائيا مستقلا بنفسه، في شكل عبارة عامة أو جملة إهدائية مختصرة ومقتضبة. وفي الوقت نفسه، هناك إهداءات كانت ترد في شكل خطاب طويل ومفصل. علاوة على ذلك، يرى جيرار جنيت بأن الإهداء تقليد فيودالي (إقطاعي) من ناحية، ورعاية بورجوازية وبروليتارية من ناحية أخرى#. وبعد أن كان الإهداء موجها إلى الملوك والرؤساء والنبلاء والشخصيات الكبيرة في المجتمع، أصبح الإهداء في العصر الحديث يوجه إما بطريقة ذاتية إلى المبدع نفسه، أو إلى من يحبه الكاتب أو المبدع، أو يوجهه إلى من يكرهه. وقد أعلن بلزاك(Balzac) في القرن التاسع عشر الميلادي نهاية زمن الإهداء، حينما قال :" سيدتي، لقد انتهى زمن الإهداءات"#، على الرغم من كونه من أكثر الكتاب الغربيين اهتماما بالإهداء، وذلك في جل رواياته الواقعية#، وقد نحى مونتيسكيو (Montesquieu)منحاه الرافض للكتابة الإهدائية في كتابه:" أفكار/Pensées"، حيث نص قائلا:" لن أكتب رسالة إهداء: لأن من يجعل مهمته قول الحقيقة، لا ينبغي عليه أن يلتمس حماية على الأرض"#.

ويعني كل هذا أن هناك ما يسمى بالإهداء الكلاسيكي والإهداء المعاصر، فالأول مرتبط بالشخصيات المتميزة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ودينيا، والثاني مرتبط بالشخصيات العادية التي يحبها الكاتب، سواء أكانت واقعية أم متخيلة...وهناك من يرفض استعمال الإهداء في كتاباته جملة وتفصيلا.

ومع مرور الزمان، صار الإهداء تقليدا أدبيا و خلقيا و منهجيا في الأعمال الإبداعية إلى يومنا هذا. وهو أيضا تقليد عرفه الشعر العربي القديم والحديث، فكان الشعراء يهدون القصيدة إلى هذا الأمير أو ذاك، وذلك طلبا للتكسب من جهة، أو كان مدحا خالصا من جهة أخرى. وصار الإهداء في شعرنا العربي الحديث و المعاصر يحمل دلالات مغايرة، يقدم لرموز سياسية، أو لشخصيات اجتماعية ، أو لأشخاص عاديين أو مجهولين أومغمورين؛ وبذلك: " بات يدل على عقد ضمني بين مضمون الخطاب الشعري وحاجة جماعة مناضلة".#

هذا، ولا يقتصر الإهداء على ماهو سردي ودرامي من قصة ، ورواية، وقصة قصيرة جدا، ومسرحية، بل يتجاوز ذلك إلى الشعر، وقد عرف عن الشاعر الفرنسي بودلير صاحب ديوان:" أزهار الشر" بأنه كان مولعا بوضع الإهداءات التواصلية. وأصبح هذا التقليد الموازي ساري المفعول في الشعرين: الغربي والعربي على حد سواء، وازداد انتشارا وتداولا ومقصدية مع القصيدة المعاصرة ، سواء أكانت قصيدة تفعيلة أم قصيدة نثرية.

☚ الشعريــــة والإهـــــداء:

ثمة مجموعة من الدراسات الشعرية الغربية التي اهتمت بالإهداء بشكل من الأشكال، و تبقى دراسة جيرار جنيت (Gérard Genette)هي الرائدة في هذا المجال إلى يومنا هذا، وهي تحت عنوان:" العتبات" (Seuils)#(1987م)، حيث يخصص جنيت الإهداء بدراسة تربو على ثلاث وعشرين صفحة من الحجم المتوسط، وذلك من الصفحة (110) إلى ( 133) صفحة.
أما عن أهم الدراسات العربية التي اهتمت بشعرية الإهداء، بطريقة من الطرائق، فنستحضر منها دراسة عبد الفتاح الحجمري :" عتبات النص: البنية والدلالة" (1996م)، حيث يخصص الكاتب للإهداء خمس صفحات#. وهناك أيضا مقالة جميل حمداوي تحت عنوان:" مقاربة الإهداء في شعر عبد الرحمن بوعلي"#(2007م)، ودراسة نبيل منصر: " الخطاب الموازي في القصيدة العربية المعاصرة" (2007م)، حيث يخصص الإهداء بالمبحث الثالث ضمن الفصل الخامس#، ودراسة عبد القادر الغزالي:" قصيدة النثر العربية" (2007م)، حيث يدرس الإهداء في القصيدة النثرية عند الشاعر محمد الماغوط #، ودراسة بنعيسى بوحمالة تحت عنوان:" أيتام سومر" في شعرية حسب الشيخ جعفر" (2009م)، حيث يخصص الباحث الإهداء بصفحتين، بعد أن درس مجموعة من العتبات الأخرى، كالعنوان، والهامش، وغيرها من العتبات النصية المصاحبة#...

☚ بنيـــــــة الإهــــــــداء:

يكون الإهداء على مستوى البنية التركيبية والمعمارية كلمة أو نصا قصيرا، أقله جملة واحدة، وغالبا ما تكون هذه الجملة اسمية أو شبه جملة أو جملة فعلية، و قد يكون نصا طويلا من جهة، وقد يكون نصا أدبيا قصيرا جدا، يحتوي عناصر القصة القصيرة من شخصية، وحدث، وفضاء، وإحالة على واقع مرجعي معين، أو موضوع متخيل. وقد يشكل الإهداء ملفوظا مستقلا بنفسه. وغالبا ما يكون في بداية العمل الأدبي، مقترنا بصفحة التقديم، أو محاذيا للعنوان الخارجي للديوان، أو حاشية فرعية للعنوان النصي الداخلي، أو يكون نفسه عنوانا. و يرد الإهداء في شكل جملة أو نص أدبي قصير، يتضمن عناصر التواصل الأساسية: من مرسل، ومرسل إليه، و إرسالية، و مرجع، و قناة، و لغة التشفير، و فك سننها. و قد يتحول الإهداء من نص قصير إلى نص طويل( Macro texte)، يحتوي على الحدث، و سياقه، وشخوصه، والإحالات المرجعية والرمزية، كما يبدو ذلك جليا في ديوان الشاعر الفلسطيني عبد الفتاح محمد: "قصائد على الحدود"#، و ديوان: "زمن الانتظار" للشاعرة المغربية فاطمة عبد الحق#.

ويلاحظ أيضا أن الإهداء يكون في بداية الكتاب أو مستهل العمل الإبداعي، وبه يتصدر الكتاب نفسه.لذا، يحتل الإهداء مكانة المقدمة أو التصدير. ومن ثم، فللإهداء –كما قلنا سابقا- وظيفة تقديمية، يحل محل المقدمة أو التصدير، ويقوم بالوظائف نفسها التي يقوم بها التصدير أو المقدمة الافتتاحية. علاوة على ذلك، يمكن أن يتحول الإهداء إلى رسالة مهداة إلى شخص معين أو غير معين، وقد يتخذ هذا الإهداء مقطعا نصيا سرديا أو شعريا أو دراميا، أو يتحول إلى مقدمة مستفيضة، تشرح دواعي العمل وظروفه وحيثياته الذاتية والموضوعية، كما رأينا ذلك جليا عند فيلدينغ (Fielding) ، حيث يقول:" في الحقيقة، تركت نفسي تنقاد على كتابة مقدمة، فيما كنت أنوي إنجاز مجرد إهداء.لكن كيف يمكن تفادي ذلك؟#"

وإذا تأملنا موقع الإهداء، فقد كان الإهداء الكلاسيكي منذ القرن السادس عشر الميلادي مثبتا في الصفحة التي تلي مباشرة صفحة العنوان. وبعد ذلك، سيلتصق الإهداء بتلك الصفحة نفسها. ويمكن أن يكون الإهداء في وسط الكتاب، ويمكن أن يرد كذلك في آخره، وإن كانت هاتان الحالتان نادرتين جدا.هذا، ويتعرض الإهداء لخاصية الإضافة والحذف والتغيير والتعويض، حينما تتعدد طبعات الكتاب، فنجد الطبعة الأولى مرفقة بإهداء شخصي ما، ثم لا نجد ذلك الإهداء في طبعات داخلية أخرى، والعكس صحيح أيضا. وقد نجد نسخة مؤشرة بإهداء شخصي ما، ثم يغير الكاتب إهداءه في نسخة ثانية وأخرى، فيهديها إلى شخص آخر.
علاوة على ذلك، تتكون صيغة الإهداء من مجموعة من العناصر الرئيسية، مثل: المهدي، والمهدى إليه، وصيغة الإهداء، وسياق الإهداء، وذلك في شكل أسباب ودوافع ذاتية وموضوعية، وعقد الإهداء، والعبارات الرقيقة والصيغ الشاعرية، وتوقيع المهدي، وزمان الإهداء ومكانه. ويعني هذا أن الإهداء قد يكون موقعا أو مؤشرا بحيثيات مكانية أو زمانية، وخاصة في ما يسمى بإهداء النسخة، حيث يوقع الكاتب نسخة المتلقي بعبارات إفصاحية وبوحية رقيقة، ثم يرفقها بتاريخ الإهداء ومكانه. وقد يكون المهدي أو الذي يرسل الإهداء إلى شخص واقعي أو خيالي الكاتب الخارجي للعمل، والذي يسمى بالمؤلف أو المبدع أو الأديب، ويمكن أن يكون مترجمه إذا كان العمل ترجمة، ويمكن أن يكون هو الناشر أو الطابع أو الناسخ أو الموزع أو شخص آخر، كالمحقق الذي يتولى توثيق العمل وتحقيقه. أما المهدى إليه فقد يكون الكاتب نفسه، أو شخصا مجهولا أو معينا، أو شخصا خاصا أو عاما أو اعتباريا كالمؤسسة والشركة. وقد تكون هناك مجموعة من العلاقات التي تربط بين المهدي والمهدى إليه، كالعلاقة العائلية (المهدى إليه فرد من أفراد العائلة الصغيرة والكبيرة)، والعلاقة الاجتماعية( إهداء لشخص ذي مكانة اجتماعية)، والعلاقة الاقتصادية( إهداء للممول)، وعلاقة المحبة والصداقة( علاقة قائمة على الحب والصداقة والزمالة)، وعلاقة المهنة أو الحرفة (من مبدع إلى مبدع أو ناقد)، وعلاقة عمل(علاقة المبدع بصاحب العمل)، أو علاقة رسمية مؤسساتية (إهداء إلى مؤسسة أو شركة أو مقاولة ما)، أو علاقة مجهولة (إهداء إلى شخصية مجهولة)، أو علاقة ذاتية (إهداء الكاتب إلى نفسه)...وقد تكون علاقة فنية، وثقافية، وسياسية...إلا أن هناك فرقا واضحا بين إهداء العمل وإهداء النسخة. فإهداء العمل يكون ثابتا بصيغته التعبيرية، وبتوجيهها العام إلى مهدى معين، يختاره الكاتب أو شخص آخر، بينما يتوجه إهداء النسخة إلى مهدى إليه متعدد ، يختاره الكاتب أثناء التبرع أو التوقيع.لذا، يكتب اسمه على الصفحة الأولى غالبا، ثم يؤشر عليه بتوقيعه في الزمان والمكان، مصحوبا بعبارات رقيقة من المشاعر والانفعالات.ويعني هذا أن توقيع النسخة يوجه إلى مهدى إليه خاص . ويتسم هذا الإهداء بخاصية التغير والتنوع والتبدل، ويتغير من شخص إلى آخر. وقد يكون المهدى إليه فردا أو مجموعة، كما عند الروائي الفرنسي ستاندال(Stendhal)#، وقد يكون المهدى إليه متلقيا أو قارئا، وقد يتخذ طابعا دينيا أو لاهوتيا ، حينما يهدي الكاتب عمله إلى الله أو الكنيسة أو القس أو الكاهن أو البابا...وقد يكون الإهداء موجها من المؤلف إلى إحدى شخصياته داخل عمله، كأن يكون بطلا أو بطلة داخل قصة أو رواية أو مسرحية. ومن ناحية أخرى، قد يكون المهدى إليه شخصية واقعية أو متخيلة، شخصية معروفة أو مجهولة أو مغمورة، شخصية خاصة أو عامة. وغالبا ما يتضمن الإهداء ( أو المهدى إليه) أسماء العلم الذكورية والأنثوية ، والتي يقول عنها مولينو (Molino) بأنها:" تداعيات معقدة، تربطها بقصص تاريخية وأسطورية، وتشير قليلا أو كثيرا إلى أبطال وأماكن، تنتمي إلى ثقافات متباعدة في الزمان والمكان"#.

وإذا انتقلنا إلى صيغة الإهداء، فقد تكون صيغة ذاتية في شكل كتابة شاعرية ذاتية، أو كتابة عاطفية رقيقة. وقد تكون صيغة موضوعية، تحيل على عوالم الكتابة وحيثياتها التكوينية.ومن ثم، فالصيغة الإهدائية في إهداء النسخة يكون إهداء إنسانيا حيا من جهة، وإهداء رمزيا ووجدانيا وانفعاليا مؤثرا من جهة أخرى. في حين، يكون إهداء العمل خطابا عاما غير إنساني، موجه إلى متلق عام جاهز ومنمط.

☚ أنــــــواع الإهـــــداء:

ينقسم الإهداء إلى أنواع عدة، فهناك من جهة الإهداء الذاتي والإهداء الغيري.ويكون الإهداء ذاتياِِِ (auto dédicace)،حينما يوجه الشاعر الإهداء إلى نفسه، كما هو الأمر عند جيمس جويس (J.Joyce) الذي استهل بعض نصوصه السردية بالعبارة الإهدائية التالية:" أهدي العمل الأول في حياتي إلى روحي الخالصة "، ويمكن للإهداء أن يخصص أيضا لشخصية متخيلة، كما في روايات والتر سكوت (Watter Scott) #. وقد يكون الإهداء غيريا، حينما يوجه إلى الغير أو الآخر، ويكون بدوره خاصا أو عاما. وقد يكون الخاص اعتباريا، مثل: المؤسسة، والشركة، والجامعة، والكلية، والمركز العلمي…أو طبيعيا مثل: أديب، أو فنان، أو وطني، أو من الأهل، و الأحباب، و الأقارب، أو شخصية قومية أو عالمية إلخ…ويرى جيرار جنيت أن الإهداء الخاص—- privé موجه إلى شخص معروف كثيرا أو قليلا، فتكون العلاقة بين المرسل و المرسل إليه ذات طابع عام و رمزي، كأن تكون علاقة ثقافية، أو فنية، أو سياسية، أو غيرها من العلاقات العامة#.

و من جهة أخرى، فالإهداء كذلك نوعان: إهداء العمل La dédicace d’ œuvre، وإهداء النسخة La dédicace d’exemplaire؛ فالأول مرتبط بالكتاب أو العمل المطبوع، وهو فعل رمزي، ذو طابع عام. ويقترن الثاني بالنسخة الموقعة، ويحمل توقيع المؤلف المباشر، سواء أكان مرتبطا بالكتاب أم بالمخطوط. والآتي، أنه – من جهة أخرى- هو فعل حميمي، متميز ذهنيا ووجدانيا وحركيا، و تواصل خاص مع القراء، يحمل دلالة من نوع خاص.ويعتبر الإهداء، سواء أكان عاما أم خاصا، عتبة نصية مؤثرة، لا تنفصل دلالتها عن السياق العام لطبيعة النص الشعري أو السردي أو الدرامي، و عن أبعاده الإيحائية والمرجعية.ولهذا الاعتبار، يتصدر الإهداء النصوص، سواء أكانت سردية أم شعرية أم درامية، ، باعتباره أحد المداخل الأولية لكل قراءة ممكنة للنص. ويعني هذا أن النصوص الشعرية قد تحمل إهداءين: إهداء عاما موجها إلى جميع القراء بصفة كلية، وإهداء خاصا موجها إلى المهدى إليه.علاوة على ذلك، إذا كان المهدى إليه في إهداء العمل محدودا وثابتا ومقيدا بشخص معين أو بالمتلقي العام، فإن إهداء النسخة متعددا ومتغيرا، فكل نسخة موجهة إلى متلق خاص باسمه، ومكتوبة بكلمات شاعرية رقيقة خاصة به، ومؤشرة بالتوقيع في الزمان والمكان، ويعبر هذا الإهداء عن فطرية العمل وعفويته وطبعه وسجيته، خاصة إذا كان الإهداء مكتوبا بقلم أو خط المؤلف نفسه. وإذا كان إهداء العمل يرتبط بظهور المطبعة، فإن إهداء النسخة قديم بقدم الكتاب نفسه.وهذا ما يثبته تاريخ الكتاب في الثقافة العربية، فكان المؤلفون أو الناسخون يهدون كتبهم إلى شخصيات عامة أو خاصة ، تحمل في طياتها توقيعهم واسم المهدى إليه، قبل أن تظهر المطبعة بقرون عدة.

وعليه، فالإهداء :" عتبة نصية لاتخلو من قصدية، سواء في اختيار المهدى إليه( إليهم)، أم في اختيار عبارات الإهداء...وفي هذا السياق، يمكن التمييز بين نوعين من المهدى إليهم: الخاصين والعامين، ويقصد بالمهدى إليه الخاص (Le dédicataire privé) شخصية إما معروفة وإما غير معروفة لدى العموم.ويهدى إليها العمل باسم علاقة شخصية: ودية أو قرابة أو غيرهما...أما المهدى إليه العام أو العمومي (Le dédicataire public)، فهو شخصية أكثر أو أقل شهرة، ويبدي المؤلف نحوها العمل لعلاقة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو جمالية أو فنية... ومن ناحية أخرى، يمكن الحديث في مجال الشعر على الخصوص عن إهداء الديوان الشعري، وإهداء القصيدة الشعرية، وخاصة في القصيدة العربية المعاصرة. ويعني هذا أن هناك على العموم إهداء خارجيا وإهداء داخليا.

☚ دلالات الإهـــــــــــداء:

ثمة مجموعة من العلاقات التي تربط الإهداء بالعمل، قد تكون علاقة خارجية أو علاقة داخلية، ويمكن أن تكون علاقة موازية أو علاقة نصية، ويمكن أن تكون علاقة مجانية زائدة، أو علاقة نصية بنيوية عضوية، لايمكن فهم النص إلا من خلال استكشاف الإهداء واستقصائه بنية ودلالة ووظيفة. وقد تكون علاقة الإهداء بالديوان الشعري أو نصوصه إما علاقة مباشرة وإما علاقة غير مباشرة. ويتم الترابط بين الإهداء والعمل إما من خلال ترابط اتصال و إما من خلال ترابط انفصال، وذلك عبر مجموعة من العلاقات الدلالية والمنطقية ، كالإحالة، و الانعكاس، والتعيين، والتضمين، والإيحاء، والترميز، والتناص، والتفاعل، والتماثل، و التقديم ، و التوجيه السياقي، و التوليد الدلالي و المرجعي والمقصدي، إلى غير ذلك من العلاقات النصية والموازية الأخرى التي تجمع بين الإهداء والعمل المعروض.

☚ وظائـــــف الإهـــــداء:

من المعروف أن الإهداء في نصوصنا الشعرية والسردية العربية المعاصرة ليست تحشية زائدة ومجانية، بل لها وظائف عدة ، إذ يساهم الإهداء في إضاءة النص، وكشف بنياته الصوتية والصرفية والتركيبية والبلاغية، وتحليل آليات النص الدلالية ومقصدياته. وللإهداء علاقة وطيدة بالنص الإبداعي التخييلي، وخاصة الشعري منه، إذ يلخصه، ويوضحه، ويشرح علاماته ، ويوضح دلالاته، ويلمح إلى سياقه النصي والذهني والخارجي.

هذا، وللإهداء عدة و وظائف نصية و تداولية، خاصة الوظيفة العلائقية العامة التي تجمع بين المهدي والمهدى إليه، فتتوزع إلى مجموعة من الوظائف البارزة، كالوظيفة الاجتماعية(التواصل الحميم بين الأصدقاء و أفراد العائلة)، والوظيفة الاقتصادية (رعاية العمل الأدبي، وتمويله ماديا…)، علاوة على وظائف أخرى: ثقافية، وجمالية، وسياسية، ودلالية، وتأثيرية، ورمزية#، بله عن الوظائف التأويلية والسياقية التي تساعد الناقد و القارئ في تذوق النص، وإعادة بنائه من جديد. زد على ذلك، يرشدنا الإهداء إلى سياق الإبداع، فيرصد دواعيه الذاتية والموضوعية، ثم يبين كيفية انكتابه، وتكوينه، وطبعه، ونشره، وتوزيعه، وتلقيه...كما يقدم الإهداء معلومات موثقة عن طبيعة العمل مضمونا وشكلا ومقصدية، مع تحديد ظروف كتابته، وكيفية إخراجه إلى حيز الوجود. وقد يكون الإهداء بمثابة تعليق عن النص، و شرح لدلالاته الظاهرة والثاوية، وكشف لخصائصه الفنية والشكلية والجمالية. وقد يرد الإهداء أيضا في شكل تقديم أو تصدير استهلالي، يفسر حيثيات النص، ويستقصي أبعاده الدلالية والفنية والمرجعية. ومن هنا، يقوم الإهداء بوظيفة تقديمية أو تصديرية إلى جانب الوظائف السابقة، كالوظيفة الرمزية، والوظيفة الاجتماعية، والوظيفة الاقتصادية، والوظيفة الإيحائية، والوظيفية السيميائية، والوظيفية الأيقونية، والوظيفة التكوينية أو التفسيرية، والوظيفة المرجعية...وفي هذا الصدد، يمكن الحديث عن إهداء رسمي وإهداء شخصي، ولكل إهداء وظائف خاصة به.

وعليه، فللإهداء وظائف سيميائية ودلالية وتداولية عدة، يمكن حصرها في وظيفة التعيين التي تتكفل بوظيفة تسمية العمل وتثبيته. وهناك أيضا الوظيفة الوصفية التي تعني أن الإهداء يتحدث عن النص وصفا وشرحا وتفسيرا وتأويلا وتوضيحا. ونذكر كذلك الوظيفة الإغرائية التي تكمن في جذب المتلقي، وكسب فضول القارئ لشراء الكتاب، أو قراءة العمل، أو تلقي النص. كما يؤدي الإهداء وظيفة التلميح، والإيحاء، والأدلجة، والتناص، والتكنية، والمدلولية، والتعليق، والتشاكل، والشرح، والاختزال، والتكثيف، وخلق المفارقة والانزياح ، وذلك عن طريق إرباك المتلقي، بله عن الوظيفة التصديرية أو الافتتاحية...

زد على ذلك، تختلف وظائف إهداء النسخة عن وظائف إهداء العمل، فوظائف الإهداء الأول متعددة، ذات أبعاد علائقية ورمزية خاصة، ومرتبطة بلحظة التوقيع والتأشير على الكتاب المهدى. في حين، نجد أن وظيفة الإهداء الثاني محدودة وعامة، ومرتبطة بقارئ عام وثابت، غير متغير#. ويعني كل هذا أن:" الوظيفة الاقتصادية المباشرة للإهداء قد اختفت اليوم، لكن دوره في الرعاية أو الكفالة الفكرية أو الجمالية قد اقتصر على الأهم: التماس الدعم والسند المعنوي من المهدى إليه الذي يصبح بشكل ما، مسؤولا عن العمل، وعن استحقاقه الثقافي داخل فضاء التبادل الرمزي.

تتصل وظيفة التماس السند بإهداء الكتاب، أما إهداء النسخة فتختلف بحسب الوضع الاعتباري للمهدي إليه. فالإهداء العام للنسخة يمكن أن يرتبط ببعض المناسبات، ينتهي بتوقيع نسخ للجمهور الراغب في الظفر بإمضاء المؤلف. وعادة ما يكون هذا التوقيع مصاحبا بكلمة احتفاء أو بتعليق موجز على العمل.أما الإهداء الخاص للنسخة فلا يرتبط بالضرورة بمثل هذه المناسبات، وإنما يرتبط بخصوصية العلاقة القائمة بين المؤلف والمهدى إليه، ثم بين المهدى إليه والعمل نفسه.لهذا، يتجه المؤلف، في نص الإهداء، نحو تخصيص هذه العلاقة وتعليلها، من خلال تعليق ذاتي على العمل.وهذا التعليق وما يفصح عنه من معلومات أو تقييم، هو ما ينهض وظيفة تجعل الإهداء الخاص يستحق وضعه الاعتباري كنص مواز. وفي كل الأحوال، إن إحدى الافتراضات المسبقة للإهداء تتمثل في كون الكاتب ينتظر، في المقابل، من الشخص الحاصل على النسخة المهداة التكرم بإنجاز قراءة للعمل.وبذلك، يصبح تملك العمل مقترنا بقراءته، وليس فقط بمجرد الحصول على نسخة منه.#"

وهكذا، نصل إلى أن للإهداء وظائف جمة وعدة، يمكن رصدها عبر التموقع السياقي. ويعني هذا أن الإهداء ليس عتبة زائدة، بل عتبة مهمة في استكشاف دلالات النص، واستقراء بنياته، وتحديد مقاصده، سواء من خلال قراءة أفقية أو قراءة عمودية.

☚ منهجيــة دراســـة الإهــــداء:

تستوجب دراسة الإهداء في النص الإبداعي أو التخييلي التركيز على أربعة ثوابت محورية: البنية، والدلالة، والتركيب، والقراءة الأفقية والعمودية والسياقية. ويعني هذا أن الباحث في موضوع الإهداء يجب عليه أن يغربل بنية الإهداء، من خلال التوقف عند صيغته ، وتبيان مكوناته الصوتية، والإيقاعية، والصرفية، والتركيبية، والبلاغية، والنصية. وبعد ذلك، ينتقل الدارس إلى تبيان علاقة الإهداء بالنص المعبر عنه، هل العلاقة كلية أو جزئية، أو هي علاقة إحالية أو رمزية أو إيحائية أو تضمنية أو تضادية، أو تكون علاقة تطابق أو علاقة انعكاسية أو علاقة مفارقة...؟ ويمكن الاستعانة في مجال المقصدية بنظرية الوظائف اللسانية. إذ إن الإهداء- كما هو معلوم - عبارة عن رسالة، وهذه الرسالة يتبادلها المرسل و المرسل إليه، فيساهمان في التواصل المعرفي والجمالي، وهذه الرسالة مسننة بشفرة لغوية، يفككها المستقبل، ويؤولها بلغته الواصفة، وترسل هذه الرسالة، ذات الوظيفة الشاعرية أو الجمالية، عبر قناة وظيفتها الحفاظ على الاتصال. وفي هذا السياق، يمكن الاستفادة من وظائف اللغة، كما أرساها رومان جاكبسون (R.Jackobson). فللإهداء وظيفة مرجعية، ترتكز على موضوع الرسالة، باعتباره مرجعا وواقعا أساسيا، تعبر عنه الرسالة. وهذه الوظيفة موضوعية لا وجود للذاتية فيها، نظرا لوجود الملاحظة الواقعية، والنقل الصحيح، والانعكاس المباشر. وهناك الوظيفة الانفعالية التعبيرية التي تحدد العلائق الموجودة بين المرسل و الرسالة. وتحمل هذه الوظيفة في طياتها انفعالات ذاتية، وتتضمن قيما، و مواقف عاطفية، و مشاعر وإحساسات،يسقطها المتكلم على موضوع الرسالة المرجعي. وهناك الوظيفة التأثيرية التي تقوم على تحديد العلاقات الموجودة بين المرسل والمتلقي، حيث يتم تحريض المتلقي، وإثارة انتباهه، وإيقاظه عبر الترغيب والترهيب، وهذه الوظيفة ذاتية. وهناك الوظيفة الجمالية أو الشعرية التي تحدد العلائق الموجودة بين الرسالة و ذاتها، وتتحقق هذه الوظيفة أثناء إسقاط المحور الاختياري على المحور التركيبي، وبالذات عندما يتحقق الانتهاك و الانزياح المقصود. وتتسم هذه الوظيفة بالبعد الفني والجمالي و الشاعري . ويمكن الحديث أيضا عن الوظيفة الحفاظية أو الاتصالية للقناة الإهدائية، إذ تهدف هذه الوظيفة إلى تأكيد التواصل، واستمرارية الإبلاغ، وتثبيته أو إيقافه، والحفاظ على نبرة الحديث والكلام المتبادل بين الطرفين. بله عن الوظيفة الوصفية المتعلقة باللغة، وتهدف هذه الوظيفة إلى تفكيك الشفرة اللغوية، بعد تسنينها من قبل المرسل، والهدف من السنن هو وصف الرسالة لغويا وتأويلها، مع الاستعانة بالمعجم أو القواعد اللغوية و النحوية المشتركة بين المتكلم و المرسل إليه. ونضيف الوظيفة البصرية أو الأيقونية كما عند ترنس هاوكس#، وتهدف هذه الوظيفة إلى تفسير دلالة الأشكال البصرية و الألوان والخطوط الأيقونية، وذلك بغية البحث عن المماثلة أو المشابهة بين العلامات البصرية ومرجعها الإحالي.
ومن باب التنبيه، فنحن، هنا، نحتكم إلى القيمة المهيمنة (La valeur dominante)كما حددها رومان جاكبسون،لأن الإهداء في نص ما، قد تغلب عليه وظيفة معينة دون أخرى، فكل الوظائف التي حددناها سالفا متمازجة، إذ قد نعاينها مختلطة بنسب متفاوتة في رسالة واحدة، حيث تكون الوظيفة الواحدة منها غالبة على الوظائف الأخرى ، وذلك حسب نمط الاتصال.

وعلى وجه العموم، عندما نريد مقاربة الإهداء، فلابد من الانطلاق من أربع خطوات أساسية، وهي: البنية، والدلالة، والوظيفة، والقراءة السياقية الأفقية والعمودية. ويعني هذا أن البنية تستوجب قراءة الإهداء صوتيا وإيقاعيا وتنغيميا وصرفيا وتركيبيا وبلاغيا وأيقونيا. في حين، تستلزم الدلالة دراسة الإهداء في ضوء علاقة الإهداء بالدلالة، متسائلين عن طبيعة العلاقة: هل هي علاقة كلية أو جزئية؟ وهل هي علاقة مباشرة أو غير مباشرة؟ وهل هي علاقة تعيين أو علاقة تضمن؟ وهل هي علاقة حرفية أو علاقة إيحائية؟...

أما فيما يخص الوظيفة، فلابد من تحديد مجمل الوظائف السياقية التي يؤديها الإهداء داخل النص (الوظيفة الانفعالية، والوظيفة التأثيرية، والوظيفة الشعرية، والوظيفة التناصية، والوظيفة التعيينية، والوظيفة البصرية،...)، وذلك في ضوء قراءة فعالة مرنة، تنطلق من القمة إلى الأسفل، ومن الأسفل إلى القمة، ومن الداخل إلى الخارج، ومن الخارج إلى الداخل. وفي هذا الصدد، فأول الحيل التاكتيكية هي الظفر بمغزى الإهداء، و" المفهوم المحلي الذي نستخدمه لهذا الغرض هو: من القاعدة إلى القمة (Top-down)، ومن القمة إلى القاعدة (Bottom)، ومعنى هذا، أنه يجب فهم معاني الكلمات المعجمية وبنية الجملة، ومعناها المركب. أي: "من القاعدة إلى القمة"، وعلى أساس هذه الجملة نتوقع ما يحتمل أن يتلوها من جمل. أي: من القمة إلى القاعدة".#

ولابد كذلك من مراعاة السياق المحلي أثناء مقاربة الإهداء وتأويله، وإلا تعسف المحلل السيميولوجي - مثلا - في التفسير و التحليل. و إذا:" كانت المشابهة وما تدعوه من توقع و انتظار بناء على معرفتنا المتراكمة للعالم، تجعلنا نقتحم عالم القصيدة الرحب في اطمئنان ، اعتمادا على ما أوصى به [الإهداء ] ، فإننا مع ذلك، سنقيد أنفسنا بمبدأ التأويل المحلي، لكيلا نسقط على القصيدة كل ما تراكم لدينا من تجارب، ونقولها مالم تقل." #.

وهكذا، فإن الإهداء في الحقيقة بمثابة رأس للجسد، والنص تمطيط له وتحوير، إما بالزيادة والاستبدال تارة، وإما بالنقصان والتحويل تارة أخرى. يشكل الإهداء بالنسبة للسيميولوجي بؤرة منهجية أساسية في الاستكشاف والاستقصاء النصي، ونواة تمهيدية لقراءة القصيدة الشعرية، يمدها بالحياة الحقيقية، و الروح المتحركة ، والمعنى النابض:" إن [الإهداء ] يمدنا بزاد ثمين لتفكيك النص ودراسته، ونقول هنا :إنه يقدم لنا معرفة كبرى لضبط انسجام النص، وفهم ما غمض منه، إذ هو المحور الذي يتوالد ويتنامي ويعيد إنتاج نفسه، وهو الذي يحدد هوية القصيدة، فهو- إن صحت المشابهة بمثابة الرأس للجسد- والأساس الذي تبنى عليه، غير أنه إما أن يكون طويلا، فيساعد على توقع المضمون الذي يتلوه. و إما أن يكون قصيرا، وحينئذ، فإنه لابد من قرائن فوق لغوية توحي بما يتبعه".#

ومن باب الإضافة، لابد للمحلل أن يستعين بنظرية شارل بيرس ، ويتمثل جهازه المفاهيمي التأويلي الذي يتمثل في: الرمز، والإشارة، والأيقون. كما عليه أن يتمثل تصورات فرديناند دي سوسير اللسانية والسيميائية، ويستفيد أيضا من آراء جيرار جنيت، و رومان جاكبسون، ورولان بارت، وكريماص، وليوهويك، وكلود دوشيه، وهنري ميتران، وشارل كريفيل، وأمبرطو إيكو، وآخرين...

تركيــب استنتاجي:

يتبين لنا - من كل هذا- بأن الإهداء عتبة ضرورية في قراءة النص الأدبي بصفة عامة، والنص الشعري بصفة خاصة. والإهداء أيضا ليس عنصرا مجانيا زائدا، كما يعتقد الكثير من الباحثين والدارسين، بل هو من أهم المصاحبات النصية التي تسعفنا في تفكيك النص وتركيبه، أو فهمه وتأويله. اضف إلى ذلك، فظاهرة الإهداء تقليد أدبي قديم، يرتبط بظهور الكتاب، لكن هذا الإهداء سينتقل من إهداء النسخة إلى إهداء الكتاب المطبوع مع ظهور المطبعة. ومن ثم، فقد استفاد الإهداء من إيجابيات الصناعة الطباعية على مر العصور. ولم يقتصر الإهداء على السرد والمسرح فقط، بل تجاوزهما إلى الشعر وباقي الأجناس الأدبية والكتابات الأخرى.

هذا، ويتكون الإهداء من عناصر عدة، وهي: المهدي، والمهدى إليه، والصيغة، وزمان الإهداء، ومكانه. كما ينقسم الإهداء إلى إهداء ذاتي وغيري، وإهداء خاص وعام، وإهداء العمل والنسخة، وإهداء رسمي وشخصي. وفي الأخير، لا يمكن مقاربة الإهداء إلا باحترام المحطات الأربع، وهي: البنية، والدلالة، والوظيفة، والقراءة الأفقية والعمودية.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى