الأحد ١١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢
بقلم نايف عبوش

افاضل من ذاكرة السوق الموصلية

في منتصف خمسينات القرن الماضي، كنت يومها لما ازل صبيا يافعا في الصف الرابع الابتدائي، اصطحبني والدي رحمه الله معه الى مدينة الموصل لأول مرة. فكانت نقلة نوعية في حياتي، اذ مهدت لمشوار لاحق من عيشي في المدينة، طالبا في الاعدادية، ومن ثم في الجامعة بمراحلها الاولية والعليا. ومنذ اللحظة التي وطأنا فيها ارض الكراج في مركز باب الطوب قرب علوة دحام للقمح، قادني الوالد الى مطعم كباب الأربيلي الشهير قرب علوة الدجاج قبالة الكراج، لتناول الكباب اللذيذ الذي اعتاد المطعم تقديمه لرواده مع شربت زبيب خالص يعد داخل المطعم في كيس جنفاص معلق، ينضح الشربت داخل قدر نحاسي كبير.

ثم اصطحبني والدي بعد ذلك الى بقال في مركز باب الطوب عند مدخل سوق اللحم، وعرفه لي على انه بائع التبغ الفل الشهير للمدخنين في الأطراف العم الفاضل يونس التتنجي، الذي استقبل الوالد بالترحاب الحار، وأجلسه قربه، ودعا له باستكان شاي. وبعد تبادل عبارات الود والتحية، وتجاذب اطراف الحديث، وسؤاله عن احوال الربع في الديرة، ابتاع الوالد منه حاجته من التبغ الفل ودفاتر اللف البافرة.

ولان الوالد عليه ان يتسوق بقية الاحتياجات للعائلة، فقد اشترى (زنبيلا)من البقال المجاور، وهو(علاكة حصير)محاكة من سعف النخيل، يحمل باليد، توضع فيه السلع المتسوقة، بدلا من اكياس النايلون البلاستيكية المستخدمة حاليا، والتي لم تكن يوم ذاك معروفة.

وفي طريق العودة الى الكراج للرجوع الى القرية، مر الوالد على ذات التتنجي ثانية ليأخذ التبغ الذي اشتراه، وإلقاء تحية الوداع عليه. لكن الذي لفت نظري حينذاك، هو قيام التتنجي بمناولة احد زبائنه الذي تزامن وجوده معنا عدة مظاريف من الرسائل الواردة الى بريد الموصل باسمه، من جنود وشرطة وكسبة الديرة، يعملون في مختلف محافظات العراق الى ذويهم في مختلف قرى ريف الاطراف، اعتادوا ارسالها الى اهلهم بواسطته، ليقوم بدوره بإرسالها الى اهليهم، مع اي طارش معرفة يمرعليه، ويثق به، حيث كانت وسائل الاتصال، والمواصلات محدودة للغاية.

وهكذا كان الفاضل التتنجي يقوم بدور ساعي البريد طوعا وبأمانة، ويبادر باستلام الوداع النقدية، والأمانات، والرسائل، ويرسلها الى اهلها دون كلل او ملل او منة، كما علمت من الوالد يومها، وكما خبرته عن قرب منه طيلة السنوات اللاحقة من تواجدي في المدينة فيما بعد، حيث اصبح من بين ابرز المعارف والأصدقاء في السوق. فكان بهذه الدماثة والسلوكية النبيلة، محط رضا الجميع. ومن مثله كثير من الافاضل من الباعة والبقالين الثقاة في السوق، اتذكر منهم البزاز مظفر، والبقال موسى الججاوي، والكاسب جمعة، الذي كان يتسم بالأمانة والصدق في خدمته، حيث يتولى حمل الجلود، وأكياس القمح، وبالات الصوف التي يشتريها او يبيعها الناس القادمين من ارياف الاطراف، ويقوم احيانا بعملية البيع والشراء بنفسه بتكليف من صاحبها، وخاصة عندما يكون صاحب السلعة كبير سن، او قليل خبرة في السوق، ومن دون ان يبتزهم بتاتا.

انهم بحق افاضل من ناس السوق الموصلية، تختزن الذاكرة مناقبهم القويمة كنموذج للصنف الصادق في السوق ايام زمان، الذين ما زالوا يذكرون بالخير بين الناس الذين تعاملوا معهم، والذين قدموا لهم خدمة جليلة يوم ذاك، واشتهروا بين اوساط جمهور الاطراف بالصدق، والأمانة، والمهنية النقية، التي لا تعرف الغش والتدليس.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى