السبت ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢
بقلم فيصل سليم التلاوي

بو شبكة

قررخليل السالم أن يغادر هذه البلاد التي أحبها حبًا جما، وتولَّه في خضرة جبالها و أوديتها و صفاء بحرها، ودفء رمال شواطئها، حيث كان يمضي صيفه مثل نورس بحري بين رمال الشاطيء وزبد الماء.

لم يختر لمغادرته أقصر الطرق المؤدية نحو الشرق، بل اختار أطولها، طريق البحر الذي أحبه إلى حد العشق، و تعمد أن يُعرِّج على المدن والمعالم التي رآها من قبل، والتي لم يرها، وتوقف مليا في كل محطة، كأنه يودع هذه الأماكن العزيزة على قلبه الوداع الأخير. فما الذي سيعود به مرة ثانية ليقف فوق أطلال قلعة "بني حماد"، و يلقي نظرة أخرى على خليج "بجاية " الساحر؟ و من أين ستواتيه فرصة سانحة ثانية، يعود فيها ليتأمل الكهوف العجيبة في الطريق الساحلي إلى "جيجل"؟

إنه يتعمد الإبطاء في سيره والتوقف ساعات طويلة، بل والتجول سيرا على قدميه في شوارع "جيجل" و "سكيكدة"، ويبيت ليلته الأخيرة من مغربها إلى فجرها في الساحة الرئيسة وسط "عنابة"، داخل سيارته الصغيرة التي حوّلها إلى مسكن، إلى جانب كونها رفيقة سـفر، عندما نزع المقعد الذي يجاوره، و طواه فوق المقعد الخلفي، ليفترش أرض السـيارة في ساعات نومه واستراحته، فهو يقدر لهذا السفر الطويل من الجزائر إلى القاهرة مدة لا تقل عن أسبوع. إنه ليس مستعجلا على شيء، ولا يريد أن يطوي الأرض طيا، بل يريد أن يسير متأملا سائحا يمعن النظر، ويلتقط الصورالتذكارية، و يقتني البطاقات التي تذكره بكل مدينة مرّ بها.

إنه الآن مع شروق الشمس يقف أمام المنفذ الحدودي في الطرف الشرقي من الجزائر، ينتظر بداية دوام موظفي الفترة الصباحية في المركز، ليحصل على تأشيرة المغادرة النهائية، التي اختارها بنفسه جريا وراء دراهم معدودة، يضيفها إلى مرتبه الشهري في أي من صحاري المشرق. ربما كان هو أول عابر يمر بهذا المعبر في ذلك الصباح، فلم تستغرق إجراءات مغادرته سوى دقائق معدودة.

عندما تهادت عجلات سيارته خارج المعبر داهمه حزن عميق، وأحـس كأنه يسير في الفراغ، أو يهوي في قرار سحيق.غمره طوفان من الحنين، وندم على قرار المغادرة النهائية الذي اتخذه، وتذكر سنواته الأربع التي أمضاها هنا بأيامها ولياليها، بكل تفاصيلها، ولاح له طيف "نورة" حورية تخرج من موج البحر، و تتمدد أمام ناظريه على رمال شاطيء "سيدي فرج"، في عينيها زرقة مياه البحر، وفي نظراتها العاتبة عمق هذا البحر.

كانا يقفزان فوق الرمال آنًا، و يغوصان في مياه البحر آنا آخر مثل نورسين بحريين، لا يكلان من مداعبة الموج المتتابع، حتى يشتبك منقراهما معـا و تغيبهما نشوة راعشة، يغسلهما بعدها زبد البحر، الذي يندفع عنيفا فيغمرالجسدين اللذين نصفهما في ماء البحر ونصفهما على رمال الشاطيء.

هل كان في وسعه أن يخبرها أنه اختار الرحيل النهائي؟ وبماذا كان سيبرر رحيله؟ بالحاجة لمزيد من النقود لإشباع الأفواه النهمة التي تنتظر تحويلاته الشهرية؟ أم يتذرع بعجزها عن إقناع أهلها بفكرة الزواج من شرقي؟ ستقول له:

 أنت لم تبذل من المحاولات ما يستحقه هذا الأمل المشترك. لقد تراجعت أمام الصدمة الأولى، و مهما تكن مبرراتك فهل كان الهروب خفية عني هو الحل؟ من قال لك أنني لم أكن مستعدة للرحيل معك لو أظهرت تعلقا و تصميما على الظفر بي؟

 كيف سيكون رد فعلها عندما تكتشف أنني قد رحلت عن دنياها إلى الأبد دونما كلمة وداع؟ هل ستقدر موقفي؟ وتفهم أنني ضحيت من أجلها، وما ارتضيت لها أن تربط مصيرها بطائر مهاجر، وأن ترحل إلى المجهول رغما عن إرادة والديها، اللذين لا يطيقان صبرا على بعادها الطويل. وأن جرحا يلتئم بعد حين أرحم لها من جرح نازف أبدا بالغربة والحنين إلى الأهل والوطن،هذا إذا لم ينقلب ندما بعد فوات الأوان.

كانت أسراب اليمام والحجل تنتشر في الفضاء مع بداية نهار جديد، وبعض الأرانب البرية تقفز هنا و هناك على جانبي الطريق في هذه الغابة الفاصلة بين المعبرين، والتي يبلغ عرضها بضعة كيلو مترات، تركت هكذا عريضة منذ أيام الاحتلال الفرنسي، لتسهل كشف المتسللين من المجاهدين عبر الحدود إبان عهد الثورة الجزائرية.

كنت أول من وصل إلى مركز الحدود في الجانب التونسي في "طبرقة"في ذلك الصباح، و تقدمت بجواز سفري نحو شباك القادمين. ألقى موظف الجوازات نظرة على تأشيرة الدخول، ثم قطب جبينه وأعاد الجواز إليّ وهو يقول:

 دخولك من "بو شبكة" وليس من هنا.

 لكن موظف التأشيرات في السفارة أكد لي أنه يمكنني الدخول من أي معبر ما دمت قد حصلت على التأشيرة، فقد راجعته مرتين للتأكد، ولولا ذلك ما جئت إلى هنا.

 لا دخل لي. لقد سجلوا على تأشيرتك: منفذ العبور" بو شبكة "وعليك العودة إليها.

 يا سيدي، الطريق طويل يبلغ عدة مئات من الكيلومترات، و قد غادرت الجزائر نهائيا، و قد يرفضون دخولي، الآن و يطالبونني بتأشيرة دخول، فمن أين أحصل عليها؟

 إنها ليست غلطتي، ولا داعي لإضاعة وقتنا في كلامك الكثير.

تناولت جواز سفري وابتعدت قليلا إلى الوراء، وأنا أحس أن الدنيا تدور بي دورانا عنيفا، و صداع يكاد أن يفجررأسي تفجيرا، و جلسـت على الأرض وقد أسندت ظهري إلى جذع شجرة محاولا أن أستجمع قواي، وأفكر في طريقة تخلصني من هذا المأزق.

مضى ما يزيد على ساعة من الوقت، و أنا في إطراقتي تحت ظلال شجرة الصنوبر الضخمة. مرّ أمامي كثير من العابرين والعابرات، كلهم من ذوي العيون الزرقاء والشعور الصفراء، أوروبيون من مختلف الجنسيات عبـروا الحدود بيسر و سهـولة، وإجراءات لم تستغرق سوى لحظات لكل منهم. و لبثت وحدي مطرقا، أسند خدي بيمناي و ظهري إلى جذع شجرة الصنوبرالعملاقة، مقابلا لشباك الجوازات، آملا أن يرق قلب المأمور لحالي، فيريحني من عناء مسيرة طولها مئات الأميال جنوبا نحو المعبرالصحراوي في"بو شبكة"، الذي خصص لأبناء الصحراء أمثالي، بينما خصص هذا المعبر الأنيق في هذه المنطقة الخضراء ليتناسب مع رقة السائحين من أبناء الشمال.

و تدافعت أمام ناظري مشاهد آلاف المجاهدين، الذين كانوا يمرون من هنا ليلا
و نهارا ذاهبين آيبين، دونما استئذان أو تأشيرات رغم الحراسات المشددة والكلاب البوليسية والأسلاك المكهربة، التي ابتدعتها فرنسا، و أحاطت بها نفسها، لتمنع تسـللهم. صحيح أن بعضهم كان يستشهد هنا مبكرا، وآخرون يسقطون جرحى أو يقعون أسرى، لكن غالبيتهم كانت تمر من هنا، أو إلى الجنوب قليلا في ناحية "ساقية سيدي يوســف" أفواجا متتابعة مثل موج البحر، ملتحقة بجبهة التحرير الوطني، معتصمة مثل النسور بقمم جبال الأوراس. كلهم مروا من أمامي و خلفوني و حيدا عاجزا عن العبور.

غاب خليل السالم عما حوله لحظات، وارتسمت في مخيلته صورة فتى صغير في بداية العقد الثاني من عمره، يعيش في قرية مجهولة في أحد أقطار المشرق العربي، ينظم أبياتا من شعر ركيك لأول مرة في حياته، ويقدمها لأستاذه، أبيات تمجد بطولة " جميلة بو حريد "، وأخرى تلهج بصمود "بنزرت"، وجلاء المستعمرين عنها. فيربت الأستاذ على كتفه مُثنيا و مشجعا، ويصحح له بعض الأخطاء النحوية والعروضية. ثم يجد نفسـه يقف ساعات طوال في طابور طويل، ليقدم طلب التأشيرة، و ينتظر أسبوعين كاملين لينالها، ثم إنه يعود مرتين إلى الشباك مستفسرا عن إمكانية الدخول من "طبرقة" إذا كان منفذ العبور المسجل غيرها، فيؤكد له الموظف أن ذلك ممكن.

ما كان يريد شيئا من إطالة طريقه سوى أن يعرج على "بنزرت"، التي تعلق بها قلبه صغيرا، فغنى لها أولى أغنياته، ليقف بها وقوف شحيحٍ ضاع في الترب خاتمه، و يمر ب "المرسى" و "حلق الواد"، ويعبر بحر الزيتون الملتف حول "خليج قابس"، لتظل هذه المشاهد حية في ذاكرته.

لم يكن خليل السالم قد شاهد أو سـمع عن فيلم "الحدود" لدريد لحام، و ربما لم يكن هذا الفيلم قد أنتج يومها، و إلا لوجد لنفسه عزاء في بطل ذلك الفيلم، وتخيل نفسه نجما سينمائيا، أو لأعانه ذلك على أن يجترح طريقة للعيش، تمكنه من البقاء عالقا بين شرقستان و غربستان. حتى مخيم "مساعد" على الحدود الليبية المصرية للمطرودين من ليبيا، ليعودوا قسرا إلى فلسطين، كان تجربة حديثة جدا، فقد كانت تجربة خليل السالم الذي علق بين الحدين سابقة لغيرها من التجارب التي اشتهر أمرها.

ارتفعت الشمس و تبخرت معها آماله في أن يرق لحاله أحد من موظفي المعبر، ولم يجد أمامه ملاذا سوى العودة من حيث أتى، واستدار بسيارته بطيئا مهموما يفكر في الموقف المقبل:

 ماذا لو رفضوا عودته ليعبر متوجها جنوبا إلى "بو شبكة" و قالوا له:

 لا بد لدخولك من تأشيرة. و من أين يحصل على التأشيرة التي لا تُمنح إلا من سفارة في عاصمة، و أنى له الوصول إلى عاصمة و هو عالق بين الحدين؟

وصل إلى المركز الذي غادره منذ قرابة ساعتين، و تقدم يائسا يجر خطاه نحو الموظف الذي ختم له تأشيرة الخروج. وعلى عكس ما توقعه من جلافة الاستقبال و رفض الدخول، فقد خيّب الموظف توقعاته هذه المرة، وقابله بابتسامة ساخرة، كأنه بطول خبرته كان ينتظر عودته، و يعلم أن هذا المعبر مخصص لأصحابه فقط.

و قبل أن يتكلم شارحا الموقف بادره الموظف قائلا:

 ردوك إلى بو شبكة؟ أليس كذلك؟

 نعم. قالها خليل السالم و هو يكاد ينفجر غيظا و همّا.

 الله غالب، ربما تصل مع الغروب. قالها الموظف وهو يتناول جواز سفره و يلغي ختم المغادرة.

انزاح جزء من الغمة عن صدره بالسماح له بالدخول. و تذكر أنه لم يترك معه شيئا من النقود المحلية وهو يغادر. فكيف سيتدبر أمره بقية هذاالنهار؟ طمأن نفسه إلى أن خزان الوقود في سيارته ممتلئ، و أنه يكفي لإيصاله إلى نقطة الحدود الجديدة إذا سارت الأمور سيرا طبيعيا، ورأى أنه لا رغبة لديه في تناول طعام أو شراب بقية هذا النهار.

انطلق بسيارته جنوبا يصعد جبلا ويهبط واديا، مرورا بمدينة "سوق أهراس"وختاما بمدينة "تبسة". لكنه لم يعد يتأمل الأماكن التي يمر بها، وما عاد يشعر بالدفء
والحنين كلما مر على وهدة أو ربوة من الأرض.

كانت الشمس قد مالت للمغيب، عندما أنهى خليل إجراءات دخوله في معبر
"بو شبكة" الصحراوي في جنوب تونس.

بعد أن اجتاز المعبر بأمتار قليلة كان هناك شاب و شابة يحمل كل منهما حقيبة على ظهره، وقد وقفاعلى قارعة الطريق يشيران بإبهاميهما إلى الأعلى، علامة الإركاب المجاني، التي خبرها كثيرا على الطرقات في بلاد الغربAuto stop، توقــف خليل بسيارته أمامهما و سألهما:

 إلى أين وجهتكما؟

 إلى أول مدينة تونسية.

 تفضلا، اركبا.

فتحا الباب وصعدا إلى المقعد الخلفي وراءه. كانا فرنسسين. سألاه و قد لمحا عليه علامات التعب والإعياء:

 هل سافرت من الجزائر العاصمة إلى هنا مباشرة دون توقف؟

 لا. وحكى لهما حكاية إعادته مـن"طبرقة "هذا الصباح.ارتسمت الدهشة والعجب على وجهيهما وهما يطالعان بعضهما بعضا ويسألان خليلا:

 هل أنت عربي؟

 نعم. و أنتما هل تأشيرتكما إلى "بو شبكة" فاضطررتما للقدوم إلى هنا؟

لم يجيبا بشيء، بل ازدادا استغرابا وحرجا، و كأنهما لا يرغبان في البوح عن منفذ العبور المحدد لهما. و أردف خليل قائلا:

 ارتبت في أمرهما، و لعبت الوساوس في رأسي، و ندمت على أنني أركبتهما معي، فقد يكونان متسللين بطريقة غير شرعية، و ماذا سيكون موقفي لو أوقفتنا دورية تفتيش، و اكتشفت أنهما لا يحملان أوراقا رسمية، و مسؤوليتي عن حملهما و نقلهما عبر الحدود. مضيت بعيدا في هواجسي إلى الحد الذي قررت فيه أن أتاكد من تأشيرتيهما، أو أنزلهما على قارعة الطريق في هذا المكان الصحراوي المنقطع، و قد بدأ الظلام يلف الأرض شيئا فشيئا. وبادرتهما من جديد و أنا أهديء من سرعة سيارتي:

 لم تخبراني عن تأشيرتكما، أي معبر حدد لكما؟

وكأنما فطنا لشكوكي وخشيتي من حمل أشخاص يعبرون الحدود بصفة غير شرعية، فأجابني الشاب:

 لقد خجلنا أن نجيبك عندما سألتنا في المرة الأولى،خجلنا أن نقول لك أننا لا نحتاج لتأشيرة دخول، ولا نحمل جوازات سـفر، و أننا ندخل بالبطاقة الشخصية فقط بينما تواجه كل هذه التعقيدات! خشينا أن يجرحك جوابنا فآثرنا الصمت، ولكنك أرغمتنا على الجواب بمعاودتك السؤال. وعلى أي حال فنحن آسفون لما أصابك هذا النهار، وآسفون لما أبلغناك به من تسهيلات دخولنا و خروجنا.

لزم خليل الصمت قرابة ساعة أخرى من الزمن، هي المدة التي انقضت حتى الوصول إلى مدينة "قفصة" أول مدينة تونسية. أوقف سيارته في منتصف البلدة، ودّعه مرافقاه الفرنسيان، وشكراه علـى الإركاب المجاني و أسفا لحاله، و لما أخبراه به من معلومات زادته انفعالا و توترا فوق ما قاساه في يومه ذاك، الذي كان أطول يوم في حياته، و تمنيا له سفرا سعيدا، و حمّلاه تحية خاصة إلى الأهرامات.

نزل من سيارته يجر قدميه جرّا، باحثا عن أول فندق يريح فيه بدنه من وعثاء السفر المضني، و مما كابده من عناء منذ فجر ذلك اليوم.

ألقى بنفسه على أول سرير في أول غرفة شاغرة، و لم يتذكر أنه لم يذق طعاما طيلة هذا النهار. لقد هدّه التعب وغط في نـوم عميق، واختلطت أحلامه الجميلة بكوابيس مفزعة.

رأى خليل السالم نفسه في المنام يجلس على كرسي خشبي صغير، في مقهى قريته البعيدة في أقاصي المشرق، يستمع إلى أغنية تنبعث من مذياع ضخم بحجم الصندوق، جاثم في الركن الشمالي الغربي للمقهى فيردد معها منتشيا:

 "بساط الريح يا بو الجناحين، مراكش فين و تونس فين"، ثم إنه يجد نفسه و قد تمدد فوق بساط الريح، الذي حلق به عاليا عاليا! حتى لم يعد يرى شيئا على الأرض. يتنازعه الخوف من أن يسقط من هذا العلو الشاهق، والخوف من أن تضيع عليه الفرصة، فلا يرى غزلان" المرسى" و"حلق الواد ". و مد رأسه على طرف البساط محاولا أن يلمح شيئا، وما شعر إلا و ثقله يغلبه على حافة البساط، فيهوي من علٍ ليرتطم بالأرض مهشما.

هبّ من نومه فزعا ليجد نفسه مُلقًى على الأرض قد سقط عن سريره.

ما بين الأقواس أسماء مدن و أماكن في الجزائر و تونس.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى