الثلاثاء ٢١ شباط (فبراير) ٢٠٠٦
"النهار" تفتح ملف أدب الخيال العلمي في العالم العربي
بقلم جمانة حداد, زينب عساف

الأدباء تنبأوا بالصعود إلى القمر قبل قرون من حدوثه

1- مقال جمانة حداد

منطقة عذراء

حطّ سمير بنجاح في المجال الاهليلَجي واستخدم المقوم الفلزيّ على الفور ليرصد كيف يتم الاستقلاب لدى الحزازية المنبطحة، لكنه لاحظ أن الطلاء التجزيعي بدأ في التشقق على سطح المرقشيت قربه، ورأى فجأة فريش اللابة يزحف نحوه...

اطمئنوا، هذا ليس تخريفا ولا هو اختراع لكلمات غير موجودة، ولم افقد صوابي: إنها كلمات "روتينية" داخل جملة من المحتمل أن نصادفها على صفحات رواية من الخيال العلمي مكتوبة بالعربية. نقرأ هذه الجملة الافتراضية ونسأل: لماذا يكاد ينعدم في إنتاج أدبنا العربي النوع المسمّى أدب الخيال العلمي؟ سؤال لطالما طرحته على نفسي، منذ قراءاتي أيام الطفولة، ورأينا أن نطرحه اليوم على عدد من الروائيين العرب، ومعظمهم من الشباب، لعلنا نتوصل الى جواب شاف. لكن قلة قليلة اقتربت من فكرة الجواب، ولم يضع احد تقريبا الاصبع على الجرح.

معظم الردود ارجعت السبب الى بطء التقدم العلمي في البلدان العربية، ومجتمعاتنا ذات التكوين غير التكنولوجي. لكن عندما كتب جول فيرن عن استكشاف الفضاء، فعل ذلك في عصر بعيد عن الصواريخ والنازا وغزوات الكواكب. وبين "رحلة" سيرانو دو برجوراك الى القمر في روايته الشهيرة (1657)، والرحلة الفعلية التي تحققت عام 1969، ثمة نحو 300 عام. فأي عذر هو عذر غياب "المناخ"؟ ومتى كان المناخ المؤاتي هو المنتج، في وجود عنصر كلي القدرة اسمه الخيال؟ زد على ذلك أن تاريخ العلوم عند العرب يظهر لنا كم كان العرب روادا في كل الميادين العلمية، وكم كانوا خلاّقين في الرياضيات وعلم الفلك والكيمياء الى آخره... فلِمَ الغربة إذا بين هذه الخلفية الحقيقية جدا، والكتابة الأدبية؟ هل نعاني شحاً في الخيال؟ لا، لا يمكن ثقافة انتجت روائع من ثمار الخيال ان تزعم ذلك. ما العذر إذاً؟ هل لأننا نفضل ان نروي قصصا "قابلة" للتصديق؟ أم لأننا رازحون تحت اثقال الواقع حدّ أن من الصعب علينا التفلت منها وتجاوزها؟

الإجابة الاكثر منطقية في رأيي، او احد اقتراحات الاجابة، ان اللغة العربية ليست "ودودة" ولا متآلفة ولا متصالحة مع لغة العلوم، ومن الأدلة الجملة التعجيزية التي افتتحتُ بها مقالي. أليس صحيحا ان معظمنا، ما عدا في بعض البلدان، تلقّى دروسه في المواد العلمية، كالبيولوجيا والرياضيات والفيزياء، في لغات اخرى غير العربية، كالفرنسية او الانكليزية، حدّ حصول شرخ تربوي بين الفكر العلمي واللغة العربية؟ أليس صحيحا أيضاً ان معظم المفردات العلمية الجديدة التي استحدثت في العربية على مر الزمن، "ثقيلة الدم"، ولم نتآلف معها، ونادرا ما نستخدمها؟ خلال دروس الترجمة العلمية التي تابعتُها في إطار دبلوم الدراسات المعمّقة في الترجمة، أذكر أني كنت أفتح معجم المصطلحات العلمية في العربية واكاد أشعر اني في كوكب آخر: تغويز، ملدّن، نبّاذة، فلطائيّ، مدلفنة، تيْكوبراهي، قوصرة، طفّة، ثرميوني، وهكذا دواليك. وسأعفيكم من المزيد.

اليوم، تفسح الصفحة الثقافية في "النهار" أمام الكتّاب الراغبين في خوض مجال أدب الخيال العلمي لكي يرسلوا نصوصهم على الايميل ادناه او بالبريد العادي، على أن يتم نشر النصوص الخلاقة والمميزة في الصفحة تباعا، أملا في التحفيز على إنتاج هذا النوع الأدبي والمساهمة في انتشاره وارساء تقاليده في آداب عالمنا العربي. لِمَ لا؟ الأكيد أننا لا نفتقر الى الخيال، وبالتأكيد لا نفتقر الى المواهب العلمية، وخير دليل على ذلك العدد الهائل من الباحثين العلميين العرب، البارعين والسباقين الى الاكتشافات والاختراعات، منذ ما قبل حسن كامل الصبّاح وصولا الى ما بعد أحمد زويل ومحمد البرادعي، ولكن... من الصعب أن يكون هناك مستقبل لأدب الخيال العلمي ما دام هناك اغتراب بين المفردات العلمية واللغة العربية (أعني هذه التي نعرفها ونفهمها ونستخدمها، لا تلك الهيولية المستحيلة التي نادرا ما تغادر صفحات المعاجم). قد يكون الحل تعريب التعليم العلمي كما يقترح البعض، وقد يكون مزيدا من التقارب بين العلم والأدب، وهذه منطقة شبه عذراء في ثقافتنا العربية. ألم يقل نابوكوف إن "العلم والأدب زوجان خائنان، ولكن لا شيء في العالم يفوقهما جمالا عندما يتفقان"؟
لنجرّب أن نصدّقه.

2- مقال زينب عساف

أدب الخيال العلمي: لماذا لا "يتسلى" الكتّاب العرب؟

الأدب يجرّ العلوم. كم سيداعب هذا القول نرجسية الأدب والأدباء! من يعترف للكاتب الفرنسي جول فيرن مثلاً، ببراءة اختراعه للغوّاصة النووية في كتابه "20 ألف فرسخ تحت سطح البحر"، أو للبريطاني هربرت جورج ويلز بأنه أول من اكتشف الطاقة الذرية، واتهامه، تالياً، بأنه وراء مقتل ملايين البشر في هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين؟ وهل سيطالب الروسي قسطنطين تشايكوفسكي بحصته من أرباح المصعد الفضائي الذي تنبأ به، من شركة أنظمة المصاعد العالية التي تقوم حالياً بتطويره في سياتل؟ مخترعون من دون براءات اختراع، هكذا هم أدباء الخيال العلمي. يمزّقون حدود الفيزياء والبيولوجيا، تاركين للعلم أن يحلم.

في ما يمكن وصفه بالنكتة العلمية، قال باحثون أميركيون أخيراً "إن الله يتسلى بالرياضيات". هل من التجديف إضافة: والكتّاب أيضاً؟ وعليه، أليس واجباً التساؤل: لماذا لا يتسلّى الكتّاب العرب يا ترى؟ هل لغياب الاختراعات الحديثة عن المجتمعات العربية دور في ذلك؟ هل تحوي اللغة العربية مصطلحات تقنية ضرورية في نوع كهذا من الأدب؟ وفي الأساس: ماذا يعني مفهوم الخيال، وأيّ خيال يرفد الروايات العربية؟

الخيال في معناه العام هو قدرة العقل البشري على الخلق، وقد يكون هذا هو السبب الرئيسي في الموقف الذي اتخذه المسلمون الأوائل من الخيال، لأن قدرة الخلق بحسب الفهم الديني الضيّق محصورة بالله وحده. على هذا النحو يعرّف الروائي المغربي حميد لشهاب مفهوم الخيال، رابطاً إياه بالفهم الخاص للعرب المسلمين، وموقف الإسلام من الشعراء. هذه العلاقة المتجاذبة بين العرب والخيال، يشرحها لشهاب كالآتي: "يمكن القول إن الفهم السلبي لمفهوم الخيال حاضر في الثقافة العربية في جانبها المسلم. لكن هناك جانب إيجابي هائل يظهر في إنتاجات عرب ما قبل الإسلام، أي ما يسمّى عصر الجاهلية، والكثير من الشعراء والأدباء في العصر الذهبي العربي سواء في الشرق أو في الغرب". ويبدو الكاتب الفلسطيني علاء حليحل أكثر تشاؤماً إذ يقول: "نحن نعيش في عالم عربي وفاضه الخيالي خاوٍ"، معتبراً أن الخيال عند العرب هو قوتهم وطامتهم في وقت واحد. فقوة الخيال العربي المجنّح في البوادي الشاسعة وفي تأويل ما لا يُرى عبر مدّ النظر اللامتناهي، تحوّلت إلى سعي حثيث نحو تبديل الواقع الصعب بواقع جديد مشتهى، يقوم وينتهي في شاشات التلفزيون وفي أحاديث استرجاع الماضي والتأشير إليه بإشارات ملؤها "يا ليت" و"يا ترى". لذلك، لا يعمل الخيال العربي اليوم، في رأي حليحل، إلا في وصف ما هو مطلوب، بعدما توقف عن كونه محفزًا للخلق والتميز والاستكشاف. ويضيف حليحل إلى "التكبيل" الديني الذي ذكره لشهاب دور الأنظمة العربية والنظم الاجتماعية التي تحارب الخيال، في سعي منها لتطبيع العقل العربي ضمن قوالب محدودة.

تربط الروائية اللبنانية علوية صبح غياب الخيال العلمي عن الأدب العربي بمسألة الإنتاج، فالخيال العلمي هو "ابن مجتمعه التكنولوجي المتطور، ولا يمكن فصل الأدب عن حركة مجتمعه وبيئته ولا يمكن استيراد متخيَّل من الآخرين. للأسف، المتخيَّل الروائي العربي ديني وغيبي ودموي، ولا يزال الأدب في طور استعارة التقنيات الروائية الغربية"، والدليل على ذلك أن التجارب العربية الأولى في هذا الإطار، جاءت في مرحلة الإنتاج المعرفي والثقافي العربي، لا في مرحلة الإستهلاك الحالية والنظر إلى الغرب كمثال خلاّق وحيد.
القاصّة الكويتية بثينة العيسى تنحو منحى آخر في التعريف: "لو أنصتنا إلى المفردة متجرّدين من أي معرفة مسبقة بمعناها، سيذكّرنا جرس الحروف بمفردة "خيّال" أو "خيل"، ما يثير فينا الإحساس بنوع من الجموح والجنوح صوب أفق ما. أعتقد أن الخيال هو القدرة على مغادرة قفص الراهن إلى أفق أكثر اتساعاً وتمرداً على القوالب".
وتشير الروائية المصرية صفاء النجار إلى أن الخيال العربي يميل في خلقه إلى الفانتازيا المصوّرة لعوالم الجن والعفاريت والقدرات غير الطبيعية، كما في "ألف ليلة وليلة" والأساطير والحكايات الشعبية المنتشرة في العالم العربي، التي تحفل بكل ما هو غريب، من دون أن تنتمي إلى الخيال العلمي المنضبط، في حين تقترب قصة "حي بن يقظان" لابن طفيل من مفهوم الأدب العلمي الحديث.

هذه الفانتازيا، لاسيما التي تحفل بها "ألف ليلة وليلة" لا تزال تمتد آثارها إلى الفنون المعاصرة، ليس فقط عربياً بل عالمياً، على ما تقول الكاتبة الأردنية سميحة خريس، في حين يختصر الروائي الليبي محمد الأصفر الخيال بـ"الشطح"، أو باستدعاء حالات شعورية لا يمكن القبض عليها في حالة الوعي. لذا، نجد الخيال في الشعر أقوى من الرواية، لالتصاق السرد أكثر بالواقع والتاريخ. ويصف الأصفر الخيال العربي بالصوفي، لاقتراب نصوصه من الشعر ولامتزاجه بالميثولوجيا والحالات الشعورية غير المحسوسة، كما في روايات ابرهيم الكوني وبعض روايات جمال الغيطاني.

يبدو من الصعب تحديد مفهوم الخيال عند العرب بالمعنى الذي يجعله يقترب من المفهوم الغربي الشاسع، بحسب الروائية الجزائرية فضيلة الفاروق، التي تعتبر أن خيال الجن والشياطين لا يزال جزءاً من الحياة اليومية لدى العامة ولم يدخل بعد باب الخيال. لذلك يتمثّل الخيال العربي في المبالغات التي يدسّها الشاعر في شعره فحسب، ويظل مرتبطا باللفظ. وإذ تشير الفاروق إلى "ألف ليلة وليلة" أو تصوّرات أبي العلاء المعرّي للآخرة وروّاد النار والجنة، بأنها الموروث العربي الوحيد الذي جنح بخيالات الراوي إلى ما هو غير واقعي تماماً، تقول إن هذا الخيال ظل محدوداً فلم يتناول الميادين المتطورة، ولم يطل تطوّر الآلة مثلاً، أو يطرق باب الكون الخارجي وعالم الكواكب، ولم يعطِ وجهات نظر حول إمكانات الطب المستقبلية.

حرب النجوم

لا تختلف تعريفات الخيال العلمي عن الخيال بشكل عام إلا في كونه يخضع لقواعد معينة، إذ يقوم على فرضيات علمية مدروسة يمكن تحقيقها، كما أنه يعدّ مرآة تعكس أحدث الإنجازات العلمية، وتزوّد العلم أفكاراً يمكن استثمارها وتحويلها ابتكارات واكتشافات جديدة. هكذا يمكننا أن نفهم كيف دخلت مفردات مثل "أطلق الطاقة" إلى قاموس العامة، بعدما رسّخها مسلسل "الرحلات الفضائية" الذي تابعه عشرات الملايين من المشاهدين في الستينات أثناء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. أو كيف استفاد عالم الفيزياء الأميركي المجري المولد ليو زيلارد من رواية "العالم تحرر" للبريطاني هربرت جورج ويلز الصادرة في العام 1914، مؤسساً على تنبوءاته باكتشاف الطاقة الذرية وتحررها والاشعاع الصناعي وتطور القنابل الذرية، معادلات نظرية، كانت الأساس في مشروع مانهاتن الأميركي لتصنيع القنبلة الذرية في العام 1945. أو كيف أطلق الرئيس رونالد ريغان على برنامجه اسم "حرب النجوم" بعد ظهور الفيلم الشهير لجورج لوكاس بست سنوات. ولا يسعنا أيضاً إلا ذكر ما تردد في شأن تمويل وكالة الفضاء الأميركية سراً فيلم "أوديسه الفضاء" للمخرج ستانلي كوبريك بغية إثارة حماسة الرأي العام لرحلاتها القمرية "أبولو". لكن هذا لا يعني أن أدب الخيال العلمي محصور في غزو الفضاء فقط، بل ثمة أنواع مختلفة منه مثل:

غرباء بيننا، وهو عالم الفضائيين الذين يزورون الأرض، وأبرز الأمثلة عليه فيلم "حرب النجوم" لجورج لوكاس.
التاريخ البديل، ويقوم على فرضيات تاريخية كسؤال: ماذا لو لم يغزُ هتلر روسيا؟

العوالم البديلة، وهي الكواكب الأخرى المأهولة بالسكان.
الانتقال الجزيئي، ويكون عبر الزمان أو المكان من طريق دخول الشخص إلى آلة.

السايبربانك، وهو عالم المتسللين إلى الأنظمة والكومبيوترات كفيلم "ذا ماتريكس".

اليوتوبيا، أو بناء مدينة فاضلة.
البحث عن الخلود، ويكون بأشكال متعددة كالإحياء الموقت، كما في روايات مصاصي الدماء أو "فرنكشتاين".

ويبقى النوع الأكثر صرامة، والذي أعطى الخيال العلمي قدراته التنبوئية وهو ما يعرف بـ"الخيال العلمي الصعب"، لأنه يرتبط بنظريات وقوانين علمية بدقة فائقة، ويتطلّب من الكاتب أن يكون عالماً متخصصاً. على أي حال، ليست هذه التصنيفات ثابتة أو ملزمة بالطبع، إذ ثمة أعمال تجمع أكثر من نوع في وقت واحد.

كتّاب علماء

إذا كان أدب الخيال العلمي قد شهد ولادته الفعلية على يد فيرن، وتحديداً في عمله الأول "خمسة أسابيع في منطاد" الصادر في العام 1863 في فرنسا، فإن جذوره الأولى تضرب عميقاً في أساطير المجتمعات القديمة، التي لم تكن مجرد خيالات وأوهام قصصية، قدر ما كانت محاولات جادة لتفسير ظواهر الحياة والطبيعة والكون وقياسها. هكذا يجد هذا الخيال العلمي إرهاصاته الأولى المبكّرة في الأدب العربي منذ القرن الثاني عشر، مع أبو بكر محمد بن طفيل الذي كتب رواية "حي بن يقظان"، التي سبقت "روبنسون كروزو" لدانيال ديفو بقرون. وقبله المسعودي في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، حيث تحدّث عن الإسكندر الذي سعى إلى اكتشاف قاع البحر، أو القزويني الذي روى بكثير من التفصيل حكاية عوج بن عنفق الآتي من كوكب آخر غير الأرض. كذلك الفارابي الذي كتب "آراء أهل المدينة الفاضلة" عن دولة مثلى تحقق السعادة لشعبها، سابقاً الإنكليزي توماس مور في مؤلفه "يوتوبيا".

الملاحظة الأولى التي يمكن سوقها في هذا الإطار، أن هذه المؤلفات جاءت في عصور كان فيها الكتّاب العرب يتمتعون بثقافة موسوعية شاملة، فابن طفيل المراكشي مثلاً كان طبيباً وفلكياً، والفارابي كان فيلسوفاً. وعلى هذا النحو ربما يمكن تفسير القطيعة الحالية بين الأدب العربي والعلوم. قطيعة تردّها الروائية صفاء النجار إلى غياب الذهنية العلمية المنظمة والجهد والمثابرة لدى الكتّاب، بسبب وجود خطأ منهجي في تربية النشء العربي، "في مدارسنا ثمة فصل تعسفي لمناهج الدراسة بين مواد أدبية وأخرى علمية ولا يوجد مزج بين الاثنتين". في حين يرد حليحل ذلك إلى كون المجتمعات العربية مجتمعات مستهلكة للتقنيات برمتها، "نحن لا ننتج أي تقنية تُذكر، بل تأتينا جاهزة طيّعة. ونحن بذلك نستمر في التعامل معها على أنها تقنيات وظيفية استهلاكية يجب (ولا تقدر على) ألا تغيّر من مفاهيمنا الخلاّقة شيئًا يُذكر. الغربي والصيني والياباني يُبدع ويصنع هذه التقنيات وهي جزء من عمله وتفكيره ونمط حياته. التقنيات عند هذه الشعوب هي فخر الصناعة الوطنية، لذلك فإن التعامل معها عميق وضارب في التعقيد". وفي هذا الإطار تقول بثينة العيسى: "معرفتنا بالتقنيات الحديثة لا تتجاوز معرفتنا بـ"ماذا يفعل هذا الزر"، ليس ثمة رغبة أو حتى قدرة على اكتشاف العمق الحقيقي للتكنولوجيا".

يخالف الأصفر النجار الرأي حين يقول إن أدباء كثيرين يحملون إجازات جامعية في الطب والفيزياء والكيمياء والجغرافيا ولم ينتجوا هذا الأدب الخيالي العلمي. "كلهم يحبون ويتزوجون ويتغنّون بالمنفى ولا يعودون، لكنهم يقرضون الشعر والمتنبي ماثل أمامهم". تردّ فضيلة الفاروق السبب إلى انتفاء الرفاهية التي تجعل العرب يفكرون في قهر الأمراض وغزو الكواكب واختراع الأدوية والتحول كائنات لا مرئية والسفر عبر الزمن، مختصرةً التفكير العربي بمنظومة بسيطة تتكون من ثلاث نقاط: الخبز، الجنس، الحياة. أما لشهاب فيتحدّث عن تقنيات أخرى غير الأدوات الاستهلاكية المادية التي ينغمس فيها المجتمع العربي حتى النخاع الشوكي، وهي تقنيات الإنتاج الأدبي، مضيفاً أن كليات الآداب تكرّس حصصاً تدريبية للأدب المعاصر، تُدرّس فيها أعلام الأدب الغربي المعاصر. وهذا يعني أن هناك محاولة لاكتساب تقنيات الأدب المعاصر في الجامعات العربية. إلى جانب هذا، يشير لشهاب إلى وجود الكثير من الطلبة العرب الذين استقروا في البلدان الأوروبية ودرسوا الآداب في جامعاتها وتمكّن الكثير منهم من تقنياتها، إلى الجيل الثاني والثالث للمهاجرين العرب الذي شب وترعرع وتعلّم هناك. وهؤلاء متمكنون من تقنيات الأدب المعاصر وإن كتبوا بلغات أوروبية.

"هاري بوتر" عربي؟

لكن ماذا عن اللغة العربية؟ هل هناك ما يكفي من المصطلحات فيها لكتابة هذا النوع من الأدب؟ تعتبر خريس أن على الكاتب استنباط لغته، لأنه أكثر الناس قدرة على اجتراح المصطلح.

والمصطلح الوافد من وعاء الأدب يمكن بسهولة أن يتم تبنّيه في مجال العلوم، مذكّرةً بمصطلحات حاولت مجامع اللغة العربية أن تفرضها على الأدب بدعوى أنها مصطلحات علمية تتعلق بمستجدات في هذا العصر، مثل الرائي والهاتف. بعض هذه المصطلحات تقبلته الذائقة العامة وبعضه الآخر لم يتمكن من اجتياز الامتحان. وفي رأي خريس أن اللغة ليست مقدسة إلى حد الانغلاق، والعربية بالتحديد عرفت في كل العصور مرونة أدخلت عليها كلمات أعجمية. ويبدو أن ذلك محلّ إجماع للكتّاب. فالنجار تصف اللغة بأنها أداة تتطور من طريق الاستخدام، وإذا وجد من يتصدى لكتابة الخيال العلمي، فلن تكون هذه الكتابة عائقاً، لأنه تم تعريب عدد كبير من المصطلحات الحديثة كالاستنساخ وغزو الفضاء. وفي حين لا تعتبر العيسى استخدام ألفاظ مثل "تلفزيون" خيانة للغة العربية، يشير الأصفر إلى إمكان اللجو ء إلى الاختصار، مضيفاً أن الإنسان يستخدم الصورة، أي يعتمد على البصر أكثر من الكلام في الوقت الراهن.

لا يختلف رأي لشهاب عن الآراء السابقة حين يقول إن اللغة العربية مطاطة، وغنية، يمكنها أن تساير عصرها إذا رجع الفرد إلى أصولها. "من الطبيعي أن تتبنى العربية بعض المصطلحات الحديثة، وتدمجها في نسيج قاموسها إذا لم يتوافر فيها مصطلح رديف، ويدخل هذا في إطار تجديدها. لأن اللغة التي لا تتجدد تموت". ويرى حليحل أن هذا المعوق اللغوي هو الأقل أهمية، وفي اللحظة التي يفطن فيها العرب إلى هذه التقنيات ويسخّرونها بطريقة خلاّقة، يصبح من الجدير والمجدي التعامل مع قضية التسميات اللغوية. من جهتها تذهب الفاروق إلى أننا نستعمل مصطلحات الغرب لأنه هو صاحب الاختراعات التي يسوّقها لنا، مشيرة إلى مشكلة تعريب بعض المصطلحات، لأن هذا التعريب يأتي بطريقة تبعدها تماما عن الأصل الغربي.

ما تقدّم لا يعني أن أدب الخيال العلمي غائب تماماً عن اللغة العربية، بل أن عدداً كبيراً من التجارب بدأ منذ الخمسينات، وإن لم يكن نال صدى واسعاً. التجارب الأولى كانت مصرية، مع توفيق الحكيم الذي جرّب عملين هما "في سنة مليون" (1953) و"رحلة إلى الغد" (1958)، بينما شهدت الستينات بروز أدباء مختصين في هذا النوع من الأدب مثل مصطفى محمود الذي كتب "العنكبوت" (1964)، ونهاد شريف صاحب "قاهر الزمن" (1966)، إلى 6 روايات أخرى ودراسات متخصصة، تلتها تجارب أخرى للمغربي محمد الحبابي الذي كتب "إكسير الحياة" (1974)، وللسوري طالب عمران في "العابرون خلف الشمس" (1987) و4 روايات أخرى، والكويتية طيبة الإبرهيم التي أصدرت "الرجل المتعدد" و"الإنسان الباهت" في العام 1991.
هذه التجارب لا تزال مستمرة حتى اليوم مع كتّاب شبان، مثل المصري محمد العشري، وهو عالم جيولوجي أصدر في العام 2002 رواية "هالة النور"، والمغربي إدريس اللياني، والسعودي أشرف فقيه الذي أصدر مجموعته الأولى "صائد الأشباح" في العام 1997، و"حنيناً إلى النجوم" في العام 2000.

يردّ العشري، الذي أوجد في إحدى رواياته كوكبا عاشرا جديدا يضاف الى المجموعة الشمسية، عدم انتشار روايات الخيال العلمي في الأدب العربي إلى حال التخلف العلمي الذي نعيشه. ويقول العالم المصري أحمد زويل، الحائز جائزة نوبل في الفيزياء إن "حياتنا العلمية فقيرة للغاية، وتقترب من الصفر، فالموارد المالية التي تخصص للمعاهد والمراكز العلمية على مستوى الوطن العربي، أقل مما يقدم الى معهد واحد أو جامعة واحدة في إسرائيل على سبيل المثال".

الشعور بالإحباط جرّاء استخفاف القرّاء ودور النشر بهذا النوع من الأدب، هو ما جعل فقيه يتوقف عن الكتابة، رغم أنه يعتمد أفكاراً علمية في كتابته، على غرار المؤلفات الأميركية، وكان قد تناول الاستنساخ في أحد أعماله قبل شيوع تجربة النعجة دوللي، لأن الفكرة كانت مطروحة أدبياً منذ فترة.

على أي حال، ورغم عدم شيوع هذا الأدب في العالم العربي، إلا أن الخيال العلمي يشق دربه بطريقة أو بأخرى إلى أعمال حالية، فالكاتبة صفاء النجار مثلاً، تناولت في روايتها "استقالة ملك الموت" مسألة استنساخ الإنسان، وتدور حوادثها في عقل جدة تنتظر حفيدتها العائدة من الخارج ومعها طفلة مستنسخة منها. وتقول النجار انها مهّدت بهذه الرواية للأسباب الاجتماعية التي تجعل شابة تقدم على استنساخ نفسها، وستكمل في رواية لاحقة مستقبل الطفلة المستنسخة وعلاقتها بالمجتمع والمحيطين بها.

للتذكير فقط، إن رواية كـ "هاري بوتر" للبريطانية جوان كاتلين رولينغ تُرجمت بأجزائها السبعة إلى 62 لغة عالمية، ووصلت مبيعات خمسة أجزاء منها إلى نحو 275 مليون نسخة. يقول البعض ان انطلاق الخيال العلمي العربي يعوقه غياب الديموقراطية عن الأنظمة. على ذلك، هل من حقنا أن ننتظر "هاري بوتر" الخاص بنا من العراق "المحرّر" مثلاً؟

كرونولوجيا الخيال العلمي

القرن 17: رواية "رحلة على القمر" للفرنسي سيرانو دو برجوراك.

1726: "رحلات جيلفر" للبريطاني جوناثان سويفت.

1863: "خمسة أسابيع في منطاد" للفرنسي جول فيرن.

1865: "من الأرض إلى القمر" للفرنسي جول فيرن.

1870: "عشرون ألف فرسخ تحت سطح البحر" للفرنسي جول فيرن.

1895: "آلة الزمن" للبريطاني هربرت جورج ويلز.

1897: "الرجل الخفي" للبريطاني هربرت جورج ويلز.

1898: "حرب العوالم" للبريطاني هربرت جورج ويلز.

1925: "المهندس غارين" للروسي ألكسي نيكولايفتش تولستوي.

1932: "عالم طريف" للأميركي ألدوس هاكسلي.

1950: "روبوت 1" للأميركي الروسي اسحق عظيموف.

1961: فيلم "آلة الزمن" للأميركي جورج بال.

1968: فيلم "2001 أوديسه الفضاء" للأميركي ستانلي كوبريك.

1977: فيلم "حرب النجوم" للأميركي جورج لوكاس.

1999: رواية "هاري بوتر" للبريطانية جوان كاتلين رولينغ.

عن الصفحة الثقافية في "النهار" – 20 / 2 / 2006


مشاركة منتدى

  • لقد قمت بكتابة مجموعتين قصصيتين في ادب الخيال العلمي ومنز تسعينات القرن الماضي.وللاسف تم تجالهما تماما.لقد انبهرت بالدراسة المنشورةوالمستوى الرفيع من العرض والتحليل.ارجو اعلامي ان كنتمما زلتم مهتمين بالاطلاع على نمازج من عملي.واقبلوا فائق الاحترام
    مهند النابلسي
    عضو في رابطة الكتاب الاردنيين وكتاب الانترنت العرب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى