الأربعاء ٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم رقية عبوش الجميلي

الخوف الأحمر

بناية متهالكة من أثر ثقوب الرصاص وقذائف الهاونات. تركت بإهمال متعمد! محاطة بجدار كونكريتي. ليس سوى منفذ واحد للدخول إليها. هو باب غرفة الاستعلامات.
دخلتْ الغرفة الباردة بعد نسمة هواء حارة. لفحتها خارج الباب. جلست ريثما يُسمح لها بالدخول. بعد أسئلة وأجوبة من موظف الاستعلام. يقودها القلق والفضول لتكمل الطريق عبر الممر المؤدي الى باحة المُتحِف. مستقبلةً الصمت. ليس سوى حفيف أشجار الأوكالبتوس. يرافقها الى باب القسم المنعزل عن البناية الرئيسة.
يعتريها خوف. يفاجئها الصراخ الذي راودها ما بين عتمةٍ ورائحةِ عفن الجدران المسلوخة إثر حريق شب داخل الرواق. تـُرك كل شيء على حاله دون عبث. أشباح مصقولة في قوالب مجسدة ببياض ناصع. كمصباح منير. شبح امرأة تقف إزاء باب أول زنزانة. تروي قصتها مع الذل والاستبداد. مع شبح طفلتها التي تقضم طرف ثوبها. تقاسمها الجوع والبرد والنضال القسري. هروب آخر الى عتمة اخرى. قد تكون اقل ظلمة ووطأة من سابقتها.
أغطية بالية خشنة لا تغني عن برد. ارتعشت برداً دون مبرر. تقاسمت الرعشة مع شبح آخر. كان هنا ذات ليلة باردة. يدفئ أطرافه بشيء من الهذيان. بكلمات خاطها كثوب نسجه من خيوط شِعره. هكذا بدا لها وهو متأمل النظرة الى فسحة الامل. من ثقب بهيئة شباك لزنزانة الحبس الانفرادي. يتقاسم الضوء والهواء مع زنزانته. على صغرها بدت له فسحة من الجنة. سلم للصعود إلى جدارن مسلوخة أخرٍ. مبقعة ببقايا حريق. كأن النار كانت تقف عند حد الممرات. لم يعبر لهيبها الى قاعة الحبس المقابلة للسلم المؤدي الى ذل رجل رأسه قابع بين فخذيه. لا يجرؤ على رفع رأسه. كلما حاول ذلك جاءته ضربة من رجال حمر. توطئ رأسه الى اسفل. مكبل اليدين على سياج السلم دون حراك. هو شبح آخر من اشباح المكان.
ما بين غفلة واخرى. وذهول وفضول يسوقها للمضي في العتمة. التي انارتها بقعة حمراء من الضوء في غرف التعذيب. أجساد تسلخ وتصعق بالكهرباء. اظلاع تهشم. أطراف تقطع. ينتابها شعور بالرغبة للهروب الى شيء اخف وطأة عليها. شيء يقلل من تسارع ضربات قلبها وطنين اذنها وغشي عينيها. كل ذلك مجسد بتماثيل وبقع ضوء حمر وعتمة ورائحة عفن وبقايا نار كانت هنا وهناك.
لم يكن غريباً عليها المكان. كان جزء منها. تلك الصراخات كانت معها. والرائحة اشبعت حواسها. لم تبدُ غريبة. بل هناك شيء من القربة والانتماء الذي دفعها لتكمل مسيرها الى نهاية كل ممر وبداية ممر آخر. حتى آخر غرفة كانت تؤدي الى باب الخروج. والدخول الى زنجرة الدبابات. برغم الفزع الذي كانت تخلفه وراءها. الا انها اصبحت تفزع من الصدأ المنتشر على اطرافها. كل يوم يمر بها تدخل الشيخوخة متسللة الى جوفها الخرب. لم تعد تطلق من فوهتها إلا صفير تيار الهواء المنساب من فتحات الصدأ والحديد المهشم. لم تكن تعني لها شيئاً من الانتماء كما انتماؤها للعتمة والبرد والجوع. تلك القضمة تناديها الى خواء بطنها. ورائحة البرد تبدد حرها تحت قرص الشمس بين الدبابات المزنجرة في حديقة المتحف.
نداء الاصدقاء احتفى بها الى ممرات الزجاج المهشم. الذي ملأ الجدران. كل زجاجة تمثل ابتسامة غائبة. تعكس صورتك. تناديك لتقول كن مكاني. ها أنا اراك من حيث لا تراني. السقوف التي انارتها مصابيح الارواح المستغيثة الباحثة عن رجاء الخلاص. صغيرة الحجم. هي بحجم طفلة فاضت روحها لتضيء السماء كنجمة وضاءة. حتماً هو جزاؤها. لم تكن طفلة عابثة تداعبها الملائكة. كانت طفلة عبث معها غبار عصف قنبلة الانفال.
زاد فضولها وداعبها القدر. لتطوف ارجاء المكان حتى معرض الصور. حكايات تروى بين صورة وصورة. زاد ولعها اكثر. كانت ذاكرتها معها في صراع وحنين. يجرف بها كلما تعثرت بموطئ قدم. طبع تحت قدميها على بلاط المعرض. كادت تغوص في بركة الطين امامها. لشدة دقة عملها الفني. كادت تظنها حقيقة. ساقتها الى طريق سلكته من قبل. كان الحاجز الزجاجي رادعاً دون الغوص في البركة.
الطين الزلق ورائحة الاغصان الرطبة وهي تحترق ببطئ. كل صورة تناديها تزيد انتماءها وتعيد ترتيب ذاكرتها بتسلسل معكوس للاحداث. من رائحة عفن الزنزانة. وقضمة الثوب الجافة. الى رائحة الاغصان الرطبة ثم البرد يجمعها بذاكرة ومشهد. اعادها الى نفسها؛ رتب فوضى الاحداث والخلجات التي صاحبتها منذ دخولها المكان. بدأت اطرافها تبرد. تتجمد... وبطنها يعتصر جوعاً برغم امتلائه بعد غداء دسم. برفقة أصدقاء. اسنانها تقضم اطراف وشاحها وكأنها عادة لازمتها منذ صغرها. منذ كانت تقضم ثوب امها في تلك العتمة. لتبدد خوفها. وتصبّر روحها بوجودها. لم تدرك وجودها هناك. مجسد بتمثال بهيئة شبح. يروي قصتها مع المكان. ما عرفت نفسها ولا عرفتها هي. الا بعد ان نادت عليها. صورة بين صور المعرض. لمصور كل ما تتذكره منه عدسته التي تخفي وراءها نصف ملامحه. لم تدرك انه اخفى شيئاً اعظم... كان يخفيها هناك. ويضعها هنا. في اطار بين تلك الصور في مشهد مع اطفال. تشاركهم الثياب المتهرئة ذاتها. ما خلعوها حتى هي انخلعت عنهم. تمزقت على اجسادهم. كل ما عرفت منها تلك الكنزة الصوفية متهرئة الاطراف. من اثر القضمات التي رافقتها من ايام الزنزانة لثوب امها. وذلك البؤس المتواصل. الذي رافقها منذ ان طرق رجال الامن الاحمر باب البيت. وساقوا امها الى دهاليز العتمة. كرهينة. ريثما يظهر ابوها المتمرد. كان ثوب أمها من ساقها لتشبثت بتلابيبه. حتى ذلك المكان لم تفارقها. صراختها المستغيثة. بين تيارات الصعق الكهربائي. وهي شبه عارية تلملم ما تبقى من ثيابها. تعلق بحبال على سقف غرفة التعذيب. تناديها ان تغلق عينيها حتى لا ترى ما رأت. من ما مشاهد كانت تعاودها بالحلم واليقظة. كفيلم تسجيلي. كل ما كبرت زادت وضوحاً. كلما نضجت زادت ألماً... أماتها الحزن. قضت نحبها في تلك العتمة. لم ترغب ان تواصل معها. تركتها هناك تضع رأسها في حضن أمها البارد ليلتها حتى الصباح. سلبتُ طفلةً ألقي بها ما بين جموع النازحين. حتى جاء ذلك المصور. لم تكن تعي ما هي الصورة. ليست الا ضوءً خارجاً من زجاجة. كانت تخيفها بَرقة الضوء المبثقة من العدسة. يذكرها بصعقات الكهرباء في تلك الغرفة. عادت ادراجها الى نهاية الرواق. ثم الباب الذي اتكأت عليه من هول الذاكرة. لم ترَ إلا ضوء النهار. خارج ظلمة المعرض والاضواء الخافتة. والسقوف والجدران التي امتلأت بالصور. كل صورة كانت لقضمة جوع وعسرة برد. مضت حيث مضى من معها وتركت خلفها ما ترك آخرون كانوا هنا في غرف العتمة. وهناك في اطار صورة. مجسدة لبناية هي شاهد عيان. عن حقبة زمنية. وحياة لنضال قسري مع أمن أحمر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

من هنا أوضح مسيرتي العملية في مختلف الميادين، على مدى خمسة عشر عاماً من العمل واكتساب الخبرة.

الكتابة والصحافة:
بدأت في ميدان الصحافة كمحررة في جريدة (العراق غداً)، مسوؤلة عن صفحة المرأة وكاتبة مقال أسبوعي لجريدة رسمية. كما قمت بتحرير وإعداد برنامج اجتماعي تناقَش خلاله قضايا المجتمع وكيفية حلها بطرح الأسئلة التي تصل عبر البريد على اختصاصيين في علم النفس الاجتماعي. ثم انتقلت إلى برنامج إذاعي كضيفة أسبوعية لمناقشة التحديات التي يواجهها المجتمع. كما استلمت منصب (مديرة مشروع) في مؤسسة إعلامية لـ(صناعة القلم النسوي) ومشروع المقال والصورة (رسالة السلام) ثم كنت من منظمي مسابقة (الكتاب بوابة السلام). كما كانت لي عدة كتابات قصصية ومقالات بحثية نشرت في مواقع رسمية مثل (ديوان العرب) جريدة (الزمان) اللندنية، موقع (ما وراء الطبيعة) جريدة (الصباح) الرسمية.

البحث الاجتماعي والمسرح:
كنت عاملاً مهماً في إنشاء وتأسيس الفرق المسرحية (مسرح المضطهدين) في العراق لأربع مدن عراقية، فتم تأسيس أربع فرق مسرحية، وكان لي دور في اختيار وتدريب الفنانين، وكنت المسوؤل الأول في كتابة النصوص المسرحية التي تعتمد على البحث الميداني ودراسة الحالة في المجتمع قبل كتابة النص أو عرضه كنص مسرحي جاهز، واستمر عملي لمدة أربع سنوات على البحث وكتابة النصوص المسرحية وتدريب الممثلين وتنسيق للعروض.

البحث الاجتماعي:
في هذه الميدان كان التركيز على الحالات الإنسانية ودراسة الحالة وتقييم الاحتياجات اللازمة بحسب التقييم مع المتابعة وكتابة التقارير التحليلية التي تعتمد على قاعة بيانات في التحليل، ومعظم تلك التقارير كانت تصدر بشكل بياني ورقمي مع تقرير سردي، واستمر عملي في هذا الميدان مع مختلف المنظمات الدولية لمدة سبع سنوات ممتالية شملت تدريب الموظفين على خطوات دراسة الحالة وكيفية حفظ البيانات وكيفية الإحالة بطريقة إلكترونية وبسرية عالية.

من نفس المؤلف
استراحة الديوان
الأعلى