الاثنين ٢٠ شباط (فبراير) ٢٠٠٦
بقلم محمد متبولي

قرية العباقرة

لابد من إيجاد مخرج لما آلت إليه الأمور، فالقرية الصغيرة محرومة الخدمات منذ زمن بعيد، صحيح أن جميع أهل القرية يعملون بها ولا يبتعدون عن زمامها إلا للضرورة حيث السوق والمدرسة والمستوصف بقرية (الحمارية) المجاورة، لكن ذلك لا يبرر عزل القرية عن العالم الخارجي، وأن يكون اتصالها به من خلال عربات الكارو وهى وسيلة التنقل الوحيدة بينها وبين (الحمارية)، فلم يدخل القرية من الميكنة سوى جرار الحج (مرتضى) أحد أكابرها وأغنى أهلها والذى اعتاد على إعارته لأهل القرية الفقراء دون مقابل من حين إلى آخر، ولسوء أحوالها هجر القرية الصغيرة أبناءها من المتعلمين، ولم يعد يرى أهلها أحد منهم سوى كريم ابن الحج(مرتضى) فى المرات القليلة التى كان يزور فيها والده، أما الآخر رجل الأعمال المعروف (عبد الله) ابن المرحوم (شناوى) خفير العمدة يراه أهل القرية فى التلفاز عند الحج (مرتضى) أو العمدة (مأمون) أو المعلم (زكريا) صاحب قهوة القرية، فهم وحدهم من لديهم تلفاز لأنهم وحدهم من يملكون مولدا للكهرباء، ويذكر أحد أبناء القرية أن المعلم (زكريا) عندما اشترى جهاز استقبال الأقمار الصناعية (الدش) رفضت سيارة الشركة الدخول للقرية ووقفت خارجها فاضطر إلى حمله على الكارو وركب هو وفنى التركيب الكارته والكارو تسير خلفهما ليدخلوا البلد فى مشهد مهيب وكأنه (زفة عروسة) على حد تعبيره والناس من خلفه يزغرطون ويصفقون، أما التليفونات فلم يكن فى القرية سوى تليفونات الثلاثة الكبار، ومحمول (عبد المقصود) الفلاح الذى ادخر نصف أجر العام ليكلف ابن عمه المقيم بالمدينة ان يشتريه له كى يؤجره لأبناء الزمام ويسترزق من وراءه.

أما الغرباء فكان يقطن القرية منهم اثنين من مدرسى المدرسة وطبيب الوحدة الصحية والمرشد الزراعى للقرية المجاورة، فلم يكن مقبولا بين أهالي (الحمارية) سكنى الأغراب، ولم يكن بمقدورهم الإقامة بالمدينة لارتفاع تكاليف السكن والمواصلات لذلك كانت القرية الصغيرة والكارو هما الاختيار الأنسب، وقد حرم بعد المدرسة نسبة كبيرة من بنات القرية من التعليم نظرا لخوف الأهالي عليهن، كذلك حرمت ظروف القرية بنات الثلاثة الكبار من زيجات تليق بهن، علاوة على انه لم يكن باستطاعتهم إظهار النعمة التى منحهم إياها الله حرصا على مشاعر أتهل القرية الفقراء واتقاء لحسدهم فى نفس الوقت.

بدت القرية كما لو كانت طمست معالمها من على الخريطة، فنائب الدائرة كان أثناء الانتخابات يجوب القرى ويجزل الوعود البراقة عدا قريتهم فلم يكن أي من أبناءها مقيدا بالجداول الانتخابية، فحتى الوعود حرموا منها، ومع تفاقم الأوضاع قرر كل من الكبراء الثلاثة أن يتبرع بمبلغ من المال لإصلاح أحوال القرية، فاجتمعوا هم والغرباء الأربعة لمناقشة الأمر فلو وزعوا المبلغ على فقراء القرية سيسد حاجتهم ليوم أو اثنين ولكنه لن يحل المشكلة، وفى الوقت ذاته المبلغ لا يكفى لبناء مدرسة او مستوصف أو مد طريق بين القرية والقرية المجاورة او إنارة القرية أو توصيل المياه والصرف الصحى لها، (فالأمر يحتاج إلى حل عبقرى) قالها دون أن يشعر الأستاذ (عبد الحق) مدرس الرياضيات، ويبدو أنها قد فتحت الطريق أمام فكرة غريبة دارت فى ذهن الحج (مرتضى) وصادفت هوا لدى الباقين، فبعد مداولات ومشاورات اتفقوا على تخصيص جزء من المبلغ لنشر الإعلان التالى بأحد الصحف واسعة الانتشار: (مجلس حكماء قرية ميت مظلوم يعلن عن مسابقة لاختيار عبقرى يعمل مستشارا لمجلس حكماء القرية، للمخابرة يرجى الحضور لمقابلة العمدة).

يبدو أن حلم العبقرية قد داعب الكثيرين، فليس من المهم المعايير التى ستقيم على أساسها عبقريتهم أو من سيمنحهم شرف العبقرية ولكن المهم أن هناك من سيقر لهم بها، أما القرية فلم تعد هى التى لا يزورها أحد، فتوافد عليها المئات من طامحى العبقرية، لتصبح محطا لأنظار وسائل الإعلام المختلفة، ومقصدا للأفواج السياحية حيث ساعد ذلك على زيادة دخول أهل القرية من خلال تأجير جزء من منازلهم للوافدين، ولم يمنع ذلك بعض الشركات من الاستفادة بإقامة مخيمات للسياح والمترفين من الزوار حول القرية، وأدى اشتراك عدد كبير من الأجانب فى المسابقة إلى لفت أنظار شبكات الأخبار العالمية، وبطبيعة الحال كانت هذه هى الفرصة الذهبية ليظهر رجل الأعمال المرموق (عبد الله شناوى) بصورة ابن القرية البار بعد أن زارها لأول مرة منذ 20 عاما، ويرى أهل القرية نائب الدائرة ويجلس معهم ويناقش مشاكلهم، وتطأ أرضها أقدام كبار المسئولين والذين سارعوا لها ليحصلوا على نصيبهم فى الظهور على شاشات التليفزيونات العالمية، لم يخسر فى هذا المهرجان سوى (إسماعيل) سائق الكارو بعد أن أحيل هو وعربته والحمار للتقاعد بعد أن حلت محلهم السيارات الفارهة والأتوبيسات المكيفة ويشيع اسم القرية على الألسن بعد أن عرفت باسم (قرية العباقرة).

و يفاجأ الجميع بسؤال المسابقة الوحيد (كيف يمكن حل مشاكل قرية العباقرة ميت مظلوم سابقا؟) وبطبيعة الحال من بين الألوف الذين شاركوا فى المسابقة من كافة بقاع الأرض لم ينجح أحد، إلا أن حال القرية تغير كثيرا بعد هذا الحدث ف (عبد الله شناوى) تبرع لأهل القرية بالمدرسة والمستوصف، وصرف عائد البث التليفزيوني للمسابقة على إصلاح بيوت القرية وإقامة أسقف لها تحمى أهلها من مطر الشتاء وذلك بعد أن أكد نائب الدائرة انه سيتم مد كافة الخدمات ورصف طرق القرية خلال عام، ويسجل باسم القرية مسابقة سنوية ترعاها كبرى المؤسسات الخيرية والإعلامية العالمية تقوم على اختيار قرية فقيرة فى أي بقعة من العالم ومحاولة المتسابقين إيجاد حل لمشاكلها.

أما الحكماء السبعة فانقلبت أوضاعهم تماما مثلما حدث لقريتهم، فالحج (مرتضى) بعد أن أعياه المرض قام بتصفية أعماله بالقرية وانتقل للعيش مع نجله فى المدينة، والعمدة (مأمون) اضطر لبيع منزله ليتحول استراحة سياحية للأجانب واشترى منزلا على أطراف القرية قلما ما كان يزوره فيه أحد بعد خروجه من العمودية، أما المعلم (زكريا) فكان أسوأهم حظا حيث هدمت قهوته لعدم حصولها على ترخيص بعد تحول القرية إلى قرية سياحية وغادرها هو وعائلته ولم يعرف أحد عنهم شيئا بعد ذلك، وغادر الغرباء الأربعة القرية إما عائدين إلى مدنهم وقراهم الأصلية أو منقولين إلى مناطق أخرى، والغريب أن سكان القرية لم يعودوا يذكروهم أو يتذكروهم.

المدهش أن أحد الأثرياء الأجانب أهدى مجلس القرية لوحة جداريه وضعت فى مدخلها تعبيرا عن إعجابه بالفكرة وولعه بأرض الوطن، نحتها أحد اكبر المثالين في العالم تصور الجلسة التي عقدها السبعة من اجل نشر إعلان المسابقة وقد حفرت أسماءهم عليها بماء الذهب.

تمت


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى