الأحد ١٩ شباط (فبراير) ٢٠٠٦
بقلم زكريا شاهين

المسافات الباردة - رواية زكريا شاهين - قسم 5

في تفاصيل الحكايات

حميد، كان جزار القرية الوحيد، ضخم الجسم، كثيف الشاربين، كبير الرأس، يقولون، أنه رأسه أكبر رأس في القرية، بارعاً بالحفاظ على زبائنه رغم مظهره الخشن، انتهازي بطبعه، يدعي معرفة كل شيء حتى بكل ما تعلق بالمدينة، يقال أنه يتلاعب بالميزان، لكن زبائنه يتغاضون عن ذلك، لم يدفع الزكاة في حياته بدعوى الفقر وحجم العائلة الكبير، ورث المهنة عن والده، يكاد يكون قد ولد جزاراً، يدعي أنه يعرف تفاصيل عظام الماشية أكثر من طبيب مختص، لذلك فهو يستطيع انتزاعها دون أن تعلق بها أية قطعة من اللحم مهما بلغ حجمها الصغير، وحميد، تزوج مبكراً وأنجب سبعة صبية وفتاتين تزوجتا أيضاً في سن مبكرة، أما الأبناء، فقد اختار كل منهم طريقاً مختلفاً عن طريق والده باستثناء الكبير، إذ أن هذا بدأ العمل مبكراً في مهنة والده، حتى أصبح جزءاً من دكانه، لا يملك أحلاماً كأخوته، إذ أن اثنان منهما يعملان في الزراعة، والأربعة الباقون هاجروا إلى المدينة تباعاً منذ سنين، لكنهم وفي أكثر من مناسبة، يرسلون لوالدهم بعضاً من النقود والهدايا، لم ينسوا القرية أبداً، هكذا يقولون في رسائلهم.

الأربعة، عملوا في أعمال مختلفة، لكنهم استقروا أخيراً كل في عمل، الأول، يعمل في مطعم بحي شعبي، والثاني يعمل حمالاً في الميناء، أما الثالث، فحارس لبناية حديثة، والرابع بائعاً للصحف، هذا الأخير، كان يرسل الصحف إلى والده باستمرار، وفي المرة الأولى لوصولها، فرح حميد بها، ورغم معرفته القليلة بالقراءة، فقد تصفحها حرفاً حرفاً، ثم أعجبته المسألة، أرسل إلى ولده يطلب منه فيها أن يستمر في إرسال الصحف له.

يتباهى حميد، أنه يعرف تفاصيل ما يجري بالمدينة، لا بل في العالم كله أحياناً، يعرف دقائق الأمور، حتى حياة الوالي نفسها، يعرف منها من التفاصيل أكثر مما يعرف الشيخ الكبير صديق الوالي، الأخبار التي يقرأها تحتوي على كل التفاصيل، كان يجمع الرجال أمام دكانه كلما وصلت عربة ساعي البريد الشهرية، ساعي البريد هذا، كان يصل في مطلع كل شهر، يحمل الرسائل لأهل القرية ويعود في نفس اليوم محملاً بالهدايا من الشيخ الكبير لصديقه الوالي، وبمرور الأيام، أصبحت مسألة قراءة الصحف بالنسبة إلى حميد، جزءاً مهما في حياته، لا بل أنه طلب من ولده أن يتوسع في هذا الأمر، فأصبح يرسل له الصحف مرفقة ببعض الكتب في البداية، استهوته الأخبار الاجتماعية والصور، لكنه تركها ليهتم بالأخبار السياسية، وبالصراع الذي يدور حول كل شيء هنا وهناك، لقد وجدها أمتع وأنفع.

يتابع كل ما يتعلق بنشاط الوالي، تحركاته، لقاءاته، خطبه في المهرجانات، كل شيء ، يقرأ أخباره حرفاً حرفاً، كذلك استهوته كلمات الخطباء الذين يدافعون دائماً عن حقوق الشعب.
الشعب.. أجل، ورغم علاقته العادية بالآخرين، أحس بأنه يفوقهم ثقافة ومعرفة، خاصة الثقافة السياسية، علقت في ذهنه فقرات كثيرة مما تكتبه الصحف، خاصة فيما يتعلق بحقوق وواجبات أبناء الشعب، قرأ عن شعوب في عوالم أخرى، بدأ يتحدث عن ذلك، كانت المادة غزيرة بين يديه، فالفترة تلك كانت فترة صراع كبير على المكان، والجميع، كانوا يصغون إليه، اختلفت جلسته أمام دكانه، نمت عادة فتل الشاربين لديه كلما رأى اندهاش القوم، وهم.. يصغون إلى ما يقول، عيونهم تمتلئ بالدهشة كلما استرسل في حديث سياسي، والشعب، كلمة سحرية، أحب وقعها في النفوس، إنها تدغدغ العواطف، يشعر الناس بأهميتهم كلما سمعوها، أنهم هم الشعب، هو أيضاً من الشعب، استهوته المسألة، ذات صباح تغير اسم دكانه الذي كان يحمل يافطة كتب عليها، "مجزرة الأمانة" لتظهر لافتة جديدة كتب عليها "مجزرة الشعب" علقها بنفسه، ابتعد عن باب الدكان عدة أمتار، نظر إليها، رأى أنها أكثر روعة وبهاء.

الذي يأتي.. ولا يأتي؟

حتى الريح، فإنها ترتكب الخطيئة حين تقصم رأس نخلة.!

عثمان، شاب متحمس، جميل المحيا، هادئ الطبع، يبلغ الثلاثين من عمره، ورث عن أبيه أرضاً كبيرة، رعاها جيداً فأعطته بسخاء، رعاه أباه بعد وفاة أمه واعتنى به عناية خاصة، يملك قطيعاً من الخراف، ويعمل لديه بعض المزارعين من شبان القرية..

الشاب، لا يحمل في نفسه هموماً تذكر، يعيش حياته بشكل عادي، يحب السهر وقضاء الليل مع أقرانه، سهر دون إفراط، يحظى باحترام أهل القرية، تقدم لخطبة فتاة تدعي صالحة، وسرعان ما تم الزواج، كان متلهفاً على الاستقرار، فقد سئم الوحدة، زواجه من فتاته كان حدثاً مهماً في القرية، أقيمت الاحتفالات المميزة بهذه المناسبة، احتفالات لم تشاهدها ساحة القرية من قبل، ورغم وجود العساكر وتوقف الأفراح، فإن زواج عثمان، كان حدثاً مهماً وسعيداً.

الفتاة، تمتاز بجمال لا بأس به، يعرفها كل أهل القرية، حسنة السيرة، تنحدر من سلالة طيبة، والدها يعمل مزارعاً في أرض عثمان ويقيم هناك، قيل الكثير عن علاقتها بعثمان، لكن الثابت، أنه لم تكن هنالك أية علاقة تذكر، باستثناء اللقاءات التي كانت تحدث بحكم إقامتها في المزرعة قبل أن يتقدم لخطبتها، كان مسعود، وهو ابن الشيخ الوحيد، يريدها زوجة له، رآها ذات نهار وهي تخطر بقدها الجميل مع الفتيات بالقرب من طريق المزرعة، تعلق بها، لكن والده رفضها زوجة له عندما حادثه بالأمر، إذ كيف له وهو ابن الشيخ الكبير، أن يتزوج ابنة عامل؟

الشيخ الكبير، كان حاسماً دون تراجع، أيقن بعدها الفتى مسعود أن لا فائدة من إعادة الطلب، فوالده معروف بعدم التراجع عن أي قرار يتخذه، تناسى الأمر، شارك في حفل الزواج الذي جرى في ساحة القرية لعثمان وكأن شيئاً لم يكن.

مسعود، خشن الطباع بعكس والده، دائم المباهاة بنفسه، لم يكن يحمل أية صفات مميزة سوى أنه ابن الشيخ الكبير فقط، أرسله أبوه للدراسة بالمدينة، لكنه عاد فاشلاً، أفسدته النقود التي كانت تصله دون حساب، رافق أصدقاء السوء، تعلم الكثير من عادات المدن القبيحة، نسي لباس القرية التقليدي وارتدى زي المدن، وعندما عاد بهذا الزي إلى القرية، لم يستطع والده أن يمنعه من ارتداءه، كانت المرة الأولى التي يرفض فيها طلباً لوالده، أما العربة التي عاد بها من المدينة، فقد امتلأت بالحاجيات الغير معهودة في استخدامات أهل القرية، فالعطور، والأزياء الغريبة، والعصي المزخرفة كانت تملأ العربة.

يتعامل مع الآخرين وكأنهم قطيع ماشية ليس إلا!! يصحبه حارسان بشكل دائم احضرهما من المدينة ، الأول، كان سجاناً قديماً ، أما الثاني فهو سجين سابق، متناقضان جمعهما شيخ المستقبل، السجان يحمل سوطاً لا يفارقه، أما الثاني فيسير بخيلاء متباهياً بعضلاته البارزة، يلوح بعصا غليظة ربطها من طرفها الأعلى بيده، نحت عليها رأس أفعى ضخم، لهما نفس أخلاق الشيخ الصغير نفسها، لم يقيما أية علاقات مع أحد، يقيمان في غرفة خصصت لهما في زاوية حديقة البيت.

خلاصة الأمر، أن مسعود، أضمر في نفسه شراً لعثمان، رغم أن الأخير، لم يكن يعرف حكاية عشق مسعود للفتاة، وليلة احتفلوا بزواجه، رقص مسعود مع الشبان على غير عادته، أطلق النار من بندقية صيد معه في الهواء، عرض عليه حارساه أن يخلصاه من غريمه، لكنه رفض قائلاً:

كل شيء مرهون بوقته!

في الاجتماع أيضاً كان الراعي عبد الرحمن، من طينة أخرى هذا الرجل، غريب الأطوار، لكن ذلك لم يؤثر على سلوكه، أخلاقه لا غبار عليها، لكنه محب للعزلة، لم يصادق أحداً باستثناء صداقته للشافي..

يصل كل يوم بقطيعه إلى أطراف الجبل حيث المراعي الخصبة، يستظل شجرة سرو عتيقة تقع قرب كهف قديم يبدو أنه قد استخدم منذ وجوده للسكان الأولين، فهو ذا فتحة ضيقة توسعت بفعل آدمي، لتصبح شبيهة بباب كبير، مساحته واسعة من الداخل، مقسمة إلى عدة مواضع بواسطة جدران من تراب فخاري تصلح فعلاً للسكن، ومع ذلك، فلم يفكر أحد باستخدام هذا الكهف، حتى لإيواء المواشي، فالمنطقة ولغرابة ما ينسج حولها من أساطير توحي بالرهبة.

عبد الرحمن، لم يكن أصلاً راعياً للأغنام، وهو لا يمت بصلة إلى أهل القرية، لا من حيث صلة القرابة، أو صلة المكان، فهو من سكان المدينة، هاجر إلى القرية في ظروف أحكمت الطوق عليه ودفعته إلى الانزواء بعيداً.

عرفه سكان القرية حين كان يأتي في مواسم جز صوف الخراف، يشتري الصوف، يعود إلى المدينة، ولا يظهر إلا عندما يأتي في الموسم الجديد، ورغم الأرباح التي تدرها هذه المهنة، فلم تظهر عليه علائم الثراء، فقد كان يعمل لصالح متجر والده، يرفض أن يشارك في الربح طالما يعيش مع العائلة في بيت واحد.

أحب القرية كثيراً، تمنى لو يقيم فيها منذ أن وطأت قدماه المنطقة، لكن ظروفه لم تكن تسمح بذلك، ومع هذا، فقد إبتاع أرضاً صغيرة، تركها دون رعاية، ورفض تأجيرها مقابل استغلال الآخرين لها، لكنه سمح ذات موسم لمزارع فقير أن يستغلها دون مقابل، فكان أن أنتجت خيراً وفيراً حير مزارعي القرية ومالكي الأراضي، فتسابقوا لشرائها، لكنه رفض ذلك، والمزارع ترك قطعة الأرض، بعد أن تحول إلى صاحب دكان، فتحولت قطعة الأرض إلى ملعب للأطفال، لكن جزءاً منها أصبح مقصداً للمتنزهين بفعل وجود بئر ماء صالح للشرب، كان عبد الرحمن يرعاه دائماً، ويحضر له معداته من المدينة باستمرار، ليظل صالحاً لاستخدام الجميع دون مقابل.

الأرض، كانت خالية من الأشجار، مكشوفة تماماً، وإلى جانبها طريق ترابي يكاد أن يكون الطريق الوحيد المؤدي إلى الجبل.

وحده الراعي عبد الرحمن، كان على علم بعشق مسعود للفتاة صالحة، أو كثيراً ما رآه يحوم حول البئر محاولا التقرب منها، لكنها كانت تتجاهله تماماً، وعندما سمع بخطبة الفتاة لعثمان، لم يصدق الأمر، فمسعود رجل شرير، وإذا ما أراد الحصول على شيء كان له، وحارساه يقفان على أهبة الاستعداد لذلك، لكن الذي حدث، أوحى لعبد الرحمن أن الشيخ مسعود كان يعبث ليس إلا.
حكايات كثيرة كانت تدور حول عبد الرحمن، تلك عادات الريف، لكنها لم تكن تحمل طابع الأذى إطلاقا..

قالوا إنه متزوج في المدينة، ربما!! لقد اشترى تلك القطعة من الأرض، ليقيم بيتاً عليها ذات يوم..

أسر عبد الرحمن يوماً لأحدهم بأنه يود بناء بيت صغير في زاوية الأرض، إنه يحتاجه أثناء قدومه من المدينة، في المواسم، لكن الأمور لم تجري كما اشتهى صاحبنا، إذ أنه ذات موسم حضر وبصحبته شقيقه، قال أنه سيحل محله في شراء الصوف، والتعامل مع المزارعين وأصحاب المواشي، وبالفعل، اعتزل عبد الرحمن المهنة، وابتنى لنفسه داراً صغيرة قرب البئر وأقام فيها..

لم يعرف أحد قط سبب ذلك، مضت أسابيع وعبد الرحمن يعيش بلا عمل، حاول استصلاح الأرض الصغيرة، لكنها تحتاج إلى وقت وخبره، مل من ذلك، كما أصيب بآلام حادة في ظهره، كادت نقوده التي أتى بها من المدينة أن تنفذ، لكن أحد مربي الأغنام عرض عليه استئجار الأرض لإقامة زرائب لقطعانه، إنها تصلح لذلك بسبب توفر الماء وقربها من الجبل، كما أنه يستطيع الاحتفاظ بالبيت لإقامته، أمهله الرجل ليفكر بالأمر، وعندما عاد بعد أسبوع، كان عبد الرحمن قد وافق على العرض شريطة أن يعمل لدى الرجل راعياً للأغنام، سر الرجل بالأمر، إذ كان يود شراء الأرض، لكنه عندما عرض مبدأ الأجرة، كان يعرف أن أهل القرى لا يبيعون عادة أراضيهم، وهكذا أصبح عبد الرحمن راعياً لأغنام الرجل، مقيماً في نفس البيت، أو سارحاً بالأغنام قرب الكهف الكبير.

تغيرت حياته تماماً، يسرح صباحاً ليعود قبل الغروب بقليل، في البداية، كانت المهمة صعبة، لكنها ومع مرور الزمن شكلت له متعة حقيقية، ألفها كما ألف الخراف والفته، تعودت على الطريق الذي اختاره لها، يصل بها إلى الكهف، يجلس هناك، بينما تظل الخراف ترعى حوله في دائرة متسعة لكنها محددة، حتى يعود بها في المساء..
ينحدر عبد الرحمن من عائلة استقرت بالمدينة، بعد أن قدمت من دولة مجاورة بسبب هجرة سببتها الحرب، العائلة كانت قد تركت كل شيء، إلا مفاتيح البيت الكبير الذي كانت تسكنه على الشاطئ، وذلك على أمل العودة، لكن الأمر طال، والعائلة تحتاج إلى مصاريف، كافح رب العائلة من جديد حتى استطاع تأمين الحياة الجيدة والممتازة للمجموعة التي يرعاها، عمل في تجارة الماشية والأصواف والجلود وكل ما يتعلق بها، وعبد الرحمن، ولد بالمدينة التي استقرت بها العائلة، عاش طفولة مرحة فرحة، تعلم في مدرسة خاصة حتى أنهى دراسته الثانوية فيها، امتلك معرفة كبيرة فيما يتعلق بالثقافة العامة، ميوله كانت أدبية، نمت باكراً، ساعده في ذلك، المحيط العائلي حيث العناية الخاصة التي أولاها إياها والده، إضافة إلى ذلك، فإن الأجواء الاجتماعية التي كانت تحيط به، شكلت له دافعاً للدراسة والتحصيل، فمعارف الأب، كانوا ينتمون إلى الطبقة المتعلمة والعاملة في مجال الثقافة، إذ أن الوالد كان يعمل مدرساً لآداب اللغة قبل أن يمتهن التجارة..

المدرسة التي درس بها، تكاد تكون مدرسة، ذا طابع خاص، يشرف على إدارتها مدرسون درس معظمهم الكهنوت والفلسفة وعلم الاجتماع، لكنها تدرس مناهج الدولة ذاتها مع إضافات لمواد أخرى، غالبية طلابها ينتمون إلى الأسر الميسورة مادياً، فأقساطها عالية..
حين أنهى تحصيله الثانوي، التحق بكلية العلوم الفلسفية، كانت هذه الكلية تتبع نفس الجهة التي تشرف على المدرسة، أربع سنوات قضاها على مقاعد الدراسة الجامعية، شكلت له آفاقاً للمعرفة واكتساب الصداقات النوعية الخاصة، والكلية كانت تجمع بين الجنسين، لذلك فصداقاته أيضاً كانت متنوعة، برز عبد الرحمن في النشاطات الثقافية بشكل لفت أنظار المربين، ميوله الأدبية كان لها شأن منذ العام الأول في مقاعد الدراسة، حتى أن نشاطاته تجاوزت حدود الكلية إلى الصحف المحلية..

في البيت، لم تكن له هموم تذكر، هاجسه الوحيد، الانكباب على تحصيل العلم ما أمكن، لم تكن له أصدقاء بالمعنى المغلق، أما علاقاته مع اشقاءه فقد كانت على أحسن حال، فالعائلة متماسكة إلى حد كبير..

لأخوته أحلام وطموحات مختلفة، الكبار، وهم اثنان، يعملان مع الأب في مجال التجارة، أما الثالث فكان يحلم بالسفر واكتشاف العالم الرحب، والأيام تمضي رتيبة، يكبر الجميع بسرعة، وعبد الرحمن، ومنذ العام الجامعي الأول، أحس بجفاف المادة التي يتعلمها، لكنه لم يشأ التغيير بسبب أستاذ كبير أختارها له، لم يكن يملك سبباً مقنعاً للتغيير، استمر في هذه المادة حتى أكملها، لقد آن الأوان ليخوض تجربته في الحياة، هكذا قال له أستاذه يوم أن تخرج من الكلية..
يمتلك عبد الرحمن ومنذ طفولته، نزعة استقلالية كانت تسبب له الإرباك أحياناً، وعندما تخرج من الجامعة، قرر أن يجد عملاً لنفسه رغم أن والده عرض عليه إكمال تحصيله العلمي للحصول على درجات أعلى في مجاله، اتيحت له فرصة العمل في التعليم، وبدلاً من أن يعين ضمن اختصاصه، عين مدرساً لمادة التاريخ، مما شكل له إحراجاً وإحباطاً في آن، تعامل مع المادة الجديدة دون أن يظلم طلبته، كان مدرساً مثالياً، أحبه طلبته لأن أسلوبه كان ذا طابع خاص، فهو يتعامل مع مادة التاريخ بلمسات أدبية سكنته في كل صفحة من صفحات الكتب والمراجع التي اقتناها بكثرة ليغني ثقافته في هذا المجال،الشيء الوحيد الذي شكل له عزاء وأغراه بالاستمرار في العمل، هو إشرافه على جميع الأنشطة الثقافية والأدبية في المدرسة التي يعمل بها، مما مكنه في دخول تجربة جديدة سمحت له بعد عامين من الممارسة إلى الانتقال إلى عالم الصحافة الواسع، استقال من وظيفته كمدرس، والتحق بالعمل في صحيفة محلية بالمدينة نفسها، بهرته الصحافة بادئ الأمر، ثم اكتشف صعوبة التعامل مع هذه المهنة في ظل قوانين الرقابة الصارمة التي وضعتها الدولة، الرقيب المكلف، كان مقيماً في الصحيفة، شاهراً مقصه خلف كل كلمة، وعبد الرحمن، لم يسبق وأن نشر له مقالاً كاملاً، بل إن مقالاته وبعد وقت قصير، منعت من النشر، شعر بعداوة داخلية للرقيب، لم تكن هذه العداوة تكمن في شخص الرقيب نفسه، وإنما نشأت بسبب العمل الذي يقوم به، لكنها وبمرور الأيام، شكلت جفاء وبعدها كان لابد وأن يسفر عن صدام، وهو الأمر الذي لم يستمر طويلاً، فقد حدث ما كان متوقعاً بين عبد الرحمن والرقيب، مشادة صغيرة حول أسطر قليلة، وكانت المواجهة، والنتيجة، الاستغناء عنه في العمل، ليس في نفس الصحيفة وحسب، وإنما في العمل بالصحافة بشكل عام..

بدأت طموحاته بالانهيار، لكنه لم يستسلم، أصبح يتردد على مقهى يرتاده العاملون في هذا المجال، كان يجاهر بعداوته لقوانين الرقابة ولأسلوب المكلفين بها مما لفت حوله الأنظار، تعرف على الكثيرين ممن كانوا يعانون من نفس الهاجس الذي يعاني منه، كانت السلطة تعرف ذلك، لكنها تعتبر أن هذا المقهى لا يشكل خطراً فعلياً عليها، بل هو ملتقى لتنفيس ما في الصدور وحسب، أصبح مدمناً على الجلوس هناك، النقاش بصوت مسموع، المواضيع تناقش بشجاعة وجرأة، الحريات العامة، الرقيب، مفهوم الديمقراطية، المساواة، وغير ذلك من هواجس المثقفين أمثال عبد الرحمن، لكن الفعل، كان غائباً بالتأكيد.

تعرف عبد الرحمن على شاب من نفس المستوى والسن، يعاني من الهواجس ذاتها، يدعي وليد، كان بارعاً في الحديث والنقاش، يمتلك تجربة طويلة في مجال المحادثة، نمت بينهما صداقة متينة، القواسم المشتركة التي تجمع بينهما عمقت هذه المسألة، أصبحا نادراً ما يفترقان، الاثنان كانا عاطلان عن العمل بمفهومه الوظيفي، كذلك كانا من نفس المحيط والمستوى الاجتماعي، ذات مساء، وبين شؤون وسجون الحديث الذي لا ينقطع في دائرة المقهى،
قال وليد:

على المرء أن يكافح من أجل التغيير، فالحوار وحده لا يكفي..
كانا منفردين، والوقت مبكر على وصول الآخرين، أجاب عبد الرحمن:
كيف؟ إنك ترى أن القبضة الحديدية تكاد تمسك بخناقنا، إننا محاصرون رغم حواراتنا هذه.
نتفاعل ونتخد مع من يكافح من أجل ذلك، حيث النوايا واحدة، كذلك الهدف.

لكنهم كما ترى يكافحون عبر مقاعد المقهى كما نحن!
لم أقصد هؤلاء، هنالك من يعمل حقاً من أجل ما نصبوا إليه..
من تقصد؟

هل تحب أن تعرف؟

أجل

إذن، لننتظر حتى تنتهي الجلسات المعتادة..
تعني حتى يحين الليل!
أجل
كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة والنصف ليلاً حين انفض القوم، خلا المقهى من رواده، ظلا جالسين في نقاش طويل حتى انتصف الليل تقريباً، عند ذلك، نهضا متجهين إلى ساحة المدينة حيث موقف الحافلات.
عبد الرحمن بدا متوتراً، قال وليد محاولاً كسر هذا الأمر!
أتدري بأننا أخوة بكل معنى الكلمة؟
كيف؟

ألم نأكل من طعام صنعته امرأة واحدة؟ وبطبق واحد؟
أجل
إذن فنحن أخوة، هكذا الحياة.
ابتسم الاثنان، ثم واصلا السير حتى موقف الحافلات، كانت حافلة تستعد للانطلاق، إنها لضاحية تبعد حوالي العشرين كيلومترا، صعدا، سارت الحافلة حتى طلب وليد من السائق التوقف، نزلا، تلفت عبد الرحمن حوله، كانت المنطقة تكاد أن تكون خالية من البيوت، إذ هي منطقة ريفية، فهم سبب فراغ الحافلة من الركاب، انتبه وليد إلى ذلك، أفهم عبد الرحمن أن المنطقة تكاد تكون غير مأهولة، ثم إنهما نزلا قبل المكان المحدد بمسافة قليلة حتى يستخدما طريقاً فرعياً توخياً للحذر.

إذن فالجماعة سرية النشاط!
أجل.. هي كذلك.

سارا عبر المزارع مدة قصيرة، حين ظهر بيت كبير، بدا من الخارج وكأنه مهجور، أشار وليد إلى البيت قائلاً:
ها قد وصلنا أخيراً
المنزل تغطيه الأشجار من كل جانب، مظلماً إلا من نافذة تقع في الطابق العلوي، ورائها رجل تحرك عندما رآهما يقتربان، اخترقا الطريق المؤدي إلى المدخل، لاحظ عبد الرحمن أنه متصل بالطريق العام، مرت في تلك اللحظة عربة أضاءت المكان لبرهة ثم اختفت.
قبل أن يقرعا الباب، كان قد فتح بمجرد وصولهما، فالرجل الذي كان خلف النافذة نزل لاستقبالهما، ووليد يعرف الرجل، ولجا إلى البهو الكبير، قابلتهما قاعة واسعة، احتوت على مقاعد أكثر مما تتسع بالعادة، بينما زينت جدرانها بلوحات تمثل شخصيات تاريخية، ومعارك وغزوات قديمة، والمقاعد كانت شاغرة في معظمها، أما حركة الجالسين عليها، فقد دلت على أنهم كانوا يتناقشون بحرارة، لكنهم توقفوا عن النقاش حين دخل الاثنان برفقة رجل النافذة.
لم يتبين عبد الرحمن في بادئ الأمر شخصية الموجودين، لكن ملابسهم كانت تدل على أنهم من النوع الذي لا يفارق الزي الرسمي، كأنهم رجال دولة.

السيد عبد الرحمن، هكذا قدمه وليد إلى القوم ثم أضاف:
لقد تحادثنا بشأنه سابقاً، وعدتكم بإحضاره معي، إنه هنا كما ترون، هز الجميع رؤوسهم دون أن يتفوهوا بكلمة، لكن رجلاً كان يجلس في المقعد الذي يقع وسط القاعة، تبسم لعبد الرحمن مشيراً إليه بالجلوس على مقعد كان فارغاً بجانبه.

جلس عبد الرحمن يتفرس في وجوه الجماعة، حين دخل رجل يحمل أكواباً من الشراب، هم بتقديمها، لكن جلبة كبيرة انطلقت فجأة، تبعها إطلاق بضعة رصاصات، ثم هرولة وصراخ وتحطيم أبواب.
كل ذلك، ترافق مع صوت هدير سيارات ضخمة، وركض في كل اتجاه.

ارتطم جسم ثقيل بالباب الخارجي، فانفتح على مصراعيه، ثم اقتحمت المكان مجموعة من الجند المسلحين بالبنادق، أحاطوا بالقاعة، ثم دخل آخرون ووقفوا خلف المقاعد وسط دهشة الحاضرين الذين لم يستطيعوا الحركة بعد أن أخذوا بالمفاجأة، تقدم ضابط كبير، دار حول الجمع، حدق بهم واحداً إثر الآخر، ثم سار مختالاً حتى وقف في الوسط.
نظر عبد الرحمن إلى وليد، فوجئ بأنه ينظر إليه بريبة واضحة، كذلك الآخرون، أشار الضابط إشارة إلى الجند، فاقتادوا الحاضرين إلى خارج المنزل بعد أن وضعوا القيود في أيديهم بما في ذلك رجل الشاي.

تقدمت عدة شاحنات وزع عليها الرجال، ثم ركب الضابط عربة خاصة سارت أمام الشاحنات التي انطلقت إلى مكان مجهول.
الصمت، كان يلف الموقف تماماً.. النظرات كانت تنصب نحو عبد الرحمن، محدثة في عقله إرباكاً وألف سؤال، شعر بسياط نظراتهم تلسعه من كل جانب، ثم برغبة كبيرة للصراخ، خفق قلبه بشدة، هل يمكن أن يظنوا بي السوء، تذكر أن الضابط صديق لوالده، لكن ما علاقة ذلك بما حدث، لا، ليس معقولاً، كان يتساءل بصمت ثم يجيب.
ولكن، لم هذه النظرات؟ يكادون أن يقتلوني!

تماسك حتى ينجلي الأمر، استبعد كل الظنون التي كانت تعصف برأسه..
أنني لا أعرفهم، إنها المرة الأولى، أتراهم خطرين إلى هذا الحد، لقد قال لي وليد أنه جاء بي للمشاركة في حوار، يا ألهي.. ماذا فعلت بنفسي؟

أسئلة كثيرة، والشاحنات تسير دون توقف، المسافات بدت ثقيلة وباردة، والصمت يزيد البرد، فالطريق طويل، تعرجاته إلى مالا نهاية، وهو غير معبد وهكذا انقضى وقت طويل قبل أن تتوقف الشاحنات أمام قلعة كبيرة، هذه القلعة أقيمت على تلة مرتفعة نسبياً كحصن منيع، يحاصرها سياج عريض يتكون من خطين إسمنتيين، تزنرها الأسلاك الشائكة، تذكر عبد الرحمن أنها القلعة، ذلك السجن الرهيب، لطالما سمع عنها، بل إنه رأى صوراً لها عندما وصل إلى الصحيفة تقرير عن التعذيب وحقوق السجين، هذا التقرير الذي لم ير النور، كان يحتوي على معلومات أقرب إلى الخيال، فالوسائل المستخدمة داخل هذا السجن، تذكر بالقرون الوسطى ومحاكم التفتيش التي قرأ عنها، لقد ابتدع القائمون عليها وسائل رهيبة ضد البشر، شعر بقلبه يكاد يقفز من مكانه، انحبست أنفاسه، أحس بضيق شديد أغمض عينيه متجنباً نظرات القوم، ثم فتحهما وهم ينزلونه من الشاحنة.

اقتيد الجميع إلى الداخل، كانت ممرات القلعة تعج بالجنود، الوجوه القاسية سمة من سماتهم، كأنهم خلقوا من تراب القلعة، أو نحتوا من صخورها، الظلام، كان شديداً جداً، فالممرات مضاءة بالكاد، لم يتبين ملامح القلعة جيداً من الداخل، يعرف أنها بنيت من صخور الجبال البعيدة منذ عهد قديم، اقتطعها السجناء الذين كانوا يساقون إلى العمل كالعبيد، استغرق بناؤها عدة سنوات، كما قتل فيها من العمال أكثر مما استخدم لبنائها من حجارة، هكذا قرأ عنها، تخيلها قبل أن يراها، إنه بداخلها الآن، لم يتمنى ذلك أبداً.
وصل الجميع إلى ساحة داخلية مستديرة، حولها،لاحظ ان هناك مدرجات دائرية أيضاً تتسع للآلاف، تذكر الساحات التي كان البشر يدفعون إليها لمصارعة الحيوانات المفترسة وسط تهليل الجماهير.. الجماهير، أجل.. أمرهم الضابط بالوقوف في طابور مزدوج، وعبد الرحمن وقف في آخر الطابور الأيسر، دار الضابط حولهم دورة كاملة، كمن يتفقد سرية جند، أشار إشارة بيده، فأمرهم جندي بالتقدم، كان يسير أمامهم وهم يتبعونه، اجتاز باباً قابله مباشرة، ثم عرّج على ممر جانبي والطابور خلفه، حتى قارب الطابور على الانتهاء، عندها تقدم الضابط وأمسك بكتف عبد الرحمن موقفاً إياه، وعندما اختفى الطابور داخل القلعة، أشار له أن يتبعه، سار خلفه حتى وصلا إلى باب القلعة الرئيسي، توقف الضابط قرب العربة التي أتى بها، ثم فتح الباب الذي يقع قرب السائق مشيراً إلى عبد الرحمن بالصعود، همس في أذن السائق ببضع كلمات، اندفع بعدها السائق بعربته عائداً نحو الطريق المؤدي إلى المدينة.

تجلد... انه البحر!!

في حكاياته..ثمة عاشقين!!

المسافة إلى المدينة كانت أقرب عبر الطريق الرئيسي مما هي عليه لدى استخدام الطريق الذي سارت به الشاحنات، والعربة التي كانت تسير بسرعة كبيرة بدأت تهدأ رويداً رويداً، سأل عبد الرحمن السائق عن وجهته فأجاب:

لقد أمرني سيدي أن أقلك إلى ساحة المدينة حيث موقف الحافلات
لماذا؟
ضحك السائق قائلاً:
لماذا؟! لقد انتهت مهمتك يا سيدي، كانت ناجحة جداً، تصور أن سيدي الضابط، لم يكن يغمض له جفن بسبب هؤلاء الأوغاد، لطالما سمعت الرؤساء وهم يؤنبونه ويتهمونه بالتقاعس، وأحيانا بالفشل، لقد ارتاح الآن، تصور أن الترقية العسكرية حجبت عنه عدة مرات بسببهم، قهقه عالياً ثم داس على المكابح، توقفت السيارة، فيما ارتطمت رأس عبد الرحمن بزجاجها الأمامي.

أهنئك على ما فعلت، لاشك أنك ستنال ترقية مزدوجة، أرجو أن لا تنسى صديقك السائق "مشيراً إلى نفسه" ثم سار من جديد..
لم يفهم عبد الرحمن شيئاً من الحديث، لقد توقف عقله عن العمل تماماً منذ أن هنأه السائق على فعلته، مشوش الفكر كان، تائه النظرات..

ماذا فعلت، هل حقاً ما يقوله هذا الثور؟ هل وهل..؟ ولا جواب..
سرح بتفكيره حيث المقهى واللقاءات هناك، الرقيب، العائلة، الناس.
ماذا سيقول لهم؟ نظرات الجماعة إليه، كلها كانت تشير إلى اتهامه، لماذا تركني ذلك الضابط؟ ماذا سيقول لوليد؟ لكن السائق توقف فجأة، أطفأ المحرك، نزل من السيارة واستدار إلى ناحيتها الأخرى، فتح الباب لعبد الرحمن وهو يقول:

وصلنا سيدي، لا تنسى، أهنئك مرة أخرى وانحنى مودعاً، لكن عبد الرحمن لم يكن يعي ما يقول الرجل، نزل من السيارة والدهشة تعتريه، دهشة كانت ممزوجة بالخوف والألم معاً، ازدادت حين أفسح له الناس ممراً ليصعد إلى الحافلة التي ستقله إلى البيت، سائق الحافلة أيضاً، انحنى له بالتحية، قاطع التذاكر، رفض ثمن التذكرة، ما الأمر؟
سارت الحافلة باتجاه البيت، تنبهت كل حواسه باستفزاز، نظر إلى ركاب الحافلة، كانوا يبتسمون له ابتسامات مليئة بالتودد المزيف، وحين وصل إلى الموقف المجاور للبيت انسل من الباب الخلفي للحافلة، ثم اجتاز الطريق عدواً حتى ينتقل إلى الرصيف الآخر رغم خلو الطريق من السيارات، دخل المنزل، كان الوقت قد قارب الفجر، رأى غرفة الصالة مضاءة، اتجه إليها، رأى والده بالانتظار.
لقد قلقت عليك، أين كنت؟
كنت عند صديق، قالها عبد الرحمن متلعثماً!
 أهو وليد؟
 لا.. صديق آخر..
 قال الوالد:
 اسمع يا عبد الرحمن،أعرف أنهم قبضوا على الجماعة، لا تستغرب، لقد تركوك لأنك ولدي، هل تفهم؟ إن ذلك الضابط سينال ترقية مقابل ذلك، لقد حدثني بالأمر قبل انطلاق الجند إلى الجماعة، كنت أعرف بأن ما حدث واقع لا محالة، فقد حدثني الضابط عن ذلك قبل أيام، كانوا تحت المراقبة، لم أخبرك بالأمر ظناً مني أنك بعيد عنهم، لم تقل لي من قبل أنك منتظم مع جماعة أبداً.. ما علينا، ما حصل قد حصل، قال لي الضابط أنكم كنتم تخططون للاستيلاء على السلطة، أتدري معنى ذلك؟ أنك محظوظ، فلو كلف ضابط آخر بالمهمة، لكنت الآن مع أصحابك هناك، قل شيئاً، لماذا لا تتكلم؟ على كل حال، نحمد الله على سلامتك..

لم ينتظر عبد الرحمن حتى يكمل والده، كان الأمر واضحاً تماماً.
إذن.. فنظراتهم لي كانت تحمل الاتهام فعلاً، حدّث نفسه، ثم انطلق إلى غرفته، جلس على حافة السرير، واضعاً رأسه بين يديه واستغرق في تفكير متصل، غاص في تفاصيل الأيام التي سبقت هذه الليلة الرهيبة.
لم ينتبه عبد الرحمن على نفسه إلا حينما دخلت والدته الغرفة، كانت تحمل شراباً ساخناً، بينما ظل على وضعه، تطلع إلى ساعته، كانت تشير إلى التاسعة، نظر من النافذة، رأى النهار قد اكتمل منذ ساعات..

آه، لم أنم بعد!! لكنه نهض من على حافة السرير وانطلق باتجاه الباب الرئيسي مغادراً أمام نظرات والدته الحائرة، وفي الطريق، تناول صحيفة الصباح من بائع متجول، بينما كان البائع يصرخ بأعلى صوته – معركة بين الجيش وطابور من العملاء، استفزه صراخ البائع، لكنه غرق في قراءة العناوين دون أن ينتبه إلى البائع وهو يرد له باقي نقوده..
العناوين، كانت بارزة بشكل ملحوظ على غير عادتها، وجميعها يتحدث عن معركة جرت بالأمس، انتقل إلى التفاصيل، فإذا بها مليئة بأخبار معركة وهمية، لكن ما لفت نظره هو ما قيل عن ذكاء رجال الدولة الذين زرعوا عميلهم داخل المجموعة التي ألقي القبض عليها، إضافة إلى كل ذلك فإن صور المنزل الذي تم مداهمته قد وضعت هي أيضاً على الصفحات الأولى للصحيفة، المهم أن الأخبار جميعها كانت ملفقة وغير صحيحة، لكنها كتبت بشكل مقنع، ما أقسى هذا الوطن، قالها عبد الرحمن حين قرأ ما بداخل الخبر، أن العميل الذي ارشد إلى هذه المجموعة هو من أبناء الوطن المخلصين، وما أتعس أبنائه، أردف قائلاً، أسرع في مشيته، تطلع حوله، أحس أن كل المارة يتطلعون إليه باتهام واضح، هرول مسرعاً حتى وصل إلى مبنى الصحيفة التي نشرت الخبر، كانت هي نفس الصحيفة التي كان يعمل بها، لكنه لم يصعد إلى المبنى، فقد خطر له خاطر فجائي جعله يحول وجهته باتجاه موقف الحافلات، صعد إلى حافلة الأمس ذاتها التي كانت تتهيأ للانطلاق، يا للصدفة، كأنها كانت بانتظاره، كان إحساسه يؤكد أن كل ما كتب في تلك الصحيفة ليس سوى أكاذيب، ولكن من يدري، ربما حدثت معركة بعد أن تم إلقاء القبض على من كانوا في ذلك المنزل، ربما مع أنصارهم، أو لعل بيوتاً أخرى قد دوهمت، أسئلة كثيرة، بينما كانت الحافلة تكاد أن تصل إلى نفس المكان الذي كان بالأمس مسرحاً لما حدث، تطلع عبد الرحمن من النافذة، كانت مجموعة من الجند تقف على المدخل الترابي للبيت، بينما لا توجد آثار لأية معركة، لم يترجل من الحافلة، انتبه فجأة إلى حديث السائق وهو يردد ما كتبته الصحيفة مضيفاً أن عدة قتلى قد سقطوا هناك.
هنا حدثت المعركة!!

يا للمهزلة، كل شيء معد تماماً، أي غباء هذا، لا أثر لمعركة أو حتى لعراك، ظل جالساً على كرسيه في الحافلة حتى أكملت دورتها وعادت إلى وسط المدينة، استغرب السائق مكوث عبد الرحمن بها، لكنه لم يسأله عن السبب، فربما كان من الشرطة أو رجال الأمن، المهم، أن عبد الرحمن نزل عندما توقفت الحافلة من جديد، انطلق مجدداً إلى مبنى الصحيفة، دخل إلى هناك، كان يريد أن يعرف الحقيقة، لكنه ما أن دخل المبنى حتى قابله عامل المقهى قائلاً:

انتظر أيها السيد، ماذا تريد؟
فوجئ عبد الرحمن بالأمر، فالرجل، يعرفه جيداً، قال:
أنا عبد الرحمن، يبدو أنك نسيتني!!
انتظر هنا، ماذا تريد؟
حسناً، أريد رئيس التحرير، أو أي زميل آخر..
زميل!! قالها عامل المقهى بسخرية، غاب ليعود بعد لحظات قائلاً:
ليسوا هنا.. أيها المخلص للوطن!!
انتبه عبد الرحمن إلى الأمر، إذن، فالكل يعرف أنه كان هناك، ولكن.. كيف؟ تذكر أن أحد رجال الشرطة يتعاون مع الصحيفة كمخبر مقابل مبلغ من المال، استدار نحو الباب، لكن العامل استوقفه قائلاً:

أنصحك بعدم العودة إلى هنا، لا أحد يريد رؤيتك.
كانت أعصابه مشدودة إلى نهايتها، متوترة إلى أقصى الحدود، أحس بأنه ينهار رويداً رويداً، وفجأة، انتابته نوبة من الصراخ، وبشكل لا إرادي بدأ بشد شعره وهو يصرخ:

لست أنا.. أنا لست مخلصاً للوطن.. مكرراً هذه الجملة دون توقف..
تجمع من في المبنى حوله، تطلع إليهم قائلاً:
كلكم هنا إذن، لا تريدون رؤيتي! لكنني أقسم أنني لم أكن واشياً، صدقوني، لست أنا..!

تفرقوا من حوله، عاودته نوبة الصراخ، انطلق عبر الشارع متجهاً إلى الرصيف الآخر وهو يصرخ بنفس الكلمات..
أنا لست مخلصاً للوطن.!
هوى على الأرض فجأة، اقترب منه زميل قديم، أشفق على حالته، توقفت سيارة مارة بقربهما، نزل السائق وتعاون مع زميل عبد الرحمن في نقله إليها، وعندما تم ذلك اتجهت السيارة إلى منزل عبد الرحمن بعد أن أشار زميله إلى السائق مرشداً إياه للطريق..
عندما دخل عبد الرحمن إلى البيت، لم يتحدث إلى أحد، اتجه مباشرة إلى غرفته، لكن والدته تبعته إلى هناك، قال لها إنه تعب، يشعر بحاجة للنوم، توسل إليها أن تتركه، وأن لا يوقظه أحد..
استعاد عبد الرحمن هدوئه بشكل مفتعل، ثم أبدل ملابسه ودلف إلى الفراش، وعندما وضع رأسه على الوسادة، لاحظ أن سقف الغرفة يكاد يهبط عليه، عيناه، كانت مفتوحتان على آخرهما تحدقان في السقف، أحس بمن يغلقهما له، رأى أنه عاد إلى موقف الحافلات، استقل الحافلة التي تقوده إلى ذلك البيت ترجل منها أمام الطريق الترابي مباشرة، كان الجنود مازالوا هناك، رحبوا به ترحيباً مبالغاً فيه، لكنه لكم أحدهم فصرعه في الحال، تناول البندقية الآلية التي سقطت منه، هرول باتجاه البيت حيث القاعة، كان الجميع هناك، أطلق النار، سقطوا واحداً تلو الآخر، لكنهم كانوا ينهضون من جديد، أطلق النار مجدداً، أحس بأنهم يرفضون الموت، اتجه حيث الجند، أطلق النار عليهم، سقطوا، ثم نهضوا من جديد، هم أيضاً يرفضون الموت، إنه الصراع المستمر، قائماً ما دام هنالك جند ورافضين ومعارضين.

تذكر أن الصحيفة تحدثت عن قتلى، أطلق النار مجدداً، أحس بمن يشده من شعره، إنه الضابط، كان يقف خلفه ممسكاً به، التفت إليه، أمسك به من ساقيه، ثم رفعه ولوح به بقوة في الهواء، ألقاه بعيداً، ضغط على زناد البندقية، لكنها لم تطلق الرصاص، لقد فرغ منها، سمع الضابط وهو يقهقه بصوت عال، ثم رآه ينهض عن الأرض وقد تغيرت هيئته تماما، إنه ليس الضابط، إنه وليد، صديقه، إنه يطلق النار على صديقه، ولكن!! أين ذلك الضابط اللعين، كان وليد يضحك هو أيضاً، تقدم من عبد الرحمن، أمسكه من يده بعد أن انتزع منها البندقية، تقدم به نحو القاعة حيث القوم مازالوا هناك، تطلعوا إليه بعتاب غاضب، صرخ بأعلى صوته!

لماذا لا تموتون!؟

التفت إلى وليد:
لقد قتلتهم!!
أحس بصديقه يحاول أن يضمه إلى صدره، لكن شيئاً ما، يقف حاجزاً بينهما، فتح عينيه، فإذا بوالدته تحاول تهدئته، رآها وقد أمسكت بكتفيه وضعت رأسه على صدرها، أما وجهها فقد ملأته الدموع، كان يلهث تعباً، قال لوالدته:

تصوري.. لم يُقتلوا رغم الرصاص الذي أطلقته عليهم..
قالت له أنك كنت تحلم، أحضرت له كوباً من الماء، لكنه أصر على أنه قتلهم جميعاً، ربتت على رأسه، بدأ يعود إلى هدوئه تدريجياً، هدوءا مصحوباً بثقل في العينيين، دقائق، ثم غاب في نوم عميق..

الموحشة.. ذات الأقواس!

"آفة العقل.. النسيان!

..إنها محاولة فاشلة، فالذاكرة، تخبئ ثم تبوح.."

عاد والد عبد الرحمن مساءً، تناول مع العائلة طعام العشاء، لكن عبد الرحمن لم يشارك كعادته، أما أخويه، فقد خرجا بعد ذلك للسهر مع الأصدقاء كما اعتادا..

الأول، كان يهوي لعب الورق، أما الثاني، فقد كان يسهر في بيت خطيبته حتى وقت متأخر، كانت فتاته مازالت تواصل دراستها الجامعية، وعليه أن ينتظر حتى تكمل ذلك، وبعدها يتم الزواج، هكذا كان الاتفاق..

قالت الوالدة بعد أن خرجا:
إن حالته ليست على ما يرام، "مشيرة إلى غرفة عبد الرحمن" كان يهذي طوال اليوم، أشعر أنه بحاجة إلى طبيب، لم يتناول طعاماً منذ الأمس، أشار إليها زوجها مطمئناً:

سيتعافى بإذن الله، علينا أن نوزع الخبز على الفقراء لأنه لم يقتل في معركة الأمس، لقد كان هناك..

تمتمت المرأة بابتهالات خاشعة، رافعة يدها إلى السماء، بينما اتجه الوالد إلى غرفة عبد الرحمن..

كان الأخير قد استفاق من نومه، اعتدل في جلسته على السرير عندما رأى والده، بدا هادئاً رغم آثار الإرهاق الشديد عليه، حياه الوالد، ثم جلس بقربه على حافة السرير، تحادثا في أمور كثيرة إلا ما حدث، كانت والدته قد أحضرت لهما الشاي، شرباه معاً، بدا كأن الوالد يحس بالرضا خاصة وأن عبد الرحمن لم يثر معه ما حدث بالأمس..
الرضا.. لم يدم سوى لحظات، إذ أن الوالد، انتفض كمن لسعته أفعى عندما طلب منه عبد الرحمن أن يتوسط له عند ذلك الضابط لرؤية صديقه وليد، قال:
ألم يكفك ما حدث؟ ألم تتعلم الدرس بعد؟ ألا تعرف أن وضعك يختلف عن وضع صاحبك؟ قلت لك أنه متورط وجماعته في مشاكل كثيرة، دعك مما تفكر ولا تكرر مثل هذا الطلب..
لكن عبد الرحمن توسل إلى والده، كاد أن يبكي، والوالد أصر على أن ذلك الطلب لن يجد قبولاً لدى صديقه الضابط، لكنه إشفاقا منه على ولده وعده بأن يحادث الضابط بالأمر، لكنه لا يرجو خيراً من ذلك..

والأيام.. تمر..

وعبد الرحمن يلح على والده بالأمر، والوالد يختلق الأعذار، مرة له، ومرة أخرى للضابط، كان هذا الأمر مهماً لعبد الرحمن، ذات ليلة صرخ في وجه والده.

لماذا تركتهم يخرجونني من المجموعة، أتمنى لو أنني معهم في السجن، إن الجميع ينظر إليّ بازدراء.. ليتني مت.
وجاءت المناسبة، كان الضابط قد جاء لزيارتهم في البيت، والوالد تحدث معه برغبة عبد الرحمن الذي بدأ يفقد من صبره وصحته الكثير، ودونما مقدمات، تحدث الضابط بالموضوع مباشرة وهو يتناول الشاي مع الوالد، قال إنه سيجد طريقة ما لإرضاء عبد الرحمن، ولكن ذلك سيكون لمرة واحدة، وهذا مكلف أيضاً، إنه بذلك سيخاطر بمركزه، لكن صداقته للوالد شيء مهم جداً.. هكذا قال.
تهلل وجه عبد الرحمن عندما سمع ما قال الضابط، لقد لاحت الفرصة أخيراً، إنه يريد أن يثبت براءته لوليد، لقد بدا الأمر مهماً، وعليه أن يستعد لليوم الموعود.
لكن الضابط، أشار إليه بأن الأمر يحتاج إلى قليل من الصبر، لأنه ذلك سيحدث بشكل غير رسمي أو قانوني، دون إجراءات، هكذا خلسة وعلى مسؤولية الضابط نفسه، قال الضابط، إنه سيأخذه إلى هناك، إلى السجن الكبير، بحيث يستطيع رؤية صديقه لمدة نصف ساعة، ثم يعودان معاً، إنها مخاطرة..

وكان على عبد الرحمن أن يقنع بالانتظار، حين قال له الضابط:
لندع الأمر الآن، سأرسل لك سائقي الذي أقلك في تلك الليلة، إنه يعرفك، ثم نذهب سوياً.

ليس بالأمر حيلة، كان على عبد الرحمن أن ينتظر، كان يشك أحياناً في وعد الضابط، لكن رغبته في رؤية صديقه وليد أعطته شيئاً من الأمل..

كان يعاني معاناة شديدة، لم تفارقه كوابيس تلك الليلة الرهيبة، كان يحس أنه لو خرج من البيت، ربما سيقتله الناس بنظراتهم، ظل ملتصقاً بغرفته، حاول التسلي بالقراءة، لكنه لم يستطع، أحضر له أخاه الكثير من التسجيلات الموسيقية، ورغم أنه فوجئ بما آلت إليه حالة أخيه من تحسن في اختيار موسيقاه، إلا أنه لم يستطع تذوق تلك التسجيلات، .......... وكأنها مجرد لهو وعبث بالنسبة إليه.

وأخيراً.. وبينما كان عبد الرحمن يجلس في صالة البيت، فوجئ بدخول والده بصحبة الضابط، تهلل وجهه فرحاً.. إذ أن الضابط تطلع اليه بنظرة تدل على أنه قد جاء ليفي بوعده.. طمأنه الأخير بأن يوم الغد، سيكون موعداً للزيارة التي وعده بها..

وبالفعل حضر السائق في اليوم التالي، كان نفس السائق الذي اقله في تلك الليلة، كان السائق سعيداً إذ التقى به مرة أخرى، لكن عبد الرحمن لم يكن سعيداً لهذا اللقاء، ولكنه مجبر على إظهار سعادته، حتى يحقق ما أراد.

كانت الصورة الرهيبة التي تركتها تلك الليلة، مازالت ماثلة في ذهنه، والأسئلة تتلاحق مسرعة تتهيأ للمقابلة.. ماذا سيقول.. وهل يمكن أن يقتنع صديقه بما سيقول.. حاول ترك الأمور تهدأ في رأسه، لكن لا فائدة.. ظلت هكذا حتى توقفت السيارة أمام بوابة السجن..

رآه في وضح النهار لأول مرة، كان كجبل جليدي وسط صحراء.. ورغم حر الصيف، كان السجن بارداً عندما دلف إلى داخله..
المكان مقفر تماماً حين توقفت السيارة في الساحة الداخلية، الساحة المستديرة تلك.. نفس العقلية القديمة، البشر تصارع الوحوش هنا، لكن النظارة الآن هم المساجين الذين يقبعون حول هذه الساحة، إنهم لا يرون ماذا يحدث.

حول الساحة، كانت أقواس مستديرة تلتف من كل جانب، خلف الأقواس ظهرت نوافذ كثيرة، اصطفت جميعها على نفس النسق، الحديد الذي يغطي النوافذ كان كالوحوش التي رآى صوراً عنها في كتب العلوم والتاريخ الطبيعي، تشبه تلك الوحوش المنقرضة، صدأ يميل إلى اللون البني الباهت، مدببة الرؤوس في أعلاها كالعظام التي كانت قديماً على ظهور الزواحف العملاقة، غليظة من الأسفل كالأقدام.
النوافذ تلتف حول الساحة من كل اتجاه، تقطعها عدة أبواب ضخمة من الوسط، أما فوق الأقواس، فالصورة مختلفة تماماً، بناء حديث، مربع النوافذ، حديدها جديد مطلي باللون الأزرق.

أشار إليه السائق أن يتبعه، اجتازا بابا كبيراً علقت عليه سلاسل قديمة يبدو أنها كانت تستخدم لرفع الباب على طريقة الجسور، أما فوق الباب فهنالك لوحة نقشت بخط جميل كتب عليها عبارات تهنئة من المساجين لرئيس الدولة بمناسبة الوصول إلى السلطة، سارا مسافة طويلة في رواق متعرج من الداخل.. لاحظ أن النوافذ الداخلية مغلقة بالحديد أيضاً، رغم أن من بداخل الغرف التي فتحت لها هذه النوافذ هم من موظفي السجن، وصلا إلى باب صغير فتحه أحد الحراس بمفتاح كبير، محدثاً قرقعة أحدثت صدى داخل الجدران.

دلف من الباب، كان هذه المرة يسير لوحده، بعد أن ظل السائق خارج الباب، فإذا بباب آخر يؤدي إلى غرفة تبدو من الخارج وكأنها لا تتجاوز حجم الرجل الذي سيدخلها، لكنها من الداخل كانت واسعة مفصولة من الوسط بحاجز حديدي مغطاة بالشبك كأقفاص الدجاج، كانت الرهبة قد أحدثت انعكاساتها على وجهه، حتى أن حركاته وهو يسير كانت تفتقر إلى التوازن، عجب الحارس الواقف داخل الغرفة لذلك، قال مازحاً.. إنك لست السجين على أية حال..
لم يفهم عبد الرحمن المعني، كانت أعصابه مشدودة تماماً.. رهيفة للّحظة التي ستأتي بعد لحظات، كان هنالك وجه يطل عليه من بعيد، يتجه باتجاه الشبك الحديدي.. وجه كأنه الصق في جسد ليس له، وكأنه قناع صغير على رأس ضخم، كان الجسد نحيلاً جداً، أما الرأس فمنتفخ حتى أنه يحجب تفاصيل جمجمة الرأس.

وقف الرجل الآتي من الداخل قبالة عبد الرحمن، وجهاً لوجه كان.. عبد الرحمن ووليد، لا يفصل بينهما سوى شبك حديدي..
الحارس، ترك الباب الآخر الذي دخل منه وليد نصف مفتوح، لكأنه يخاف أن يختطف عبد الرحمن السجين رغم أنه يعلم أنه لا يستطيع لمسه حتى..

تلفت وليد حوله.. فرك عينيه، كان كمن يرى النور لأول مرة منذ ظلمات بعيدة، أغمض عينيه حين ارتطم رأسه بالشبك الحديدي، وعندما فتحتهما كان عبد الرحمن يحدق به غير مصدق أن ما يراه هو حقاً صديقه وليد..

بدا لعبد الرحمن، أن وليد لم يستطع أن يتعرف عليه، فقد أشاح بوجهه بعيداً، بان جرح حديث على خده الأيمن، كانت آثار الجرح لا تزال حديثة جداً، كأنها مخالب لوحش مفترس، اقتلعت الكثير من هذا الوجه، حتى شعر اللحية ، فقد امتنع عن المنطقة التي تقع حول الجرح، بينما نبت بغزارة في مناطق الوجه الأخرى.
صرخ عبد الرحمن دون أن يعي ما يفعل، وليد.. ألا تعرفني، نسي أنهما لوحدهما..
لكن الرجل لم يحفل به..
أنا أخوك بالطعام.. ألا تذكر.. ألم تقل لي.. أن أكل اثنان من طعام واحد صنعته امرأة واحدة، أصبحا أخوين حكماً؟ أنا عبد الرحمن..

والرجل لم يحرك ساكناً.. اكتفى بالتحديق..

لست جاسوساً.. الجميع يعاملني كذلك.. لكن أنت.. أنت تعرفني..
كان وليد يتفحص عبد الرحمن بدقة غريبة، دارت عينيه فجأة في كل اتجاه، بدا وكأنه يعد أزرار قميص عبد الرحمن، بل أكثر من ذلك كان كمن يعد شعر رأسه شعرة شعرة..

انهمر الكلام من فم عبد الرحمن غزيراً كالمطر، كان عن المقهى، الذكريات، شوارع المدينة، أحلام الغد.. كل هذا كان دون جدوى..
اقترب الحارس من وليد.. وقف إلى جانبه مشيراً إلى عبد الرحمن إشارة تدل على أن لا فائدة من هذا الرجل..
اطرق عبد الرحمن برأسه إلى الأرض، ثم رفعه قبل أن يسحب الحارس وليد قائلاً..

وليد.. أصحيح قتل الكثيرين منكم؟ إنهم يقولون هكذا.. كانت الجملة الوحيدة التي خرجت من فم وليد.. لاهثة خائفة..
لقد قتلنا جميعاً!

قالها.. واتجه إلى الباب الداخلي يسحبه الحارس، ثم أغلق الباب، أحس عبد الرحمن أنه قد يقع أرضاً إذا لم يتمالك نفسه، لحظات.. ثم عاد من حيث كان دخوله الأول.. اتجه إلى حيث السائق بانتظاره.. دون أن يتفوه بكلمة واحدة، سار إلى جانب السائق.. صعد إلى السيارة.. كان تائهاً تماماً حين سار السائق بسيارته مسافة إلى أن توقف أمام بيت عبد الرحمن، انتبه حين توقف السائق، فتح باب السيارة، واندفع إلى البيت، كان كمن عاد إلى قبره..

انقضت أيام طويلة.. وعبد الرحمن أشبه ما يكون غائباً عن الوعي، لم يغادر الفراش منذ أن عاد من ذلك المكان اللعين، يتطلع إلى كل من حوله بذهن شارد ومشوش، غاب النوم عن عينيه، كان كل فرد من أفراد العائلة قد وقع في دائرة هموم عبد الرحمن، إنه الآن يبدو وكأنه يعيش عالماً آخر.. اهتموا به اهتماماً فاق حدوده، لكن لا فائدة.. فالرجل لا يقاوم..

احضروا له الأطباء، قال الأطباء، أنه ليس مريضاً، زاره شيخ قالوا إنه رجل مبارك، بناء على نصيحة أحد الأصدقاء، صنع له تميمة وضعت تحت وسادته، وأيضاً دون جدوى.

ظل الحال هكذا لأكثر من خمسة أسابيع، كان عبد الرحمن موجوداً بجسده فقط، اقترح أحد المقربين من العائلة، أن يسافر مع أحد أخويه إلى الخارج، لكن ذلك كان يتطلب جهداً لإقناع عبد الرحمن بالأمر.. وهذا محال.. فهو لا يتحدث مع أحد، ولا يجب على أي سؤال..
بالكاد.. كانت والدته تجبره على تناول بعضاً من الحساء بين حين وآخر، تقول أن عصفوراً صغيراً يأكل أكثر منه.
ملابسه بدت عليه وكأنها لشخص آخر، قال أخاه ذات مرة، كأنه يلبس ملابس جده..
أصبح عبد الرحمن يشكل مشكلة رئيسية في البيت، لكنهم تعايشوا مع هذه المشكلة، والحياة بدأت تعود إلى طبيعتها، فالأب لا يستطيع ترك المتجر، كذلك الأولاد.

كان عبد الرحمن مازال على حاله، حين مرت امرأة عجوز أمام البيت، كانت والدته تكنس المدخل الرئيسي.. طلبت المرأة صدقة مقابل مساعدتها في تنظيف المدخل، وافقت الأم.. وعندما انتهت المرأة من إنجاز العمل، دخلت لتستريح بناء على طلب الأم التي دعتها إلى تناول كوب من الشاي..

كان حديث المرأتين قد تناول هموم الحياة ومتاعبها، باحث والدة عبد الرحمن بمرض ولدها.. قالت المرأة.. دعيني أراه...
أدخلتها إلى غرفة عبد الرحمن، قد تكون القشة التي يستنجد بها الغريق؟.. جلست على حافة السرير.
نظرت إليه ملياً.. ثم تناولت كفه.. تململ عبد الرحمن رغم مرضه، كان لا يؤمن بهكذا مسائل.. لكنها ظلت ممسكة بيده.. قالت أنها كوالدته.. استسلم للأمر..
قالت:
أيها الشاب.. ستتعافى بإذن الله.. فأمامك عمر مديد.
تقف بين خطين متوازيين، يتجها كلاهما إلى طريق واحد.. تعاني صعوبة من الاختيار، لكنك تختار أحدهما.. ثم تعدل.. ثم تختار وتعدل حتى يختفي واحد من الاثنين.. فتترك الثاني طواعية.
تمر عليك ثلاث أقمار عجاف.. ثم تبدأ مسيرة لست راغب فيها.. ثم تغير مسيرتك مرة أخرى.

تصبح كأنك ولد لغير أبيك، وتصادق من ليسوا من البشر، ترتاح إليهم، ثم تبتعد رويداً رويداً عن الماضي.. لكنه يعود إليك فجأة، يشدك كأنك تكفر عن سيئات لم ترتكبها، وخطيئة لم يكن لك دخل فيها..

كانت حواس عبد الرحمن تتابع حديث المرأة، بينما وقفت الأم لا تفهم مما يقال شيئاً.. كانت تبحث عن أمل ليس إلا.. ارتاحت فقط عندما قالت المرأة.. أمامك عمر مديد.. رفعت يديها إلى السماء بالدعاء.

نهضت المرأة، نقدتها الأم بعضاً من النقود، وصرة ملابس قديمة، نظرت إلى عبد الرحمن وقالت:
انهض أيها الفتى الشجاع.. ومضت.

ظهر على عبد الرحمن أنه أبدى اهتماما غير معهود في حالته لحديث المرأة.. جلس ونصفه مازال داخل الفراش، مستنداً على حافته، تهلل وجه أمه.. قال لها أنه يرغب في حمام ساخن، أشارت إليه بأنها مستعدة لتلبية كل طلباته، هرولت إلى الحمام.. أعدت كل شيء، كانت غير مصدقة لما حصل.. استحم عبد الرحمن، ثم اتجه إلى غرفة المطبخ.. قال أنه جائع.. كانت اللهفة الممزوجة بالفرح قد اصطبغت على وجه أمه.. بكت.. أرادت أن تزغرد.. توترت حتى أنها صارت تتحرك في كل الاتجاهات دون سبب ظاهر.

تناول طعامه بشهية.. ثم عاد إلى غرفته، قال لها..
سأنام.. أشعر برغبة ملحة في ذلك..

كانت كلمات المرأة ما تزال ترن في أذنيه، وصوتها الهادئ، الواثق مما يقول.. كان يستعيد حضوره كلمة كلمة.. لكنه مع ذلك يشعر فعلاً برغبة في النوم..

لقراءة كامل الأجزاء للرواية انقر أدناه

http://www.diwanalarab.com/rubrique.php3?id_rubrique=155


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى