الخميس ٩ شباط (فبراير) ٢٠٠٦
قضايا لغويّة
بقلم إلياس عطا الله

تَخْنِيثُ اللّغة، بين التّذكير والتّأنيث - قسم 1 من 2

 أ-
تندرج موضوعة " الجنس اللّغويّ"، أي الجنس في اللّغة " gender"، في بنية اللّغات وخصائصها الصّرفيّة الدّلاليّة، وما ترتّب عنهما من إسقاطات على موضوعة النَّظم اللّغويّ/ النّحو، والأسلوبيّة.

إنّ ظاهرة التّذكير والتّأنيث، والأجناس الأخرى التي تُرَدُّ إليهما، أو إلى تصنيفات أخرى، قديمة المنشإ كاللّغات ذاتها، ولا تعنينا، في هذا السّياق، نظريّات النّشوء اللّغويّ من حيث توقيفيّة اللّغات أو وضعها، ففي الحالتين كلتيهما، تعاملت اللّغات مع المذكّر والمؤنّث بميزات وسمات لغويّة تخلو من أيّ غاية تصنيفيّة استعلائيّة أو استفاليّة، هي قضيّةُ حياديّة اللّغة، وصدقُ مفرداتها وخطابها، أي أنّ وجود مفردات مذكَّرة، وما يلحق بها من ضمائر خاصّة بها، وأسماء إشارة، وكنايات، وصِيَغ صرفيّة تليق بها، ووجود المقابل المؤنّث باستحقاقاته الضّميريّة والإشاريّة والصّرفيّة، لم تتعدّ يوما التّعبير عن أصحاب اللّغات المنقسمين إلى هذين الجنسين، وبكلمات أخرى لم تُوَظَّفْ إلا في قضيّة صدق الخطاب، ومن ثمّ اندرجت في معياريّة اللّغة، بعد أن تقعّدت اللّغات. أمّا الانتقال من الحياديّة لكلمة gender بمعنى الجنس، إلى اللاحياديّة، فهو من صنيع مؤثّرات اجتماعيّة تتّسِم بالهيمنة لأحد الجِنْدَرَين، وردّة الفعل التي حدثت بعد تشكُّل الحركات النّسويّة، رفدت الدّرسَ المجتمعيّ واللّغويّ بمصطلحات ما كانت مسكوكة من قبل، فوقع التّمييزُ بين الجنس sex والـ gender، فصارت الثّانية، والتي كانت مرادفة للأولى، تعني الحالة الاجتماعيّة أو الوضع الاجتماعيّ المترتّب على الانتماء إلى sex معيّن، ولعلّ المجتمع الذّكوريّ المهيمن، لأسباب عدّة، بما سكّه من مصطلحات انضافت إلى خطاياه، وراء هذا التّركيز المفرِط على قضيّة الجَنْدَرَة أو الجَنْسَنَة على صعيد اللّغة، حيث بدا التّمييز بين الجنسين فادحًا فاضحا، وبدأت العناية، بعد كلّ مؤتمر نسويّ(1)، تنصبّ على اللّغات، والغربيّة منها بشكل خاصّ، في محاولة للتّغيير وإزالة ما يدلّ عى الجندر أو الحالة الاجتماعيّة، واجتُهِد في تحويل اللّغات، من حيث بنيتها وأسلوبيّتها، من لغات مُجَنْسِنَة sexist languages إلى لغات غير مجنسنة non-sexist languages.

قد نعبّر عن اللاجنسنة بـ " تخنيث اللّغة"، والكلمة مشتقّة من " الخُنْثَى"، والخُنثى: صفةُ أو اسمُ ما ليس خاصّا في الذّكورة أو الإناثة؛ وعلى الصّعيد العضويّ، هو مَن له ما للذّكر وما للأنثى، والأصل فيه التّكسّر والتّثنّي واللِّين. وعلى الغالب، ورغم " شموليّته" الجنسيّة العضويّة، لا يقال إلاّ في وصف الذَّكَر، وبإسقاطات دلاليّة غير محايدة، لا تُخفي ميلَهُ أو تصرّفه الإناثيّ، ولعلّ ما يقف وراء هذا، إضافة إلى عوامل لا علاقة لها باللّغة، الدّلالة الأصليّة للجذر " خنث" الحامل لمعاني اللّين والسّير الغَنِج المتثنّي.

إن كانت عمليّة نزع الجنس أو اللا جنسنة "degenderization"، قد قطعت شوطا على صعيد الإنجليزيّة- أو هكذا يبدو-، فما هو حظّ نجاحها في العربيّة، وهل من حاجة إلى الأمر أصلا؟ عن تساؤلات كهذه أحاول الإجابة لاحقا.

 ب-

لا تختلف العربيّة، ومعها أخواتها السّاميّات، عن بقيّة العوائل اللّغويّة المعروفة، فالتّذكير والتّأنيث واردان فيها جميعا، مع اختلافات طفيفة تتمثّل بـ:

1- تَمَيُّز السّاميّات بوجود هذين الجنسين فقط، والأصل في تحديدهما هو الذّكورة والإناثة الفسيولوجيّة، وهو ما تعرفه العربيّة بالمذكّر الحقيقيّ والمؤنّث الحقيقيّ؛ أي من له عضو الذّكورة، ومن لها عضو الإناثة، أو ما له فَرْجٌ بمصطلحات القدماء، ثم ألحِقَت بقيّة أسماء الأشياء بهذين الصّنفين مجازا، وهو ما يعرف بالمذكَّر والمؤنَّث غير الحقيقيّين، وذلك وفقا لمفاهيم الشّعوب نفسها، أو وفقا للتّقديرات القواعديّة، وأعني بمفاهيم الشّعوب أن يُعدَّ " الباب"، مثلا، مذكّرا في العربيّة، مؤنّثا في العبريّة وفي الألمانيّة، و" الشّبّاكُ" مذكّرًا في العربيّة والعبريّة، محايدًا في الألمانيّة، وأن يكون " الجدار" في العربيّة مذكّرا، ومقابله العبريّ المشتقّ من الجذر نفسه مؤنّثا، إلى ما هنالك من أمثلة لهذا القبيل، ولنقيضه.

2- أن يصحّ تذكير وتأنيث المفردة الواحدة، كما هي الحال مع " حال" و "طريق"، " إنسان"، "طفل"، " ألِفٌ"، " قافٌ"... وما إلى هذا.

3- تذكير بعض المفردات في لهجة عربيّة، وتأنيثها في أخرى، وهو ممّا تحفظه لغة القرآن الكريم، والكتب المختصّة، والمعجمات، نحو: أسماء الجنس الجمعيّة(2) ] وهي ما كان بينها وبين مفردها تاءٌ مربوطة أو ياءُ نسبة[، نحو إنس، نخل، نحل، نمل، عرب، روم، وأسماء الجمع ] وهي جموعٌ، مفرداتُها من غير لفظها[، نحو قوم، نساء، وجموع التّكسير، وإن غلب التّأنيث على هذه الأخيرة.

4- تضيف بعض اللّغات الهندوأوروبيّة جنسا ثالثا هو " المحايد"، كما هي الحال في الألمانيّة، ومرَدّ الأمر إلى مفاهيم أصحاب هذه اللّغة، وما يندرج في خانة " الحياديّة" قد يكون من المؤنّثات والمذكّرات غير الحقيقيّة، وقد يكون ممّا هو منتمٍ إلى أحد الجنسين حقيقة في عائلة اللّغات السّاميّة، نحو كلمة "طفل" والتي أعني بها هنا وليدَ الإنسان، فإنّها لا تخرج عن الانتماء الحقيقيّ للذّكورة أو الإناثة، ولكنّ مقابلَها في الألمانيّة " Kind" محايد " "Neutrum، أمّا كلمة "Magd" بمعنى أمَة، أو عبدة، فمؤنّثة، في حين أدرِجَتْ "Mädchen" التي تعني صبيّة أو فتاة أو بنت في الجنس المحايد، ومن هذا القبيل جعلهم "Frau" - وتعني سيّدة أو امرأة- مؤنّثة، في الحين الذي اعتبروا فيه "Fräulein" - وتعني آنسة، فتاة- من الجنس المحايد. وكذا أدرجوا بعض أسماء الحيوانات في المحايد، كالحصان والتّمساح، أمّا الكلب فحافظ على ذكورته، كما حافظت الأفعى على إناثيّتها. وكذا الشّأن في توزّع أسماء البلدان على الأجناس الثّلاثة، وأسماء الأنهار تتوزّع بين التّذكير والتّأنيث، وتُميِّز الألمانيّة بين أنهار في ألمانيا ذاتها، وأنهار في دول أخرى! فالأنهار غير الألمانيّة كلّها مذكّرة، أمّا ما كان منها ألمانيّا فمؤنّث، ولا ينسحب هذا على نهر الرّاين، الذي حافظ بقدرة قادر على ذكورته der Rhein. من العسير علينا، نحن الذين عرفنا التّوزيعة الذّكوريّة والإناثيّة في العربيّة وغيرها من السّاميّات، أن نعقل الفلسفة الواقفة وراء هذه التّوزيعة الجنسيّة في الألمانيّة، ولا يعني هذا أنّ الأمر متروك بلا دراسات وتعليلات، ولكنّه بعيد عن " قناعاتنا" وبنية لغتنا. لعلّه من الأصوب، ونحن أمام إشكاليّة تحديد الجنس، أن نستعمل مصطلح الجنس الصّرفيّ أو الجنس القواعديّ، وتحديد هذا الجنس هامّ على صعيد سلامة اللّغة وبنية جُمَلها وأفعالها وحتّى أدواتها وفق الوظائف النّحويّة التي تؤدّيها الأسماء، والألمانيّة لا تختلف عن العربيّة في هذا الشّأن، بل هي أكثر صعوبة، وإن كنّا " لا نعقِل" التّوزيعة الجنسيّة الممثّل لها سابقا، فدارسو الألمانيّة يعتمدون، على الغالب، على اللّواحق " suffixes" التي تنتهي بها الأسماء، ونحن، على صعيد العربيّة، محظوظون لقلّة هذه المؤشّرات، والتي لا تخرج على الغالب عن: " واو الجماعة" الدّالّة على المذكّر في جمع المذكّر السّالم- مع الإشارة إلى أنّ هذه الصّيغة " ــ ون، ــ ين" تشمل أسماءً مؤنّثة-، وتاءَي التّأنيث؛ المربوطة- ولا تعطي دلالة التّأنيث دائما-، والمبسوطة، كما في جمع المؤنّث السّالم- مع الإشارة إلى أنّ هذه الصّيغة هي لجمع المذكّر أيضا، بل قد يكون المذكّر المجموع على هذه الصّيغة " ــ ات"، أكثر من المؤنّث-، إضافة إلى علامات تأنيثيّة في بعض الأسماء في صِيَغٍ معيّنة، كالألف اللّيّنة( ى) في نحو " كُبرى"، "صُغرى"... واللاحقة " اء" في نحو " حَسناء" و " شَيماء" و " بَيضاء" ...، ولا أتحدّث في هذا السّياق عن علامات قليلة أخرى تلحق بالضّمائر والأفعال،
أمّا الألمانيّة ففيها عشرات اللّواحق التي تُعِينُ في تحديد الجنس القواعديّ للكلمة، فثمّة أربعَ عشرةَ لاحقةً للمذكّر، وزهاء خمسٍ وعشرين للمؤنّث، وتسعٍ للمحايد، والتّوزيعة هذه ليست أمرا مقدّسا، إذ قد تختلط الأمور، فتجد علامة أو لاحقة خاصّة بهذا الجنس، دالّةً على جنس آخر في بعض الكلمات، أو في بعض الحالات النّحويّة(3). وللمحايد "الألمانيّ" هذا، معاملة مغايرة عن معاملة ما اعتبروه مذكّرا أو مؤنّثا، فله، مثلا، أداة تعريفه الخاصّة das، مقابلة لـ der مع المذكّر، و die مع المؤنّث. ( والحديث عن المفرد في حالة الرّفع- Nominativ).

ولئلا ينحصر تفكيرنا في السّاميّة والهندوأوروبيّة المعتمدة على الذّكورة والإناثة قاعدةً لتوزيعة الأسماء إلى جنسين أو أكثر، نشير إلى أنّ الأمر لا ينسحب على كلّ لغات العالم، فلغات بعض القبائل الأفريقيّة تبني توزيعتها وفقا لميزات أخرى، عقيديّة أو مكانيّة أو تراتبيّة هرميّة اجتماعيّة، دون التفات إلى قضيّة " الجنس" أو قضيّة " الجندر".

 ج -

أعطينا الألمانيّة، من باب المقارنة بالعربيّة، قسطا وافرا، ولأنّ الألمانيّة ليست اللّغة الدّوليّة، على أهميّتها في البحث اللّغويّ العربيّ، سنقوم بتوضيح الأمور عن طريق المقارنة بين العربيّة والإنجليزيّة- اللّغة الدّوليّة-، لغاية علميّة من ناحية، ولتكون رسالة مجرّدة من الميول، منزّهة عن الآراء النّمطيّة، إلى الحركات النّسويّة العربيّة، للوقوف أمام تعقيدات اللاجَنْسَنَة في مضمار العربيّة.

أشرنا إلى أنّ الجنسين، المؤنّث والمذكّر، أخذا حظّهما على صعيد العربيّة، فانقسمت الأسماء بين هذين الجنسين قسمة عادلة، وأعترف بأن " العدل" هذا مبنيّ على الإحساس وبعض المعرفة بالعربيّة ومفرداتها وصيَغِها الصّرفيّة، ولكنّ الأمر يحتاج إلى دليل إحصائيّ يثبت بالعدد والنّسبة هذه التّوزيعة، وهذا ما لم أقم به، وما لم يقم به، يقينًا، أولئك الذين صنّفوا في المذكّر والمؤنّث من القدماء، ولم أسمع أو أقرأ عن دراسات لجدد في هذا المضمار، ولأنّنا جميعا ننهل من المصادر، فلا بأس في الإحالة إلى أهمّها(4).

تتميّز العربيّة، واللّغات السّاميّة على الغالب، بأنّ قضيّة التّذكير والتّأنيث فيها، تتجاوز الأسماء، لتشمل الصّفاتِ( وهي ممّا يندرج في الأسماء في أقسام الكلام الثّلاثة)، والأفعالَ، ولتشمل كذلكَ جملة من المبنيّات( وهي أيضا من الأسماء)، نحو: الضّمائر، أسماء الإشارة، الأسماء الموصولة، أمّا أسماء الشّرط وأسماء الاستفهام فقد جاءت بلفظ واحد للجنسين.

لعلّ الضّمائر هي أكثر هذا النّوع أهميّة، وذلك لاتّصالها بالاسم من ناحية، وبالفعل، حيث تتّصل به تذييلا/ كسعا suffix، أو تصديرًا/ تتويجا prefix، وهو ما يعرف في النّحو الكلاسيكيّ بحروفِ المضارَعَةِ، والتي يراها عدد من الدّارسين ضمائرَ(5)، وذلك اعتمادا على اجتهادات من ناحية، وعلى درس مقارن مع بعض اللّغات السّاميّة كالأكّديّة، ومع بعض اللّغات واللّهجات الحاميّة السّاميّة كلغة البربر ولغة التّماشِق Tamashek التّابعة لها(6)، وفي كلتا الحالتين، أي كون الزّوائد الأربع/ ة حروفًا أو ضمائرَ، فإنّها تميّز بين المتكلّم والمخاطب والغائب، وتوضح العدد؛ في حالة التكلّم: " أفْعَلُ" للمتكلّم/ ة، " نفعلُ"، لهما مع آخرين/ أخريات، " تفعلُ" للمخاطب الذّكَر وللغائبة الأنثى، و" يفعلُ" للغائب الذّكَر، هذا في حالة الإفراد، أمّا في حالتي التّثنية والجمع، فالأمر يقتضي زيادة علامات كسعيّة في آخر الفعل، كألف الاثنين، وواو الجماعة وياء المخاطبة ونون النّسوة، ولا بأس علينا إن لفتنا النّظر إلى صيغتي " يفعلْنَ" و" تفعلْنَ" للغائبات وللمخاطبات، و" تفعلين" للمخاطبة، فالأولى مصدّرة بالياء التي خُصَّ بها الغائب الذّكر في المفرد، مكسوعة بالنّون الخاصّة بالإناث، أمّا الثّالثة، فلحقتها التّاء تصديرًا، وهي خاصّة بالمخاطب الذّكر، والغائبة الأنثى، وجاءت الياء فيها خاصّة بالمخاطبة الأنثى، وإن كان لنا أن نخلص إلى استنتاجات من هذا المزج بين العلامات غير المتطابقة، فإنّنا قد نؤكّد سمة الحياديّة اللغويّة، وقد نضعف فكرة مَن جعل أحرف المضارعة ضمائر. أمّا الضّمائر في حالة انفصالها، فهي منقسمة قسمة جنسيّة عدديّة، إلاّ " أنا" و " نحن"، فهما للجنسين معا، وكذا الأمر في شموليّة ضمائر التّثنية:" هما"، " أنتما". في حالة الضّمائر الملتصقة كسعا، لا نجد الشّموليّة الجنسيّة إلا في التّاء المتحرّكة للفاعل، فهي للذّكر والأنثى، وتلحق بها" ي" و "ني" للمتكلّم/ ة في حالتي الجرّ والنّصب، ومثلها الـ " نا" - للمتكلّم/ ة ومعه/ ا غيره/ ا - في وظائفها الإعرابيّة المختلفة-، وكذلك في ـ هُما، ـ تُما، ـ كُما، في تثنية الغيبة والخطاب، وألف الاثنين في صيغة الأمر، وفي المضارع- والمتغيّر هو حرف المضارعة-، أمّا في الماضي، فتأتي دليلا على الاثنين، وتقوم التّاء السّابقة لها بتحديد المؤنّث. وما عدا ذلك، يميز المذكّر عن المؤنّت ويبيّن عدده(7).

أمّا على صعيد أسماء الإشارة والأسماء الموصولة، فثمّة ما هو خاصّ بالمذكّر، وما هو خاصّ بالمؤنّث، عدا " أولا/ أولاء" في الإشارة للجنسين جمعًا، و " مَنْ"، و " ما"، و" أيّ"، الموصولات، و " ألْ" الموصولة عند مَن جعلها اسما.

وقبل أن ننتقل إلى كلمةٍ عجلى عن الإنجليزيّة، نذكّر بقضيّة المطابقة المعمول بها في العربيّة، فالحديث عن المذكّر أو عن المؤنّث يفترض استعمال الصِّيَغ الفعليّة، وأسماء الإشارة، والأسماء الموصولة والضّمائر الملائمة، ولعلّ هذا هو الفرق الجوهريّ، أو موطن الصّعوبة، الذي يميّز العربيّة وعددا من السّاميّات، من الإنجليزيّة، في قضيّة تخنيث العربيّة، أو نزع الجنسنة منها، كما سنرى في الفقرة التّطبيقيّة لاحقا. ولئلاّ يُظنَّ أنّ التّطابق قضيّة ساميّة أو عربيّة، نشير إلى أنّ الإنجليزيّة أيضا تفرض تطابقا بين الفعل والاسم، ولكن على صعيد المفرد والجمع، لا على صعيد الجنس، فالمفرد الغائب للمذكّر أو للمؤنّث أو لغير العاقل، يتطلّب فعلَ حالٍ متّصلا ب s، وتحذف هذه في صيغة الجمع، كما أنّ المطابقة مطلوبة في استعمال أفعال الكون ( to be) وأفعال الملكيّة( to have)، وفقا للضّمائر بكلّ تقسيماتها، إلا التّوزيعة الجنسيّة.

 د -

تخلّصت الإنجليزيّة الحديثة من المميّزات الإعرابيّة التي اتّسمت بها أمّها اللاتينيّة، وظلّت ظاهرة الذّكورة والإناثة واردة في بعض الضّمائر، والضّمائر في الإنجليزيّة منفصلة دائما، ولا يظهر الفرق الجنسيّ إلا في ضميرَي الغيبة المفردَين: he- she، وفيهما، في حالة الملكيّة والمفعوليّةhis- him- her ، أمّا في المتكلّم المفرد وفي المخاطب المفرد، وفي حالة الجمع، فالضّمائر تحضن الجنسين: I- you- we- they- their- them- our- my- mine- your...، وكذلك ضمير غير العاقل it. أمّا الأفعال والصّفات، وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة، فتبقى على حالها شاملةً الجنسين، دون علامة فارقة، وعليه، تعتمد جميعا على الاسم- والأسماء في الإنجليزيّة لها على الغالب صيغة واحدة للجنسين- الذي ينقسم معنويّا بين المذكّر والمؤنّث، وندر أن تكون هنالك علامة لاحقة أو سابقة للدّلالة على المؤنّث أو المذكّر، وبعض الأسماء المذكّرة تقابلها أسماء مؤنّثة مستقلّة، أو قريبة منها لفظا بتغيير طفيف، فإن كانت كلمة husband تدلّ على الزّوج الذّكر، فللزّوج الأنثى كلمة أخرى wife، وكذا الأمر في boy = صبيّ، ولد، و girl= صبيّة، بنت، و man= رجل، و woman= امرأة، و brother= أخ، و sister= أخت، و son= ابن، و daughter= ابنة، و father= أب، و mother= أمّ، و masculine= مذكّر، و feminine = مؤنّث، و uncle= عمّ، خال، و aunt= عمّة، خالة، و nephew= ابن الأخ / ت، و niece= بنت الأخ/ ت... وما إلى هذا من كلمات خاصّة بكلّ جنسٍ. والظّاهر- ولا نستطيع إثبات هذا- أنّ هذه القسمة المستقلّة، سابقة لعلامات التّأنيث والتّذكير في الهندوأوروبيّات وفي السّاميّات أيضا؛ ففي العربيّة نجد من الألفاظ ما يشير إلى استقلاليّتها، نحو: أب- أمّ، مذكّر- مؤنّث، جمل- ناقة( مع وجود جَمَلَة)، حمار- أتان ( مع وجود حمارة، والأتان قد تعني الذّكر والأنثى، ولذا وردت أتانة في اللّغة أيضا)، أسد- لبؤة( مع وجود أسَدَة، أمّا لبؤ العربيّة فمُماتة، ومقابلها العبريّ حيّ في الاستعمال- לביא)، كبش- نعجة( كلمة كبشة واردة في اللّغة، ولقد أشار اللّغويّون إلى أنّها ليست مؤنّثَ كبش، وإنّما هي اسم مرتجل، ويظهر أنّها معرّبة وأصلها كفجة بمعنى مغرفة)، ثور- بقرة، تيس - عنز، وما إلى هذا، إضافة إلى بعض الأوزان الاسميّة الوصفيّة التي يستوي فيها الجنسان- بوجود قرينة- ولا حاجة إلى إضافة علامة تأنيث( وأجاز المجمعُ القاهريّ إلحاقَ تاء التّأنيث بصيغ: مِفعيل، مِفعال، ومِفعَل، ذُكِرَ الموصوفُ/ القرينة أم لم يُذكَر)(8)، ومنها: فَعِيل بمعنى اسم المفعول ( امرأة جريح ورجل جريح)، فَعُول بمعنى اسم الفاعل ( امرأة صبور ورجل صبور)، مِفْعَل ( رجل مِغْشَم وامرأة مِغْشَم)، مِفْعِيل( امرأة مِعطير ورجل معطير)، مِفْعَال ( امرأة معطاء ورجل معطاء)، فَعَلٌ( أمرأةٌ عَزَبٌ ورجلُ عَزَبٌ)(9).

توخّيا للدّقّة، نضيف نماذج من الإنجليزيّة لأسماء تُستعمل للمذكّر والمؤنّث دون تغيير، وهي كثيرة جدّا، نحو: author- partner- driver- parent- friend- colleague ( وتعني على التّوالي: زميل/ ة، صديق- للمذكّر وللمؤنّث، وقد تؤنّث: صديقة، والد/ ة، سائق/ ة، شريك/ ة، مؤلِّف/ ة،) وما إليها، ونشير إلى أنّ الإنجليزيّة تلجأ أحيانا إلى علامات لتميّز بين المذكّر والمؤنّث، وهي قليلة، وفي عدد قليل من الأسماء، منها:

prince أمير princess أميرة

manager مدير manageress مديرة

actor ممثّل actress ممثّلة

hero بطل heroine بطلة

widower أرمل widow أرملة

وعلى ندرة، قد نجد الضّمير she سابقا للاسم من الإنسان أو الحيوان للدّلالة على التّأنيث، نحو: she- cousin- she- devil و she- goat، وفي مثل هذه الحالة تحمل she معنى: أنثى، أو تؤدّي وظيفة علامة التّأنيث في العربيّة.

 هـ -

قدّمنا صورة مختصرة لحال اللّغة الإنجليزيّة في قضيّة الجنس، فما الذي أثار حفيظةَ الحركات النّسويّة في البلاد المتحدّثة بالإنجليزيّة؟ وما هي المُنَغِّصات التي أرَدْنَ محوَها، أو إعادة صياغتها؟ وما هي رؤيتهنّ؟
نكتفي لهذه العُجالة بالتّأكيد على النّقاط الأساسيّة في المطلب النّسويّ:

1- بعض الألفاظ والأساليب، تهمّش المرأةَ، بل وتُسقط عليها بعضَ الدّونيّة في الدّلالات التي تحملها بعض الصّيَغ المؤنّثة، إضافة إلى اقتحامات هذه الصّيغ لعالم المرأة الخاصّ، وحالتها الاجتماعيّة، في الوقت الذي لا تحمل الصّيَغ الذّكوريّة المقابلةُ هذه الشّحنات والاقتحامات، الأمر الذي يشير إلى، أو يعكس، هيمنة الذّكورة المَشُوبة بالاستعلاء في المجتمع أيضا، ولعلّ أكثر المُنَغِّصات، من باب المثال، هي: Mr.- Mrs.+ Miss و mister- mistress و man، وأكتفي بهذا القدر الآن، مشيرا إلى أنّ كلمة Mr. يُخاطَب بها الذّكر منذ سنّ البلوغ، ولا تشي بأيّ دلالة خارج التّوجّه الذّكوريّ، أمّا صيغتا المؤنّث المقابلتان لصيغة المذكّر، ففيهما إقحام للحالة الاجتماعيّة للأنثى( عَزَبَةٌ أو متزوّجة)... وكذا الأمر في Mister- سيّد، والتي تحمل هذا المعنى فحسب، في الوقت الذي حمل فيه مقابلُه المؤنّث Mistress دلالة السّيّدة، مع إضافة مُهينة، إذ إنّ الكلمة تعني أيضا: المَحْظِيَّة، أمّا Master و man ففيهما – برأيهنّ- هيمنة رجوليّة مرفوضة جملة وتفصيلا،- وتوضيح هذا لاحقا-.

لا تختلف العربيّة عن الإنجليزيّة في مسألة إقحام الحالة الاجتماعيّة في خطاب المؤنّث، وفي حياديّة حالة المذكّر، فـ " سيّد" تقابل Mr. دلالة واستعمالا، أمّا " آنسة"- حديثة الاستعمال نسبيّا-(10) و " سيّدة"، فتقابلان Mrs.+ Miss، وتختلف المفردة العربيّة " سيِّدة" عن الإنجليزيّة في أنّها خِلوٌ من الانحطاط الدّلاليّ الذي تحمله Mistress، فالعربيّة تجعل السيّدة سيّدة، أمّا ذات الحظوة من النّساء عند هذا الرّجل أو ذاك، فهي محظيّة، وهي مفردة تستعمل من باب لطف العبارة، ولن تجد في المعجم العربيّ أو الاستعمال اللغويّ العربيّ شيئا من دلالاتها في كلمة " سيّدة".

2- في خطاب الجماعة، حيث للنّساء وللرّجال حضور بيّن، يُلجأ إلى تغليب صِيَغ التّذكير، في الخطاب نفسه، وفي بعض المصطلحات المركّبة، وقد تكون كلمة man أكثر هذه المركّبات إغاظة، ناهيك عن دوران ضمائر الذّكورة he- his- him في الكلام.

3- تعكس اللّغة بلا حياديّتها هذه، ما يحدث حقيقة في مجالات الحياة المختلفة، تلك المجالات التي اقتحمتها الأنثى، ولكنّ اللّغة بثروتها المفرداتيّة وبأسلوبيّتها بقيت على ما هي عليه بِسِماتها الذّكوريّة، الأمر الذي يكرّس أو يؤسّس للاستعلاء الذّكوريّ، أو على الأقلّ، لا يواكب المتغيّرات عمدا.

 و -

كان لا بدّ، جرّاء هذا، وتحقيقا للمساواة، من إقحام الحكومات، والأكاديميا، وأقسام المناهج، والمجامع اللّغويّة، لرسم أساليب تعبير جديدة، من شأنِها- كما يُظنُّ- الابتعاد عن السّمة الذّكوريّة، والإنصاف في الخطاب والتّسميات، بإعادة صياغة بعض المصطلحات " الفُحوليّة" الشّائعة.
عُنِيَتِ الحكومات أو بعضها بهذا الشّأن، بل إنّ بعضها شرّع إدراج التّوجّه إلى الجنسين كتابة، وخاصّة في الأوراق الرّسميّة أو العطاءات، أو الإعلانات عن الوظائف، وما إلى هذا، ومن هذا:

أ-

ما لجأت إسرائيل إلى استعماله بأسلوبين رسميّين، يتمثّل الأول بتوظيف الخطّ المائل ( / ) وإضافة علامة التّأنيث، أو المفردة المؤنّثة، والثّاني باعتماد الصّياغة أو الخطاب الذّكوريّ المعتاد، متبوعًا بملاحظةٍ " بلهاء": " كلّ ما كتِبَ بلغة المذكّر يشمل المؤنّث أيضًا"، ولم أجد انفراجا ولا مساواة في هذا الاختراع الغبيّ، فاللّغات السّاميّة، والعبريّة منها، تعتمد أسلوب التّغليب الجنسيّ الذكوريّ، والأمر ليس وقفا على الذّكورة الحقيقيّة والإناثة الحقيقيّة، إذ إنّه يشمل المذكّرات والمؤنّثات بمفهومهما المجازيّ، وهي أكثر من الحقيقيّ عددا، ولم أجد في هذه الملاحظة المستحدثة خروجا عن التّغليب المعمول به عربيّا، بل إنّ التّغليب الكلاسيكيّ كان مفهوما ضمنا، وميزة " مستورة" من ميزات اللّغة، وما جدّ هو أنّ التّغليب المُعَصْرَن والمُشَرْعَن صار فضيحيّا؛ نكتب بأسلوب ذكوريّ، وفي الذّيل تأتي هذه الإشارة المذدنبة، تضجّ بالمهانة والإهانة... إنْ هذا إلا ضربٌ من الجهل باللّغة، قواعدها، وأسلوبيّتها، وليس الجهل هو ما يغيظ هنا فحسب، إنّه الرّضا النّسويّ- ولا أعمّمُ- ، أو الإحساس بأنّ مكسبا مساواتيّا ما قد تحقّق.

ب-

استعمال الصّيغ العامّة الصّالحة لخطاب الجنسين، أو الاستعمال الموازي القاضي بذكر المؤنّث والمذكرّ، وإن كانت الدّماثة هنا قد أتاحت لي تقديم كلمة مؤنّث على كلمة مذكّر، فإنّ الأمر غيرُ هذا في القضيّة الكتابيّة المعتمِدة على الحلّ غير السّحريّ للخطّ المائل ( / ) المتبوع بعلامة التّأنيث، لأنّ المؤنّثات مأخوذة/ مشتقّة من المذكّرات، وأسلوب الخطّ المائل لا يصلح إلا كتابةً، أمّا خطابةً فإنّه ضربٌ من المهازل، وحتّى في هذة الحالة "المائلة" يظلّ المذكّر مقدَّما على صعيد الأسماء لأنّ المؤنّثات بالعلامة مأخوذة على الغالب من مذكّرات، خاصّة تلك التي تكون علامة التّأنيث فيها هي التّاء، أمّا في الضّمائر المتّصلة بالأفعال أو بالحروف، فقد جرت العادة على تقديم ضمير التّذكير: كتابُه/ ا، عملكم/ نّ... ولا أرى غضاضة في التّقديم والتّأخير في بعض هذه المواضع، كما في ميم الذّكور ونون الإناث، أمّا في حالة الغَيبة كتابها/ه فقد يُرى الأمر مضحكا. كون الأمر مضحكا لا يعني أنّه ما مورس في العبريّة مثلا في ما تكتبه المِثْليّات( السّحاقيّات) في بعض رسائلهنّ أو أدبيّاتهنّ، كما يظهر في موضوعة لا جنسنة اللّغة في الحديث المثليّاتيّ المشارك في النّقاش العامّ الأكاديميّ وغير الأكاديميّ، وكي لا يُظنّ أنّني أختلق الأشياء أقول إنّ اهتمامي بالشّأن اللّغويّ، يدفعني لرصد سلوكيّات اللّغة في أوساط أهلها جميعا، وكي أكون في دائرة الصّدق أنقل نصّا مبتورًا عمدا من هذا القبيل، منسولا من موقعٍ لهنّ، أسقطن فيه الخطّ المائل، ثمّ سأكتب بالعربيّة " الفصحى" الكلمات التي أبرزتها:

שלום לכולןם, (السّلامُ لجميعكُنَّمْ)
אני יותר מאישה ויותר מגבר... לא אני ולא אף אחד מהחברימות (الأصدقاءات/ الأصدقاءالصديقات)שלי.

זה מושג שכולל את כולכןם (كلَّكُنَّمْ)- הומואים לסביות בי וטרנס. כולכןם מאיימימות (كلّكُنَّمْ مهدّدونات/ تهدِّدونَنْ)...
כולןם משחקימות ( كلّهُنَّمْ يلعبُْونَنَ)... על פי הכללים שמצפים ממכןם (منكُنَّمْ)...(11).

لا حاجة للتّعقيب على صعيد العربيّة وبنِيتها، فالقبيح لا يُشار إلى قبحه، ولا يحتاج إلى براهين حتى يُعرف، أمّا في العبريّة فليفعلنوا ما يشأناؤون.

أمّا استعمال الصّيغ الملائمة للجنسين، فأمر لا يجيده إلا متمكّن من اللّغة، موسوم بالقدرة على التّعبير، وإن كان تطبيق الأمر كتابة فيه الكثير من الصّعوبة، فإنّ تطبيقه محادثة يشارف الاستحالة، لأنّ اللّسان سيمارس بشكل تلقائيّ ما اعتاده من أساليب ومفردات مخزونة في الذّاكرة، حتّى لو حاول المتكلّم متعمّدا التّوجّه الأخلاقيّ المهذّب البادئ بكليشيه " سيّداتي آنساتي سادتي"، إذ إنّه سرعان ما سيقع في الخطيئة إن أراد أن يتابع بإضافة وصف أو فعل، حيث سيجنح إلى التّّذكير:

الأعزاء... المحترمين... طاب مساؤكم جميعا... أسعد الله مساءكم... أهلا وسهلا بكم... وتصبح " ميم الذّكور" سيّدة الخطاب، وكأنّ البدء بـ " سيّداتي آنساتي" كفى المؤمنين القتال! ناهيكَِ عن أنّ المتكلّم بدماثة ما بدأ به، كان قد فعل فِعلَتَهُ في الخوض في الحالة الاجتماعيّة للأنثى مميّزا بين كونها متزوّجة أو غير متزوّجة، وموضوع النّدوة أو اللّقاء لا شأن له بحالة المخاطبة الاجتماعيّة، ولنضِف إلى هذا شيئا من الخيال المفضي إلى قضيّة الكذب والصّدق، فهو لا يعرف أصلا- حين أعدّ كلمته، أو وضع خطوطها الأولى في ذاكرته، أو ارتجلها- إن كان الجمهور يشمل هذه التّوزيعة كاملة، ولا أظنّه قد أجرى مسحا إحصائيّا للحضور قبل اعتلائه المنصّة، والأنكى من هذا أنّ الخطاب الذّكوريّ هذا ليس وقفا على المتكلّم الذّكَر، بل تمارسه المتكلّمة الأنثى، ولو كانت من الحركات النّسويّة المطالبة بتحييد الجندر، أمّا ثالثة الأثافي فتتمثّل في هذا الخطاب المثلّث المهذّب، في حالة كون الجمهور غير مثلّث.

قد يكون هذا الأسلوب صعبًا، خاصّة على صعيد العربيّة، ولا حاجة لتكرار الحديث عن أنّ علامات الذّكورة والإناثة تتجاوز الأسماء والضّمائر إلى الأفعال، وحتى لو جهد المتكلّم/ ة في التزام الحياد في مركّب ما، فإنّه "سيقع" في مركّب آخر، وكي يخلص من هذا " الهمّ"، عليه أن يصوغ خطابه مرّتين أو ثلاثًا، بحيث تذكر المؤنّثات مقابل المذكّرات، على صعيد الأسماء والأفعال والضّمائر، وفي مثل هذه الحالة يكون عدم الحديث أفضل، لأنّ الأسلوبيّة ستسقط، والجماليّة ستصير قبحا، والثّرثرة ستسود، وسيمتدّ خطاب الدّقائق الخمس إلى أضعافها، وسيكثر اللّحنُ في الكلام القافز بين اللّحظة وأختها بين متغيّرات تطابقيّة، ومتغيّرات حركيّة وسكونيّة في الأفعال والضّمائر والأسماء.

أمّا الأكاديميا فقد عمدت إلى الأسلوبيّة مطلقا، وإلى بعض المسكوكات اللّغويّة، بحيث سعت إلى التّخلّص من العلامات الفارقة، بهدف " تحقيق المساواة" من ناحية، وتدريب الطّلبة والمتحدّثين عامّة على الأساليب الحياديّة المرادة... وهذا ما سنقف عليه لاحقا.

 ز -

أرى لزاما عليّ أن أشير إلى أنّ قضيّة الجندر في اللّغة، من حيث التّأنيث والتّذكير، وما جُنسِنَ من الأسماء في منأى عنهما- وفقا للّغات المختلفة-، قضيّة موجودة في أصل الوضع لهذه اللّغات، وليس لها مهامّ مجتمعيّة نظاميّة، استعلائيّة أو دونيّة وضعت خصّيصا لخدمة البنى الاجتماعيّة الباترياركيّة والسّياديّة، وما ترتّب عنها من واقع، أو ممارسات، أو تشريعات أسّست لتفضيل جنس، أو هيمنته، وعليه، فإنّ إقحام اللّغات في هذا المجال، وكأنّها أداة وُلِدتْ مع سبق الإصرار لتكريس واقع الحال في المجتمعات الذكوريّة، أو لتصوغ أفكارَ الإنسان ومواقفه، كلّه تعسّف وقلبٌ لحقائق الأمور، فاللّغة لم تُسقِط على الواقع شيئا في هذا الوضع، بل إنّ انعدام المساواة هو الذي أسقط على اللّغة تبعاتِهِ، ووضعها في قفص الاتّهام، وقد أكون متجنّيا بعض الشّيء إن قلت إنّ الدّعوات التّغييريّة المفضية إلى اللاجندرة أو نزع الجنسنة، ستكون نوعا من العبث، حتى لو أفلحتْ جزئيّا في تغيير بعض المفردات، وفي إسقاط بعض الأسلوبيّات، لأنّ حقيقة الجنسنة التي يجب أن تعالج، هي ما يُعاش خارج إطار اللّغة، في شتّى أصعدة الحياة، وما التّركيز على اللّغات، إلا نوع من اللّعب في حافّة الطّريق، أو في هامش الأشياء، لا في الجوهر.

ولعلّه من المجدي أن أؤكّد على أنّ الجندرة في اللّغات، جاءت لبيان تركيبة هذه اللّغات، ثمّ قُعِّدتْ، لضمانة السّلامة القواعديّة، والسّلاسة الأسلوبيّة، ولم تكن يوما موظّفة عند السّلاطين والذّكوريّين والقامعين المستعلين أيّا كانت جنسيّتهم أو لغتهم، وأمامنا جملة لا حصر لها من الأسلوبيّات والنّصوص والمقولات، الموجّهة إلى الخليقة العاقلة جميعها وإن كُتِبت بأسلوب قواعديّ واحد يحمل ألفاظا مذكّرة لغويّا، فالتّذكير في اللّغة غير التّذكير في المجتمعات والعلائق التي تتّسم بها.

لقراءة القسم الثاني من الدراسة انقر هنا


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى