الخميس ١٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم أسماء غريب

حـُرقة الضّم وبـُكاء الـّنصب والكَـسـْر

"هل تودين اليوم أن تقضي على ما بقي بداخلي من صبر وعقل؟ هيا قولي لي، لمَ لا تكتبين ما آمرك به؟ هيا ضعي علامة الكسر في آخر الاسم بهذه الجملة وفي الجملة الثانية وعلى نفس الإسم دائما علامة النصب. هيا لن أضيّع معك كل اليوم كي أشرح لك الكسر والجر في اللغة العربية."

صرخت مُدرسة اللغة العربية في الصغيرة هُدى بكل ما أوتيت من قوة وجنون. لكن على عكس المتوقع ظلت هُدى مصرة على عنادها واستمرت في كتابة الاسم مرفوعا لا مجرورا ولا منصوبا مما زاد من حنق المُعلمة بشكل لم تستطع معه تمالك نفسها فصرخت من جديد بشكل هستيري:

ـ "غدا لن تدخلي الفصل إلا ومعك والدتك. أتفهمين هيا قومي الآن واغربي عن وجهي وعقابا لك اكتبي الاسم ببيتك مائة مرة منصوبا ومائة أخرى مكسورا."

خرجت هُدى كسيرة الخاطر وعادت إلى البيت والدمع متحجر في عينيها، فالمُدرسة لا ترغبُ في سماع أي تفسير منها ولا تتوانى عن نعتها بالغبية أمام زملائها، وهي بالرغم من ذلك تحاول قدر المستطاع أن تخفي كل هذا عن والدتها حتى لا تثقل كاهلها بهم و عبء زائد، يكفيها ما تحمله هي ووالدها من أحزان ضنك العيش وقسوته، لكن المُدرسة لم تتركْ لها مجالا كي تستمر في التستر على ما يحدث لها داخل الفصل فغدا عليها أن تصحب والدتها معها مهما كلف الأمر. حارت هـُدى في أمر هذه المشكلة وظلت تفكر فيها إلى أن هداها قلبها الطفولي إلى الإعتقاد في أن أحسن حلّ هو البوح لأمها بكل شيء، وذاك ما قامت به بمجرد عودة هذه الأخيرة من عملها:

ـ "طيب ولم لا تقومين بما تأمرك به مُدرستك يا صغيرتي. صحيح أنني امرأة لاتعرف القراءة والكتابة وأقضي ساعات طوال في معمل تصبير السمك أنا وباقي نساء الحي كي نكسب قوت يومنا لكن هذا لا يمنع من أنني أعتقد أنه من الأفضل للتلميذ أن يطيع مدرسه أو أستاذه، أنت اكسري الاسم وانصبيه كما قالت لك وتجنبي جنونها وإلا فإنها سوف لن تتركك لحال سبيلك وستمطرك بلائحة أخرى من العقوبات ومن يدري ربما تقول لك بعد غد أن تكتبي ذات الاسم ألف مرة. لا عليك الآن يا حبيبتي سأذهب معك غدا عندها، ولاتكتبي أي شيء من العقوبة التي كلفتك بها فأنا سأتحدث معها بهدوء وأحاول أن أصل وإياها إلى حل."
انشرحت أسارير الطفلة لسماع حديث والدتها وقفزت من مكانها كي تـُقبلها وتـُعانقها بحرارة ثم ذهبت إلى غرفتها طلبا للنوم، لكنها حينما استلقت على سريرها الصغير بدأ ذاك الاسم يراود فكرها بشكل ملح إلى أن بدأت تراه بعين قلبها ناري اللون ولا علامة فوقه سوى علامة الضم. كان هذا هو السبب وراء إصرار الصغيرة على رفع الاسم وعدم نصبه أو جره. فهي هكذا تراه بل هي هكذا تسمعه في كل ليلة يقول لها: "أنا الرافع أنا المعز، أنا العلي المتعال، الْعَظِيمُ الْمُتَعَظِّمُ، الْكَبِيرُ الْمُتَكَبِّرُ، الْشَدِيْدُ الْمِحَـالِ". وكانت الصغيرة في كل مرة تسمع هذا الكلام تقوم من سريرها وتأخذ طبشورتها الزرقاء وتكتب بها فوق جدران غرفتها اسم الله وعلامة الضم فوقه ولاشيء غيرها، بالضبط كما كان يتجلى لها.

مرّ الليل طويلا على الصغيرة وهي تناجي اسم الله وحركة الضم فوقه وحينما حلّ الصباح ذهبت إلى المدرسة ووالدتها معها.

ـ "إن ابنتك عنيدة وغبية، أظنها على الأقل شرحت لك سبب دعوتي لك هنا؟"
قالت المدرسة بغطرسة وتعجرف.

ـ "نعم يا سيدتي وأنا قد بسطت لها الأمر وثقي بأنها من الآن فصاعدا لن تقوم إلا بم تأمرينها به."

ـ "لا يمكنك أن تتخيلي درجة جنونها. إنها تريد أن تغير قواعد النحو العربي. أقول لها أن اسم الله يمكن كسره ويمكن نصبه فترفض ذلك ولا تكتبه إلا مرفوعا. وأقول لها اكتبي "إن اللهَ غفور رحيم" فتكتب إن اللهُ" وأقول لها اكتبي "للهِ ما في السماوات والأرض" فتكتب للهُ " ما الذي يجب أن أقوم به لا أعرف. لقد قـلـّتْ حيلتي معها ونفذ صبري."

قالت المُدرسة آمرة هدى بأن تدخل إلى الفصل وذهبت الأم إلى عملها ولسان حالها يقول: "عسى الله أن يُخلص تلاميذك منك ومن غطرستك وكلامك الغامض الذي لم أفهم منه شيئا".
دخلت المُدرسة الفصل واتجهت نحو هُدى:

ـ "هيا اكتبي الاسم بكل حركاته النحوية"

لكن هُدى عادت من جديد لتكتب اسم الله مرفوعا لا غير. صرخت المدرسة بكل ما أوتيت من قوة وطردت الصغيرة من الفصل وأمرتها بألا تعود إليه مجددا حتى تنظر في أمرها. خرجت الطفلة من جديد. وقصدت البيت مباشرة. لم يكن به أحد فوالدتها في العمل وأبوها خرج منذ الصباح الباكر كي يجوب الأحياء بعربته الصغيرة المليئة بالنعناع يبيعه للبيوت مقابل قروش لا تغني ولاتسمن من جوع. ارتمت فوق سريرها حزينة وأجهشت في بكاء طويل ثم قامت وأخذت من حقيبتها أقلامها الملونة وبدأت تخط بجنون اسم الله في كل مكان إلى أن أصابها الإعياء فخلدت إلى النوم. عادت الأم من العمل ووجدت الصغيرة نائمة والجدران مليئة بخربشات لم تستوعب منها شيئا. اتجهت صوب المطبخ أعدت وجبة الغداء ثم عادت مرة أخرى إلى غرفة الصغيرة توقظها من أجل تناول الطعام، لكن هيهات هيهات، الصغيرة كانت تنام بعمق عجيب مخلدة روحها البريئة إلى صاحب الاسم المرفوع المضموم. بدأت الأم تصرخ في ألم وحرقة شديدين إلى أن دخلت مدار رفع الحجاب فرأت ابنتها تجري ضاحكة في جنان فسيحة وعلى يمينها موكب من حركات الضم يحمل شموعا من فضة وعلى يسارها موكب آخر من حركات الكسر والنصب بجلابيب سوداء يبكي بدل الدموع دما على ما سببته مُدرسة الشؤم من أحزان وآلام جرحت بها قلب الصغيرة و مشاعرها المرهفة البيضاء.


مشاركة منتدى

  • مؤثر جداً .. و جميل , بل رائع !
    تنصرمُ المشاعر في حضرة هذه الحرُوف فهو يخلق عاصفة هوجاء مبعثرة .. تصحبها مشاعر استفاهم , حُزن .. اطمئنان ..!
    جميل .. جميل جداً
    تحية لهذا القلم المبدع

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى